أخبار اليوم - لم يكن هذا مقطعاً من فيلم، ولا مشهداً مكتوباً بعناية في نص درامي. كان لحظةً واقعية التقطتها عدسة هاتف، ونقلتها آلاف الشاشات، لتتحول إلى صورةٍ أقرب للخيال، وأقسى من أن تُروى دون أن يرتعش شيء في القلب.
فلسطيني يقف أمام منزله في غزة، يقف شامخاً وسط الركام الذي لم يسقط بعد، ينظر إلى السماء، لا لأنه ينتظر شيئاً، بل لأنه تعوّد أن تأتيه الضربات من هناك.
على الطرف الآخر من الخط، جندي إسرائيلي، صوته يأتي مشوّشاً، بارداً كزرّ التشغيل في غرفةٍ بلا روح. يخبره أن الصاروخ في الطريق، أن أمامه نصف دقيقة، نصف دقيقة فقط.
لكن الفلسطيني، وفي لحظة لا يمكن تمثيلها، لا يسأل: لماذا؟ ولا يصرخ: لا تفعل.
بل يقول: «سَمِّ بالله، واكبس».
صوته فيه تحد وإصرار على الحياة، وكأنه يريد أن يُدخل حتى آلة الموت في قدسية الاسم. وكأنه، في لحظة فائقة الصفاء، أراد للجندي ألا يكون قاتلاً بلا دعاء، ألا يضغط الزر كمَن يُطفئ ضوء الغرفة، بل أن يعرف أنه يضغط على ذاكرة، على صورة أمّ في المطبخ، على طفولة نائمة في حضن دمية.
يرد الجندي، وهو يتنفس من رئتين اصطناعيتين:
«نصف دقيقة وينزل».. لكنه لا يُكمل. فالمكان ينفجر.
لا نعرف إن كان الفلسطيني ما زال هناك. لا نعرف إن كان الجندي أكمل خدمته وذهب ليرى فيلماً تلك الليلة، أو جلس مع أطفاله.
لكن ما نعرفه، هو أن الكلمات اختنقت قبل أن تنتهي. أن الحكاية انفجرت، قبل أن تختار كيف تنتهي. في عالمٍ يحترف محو المشاعر، جاء هذا المشهد ليُعيد تعريف المعنى.
كان يجب أن يكون مشهداً من فيلم، مشهداً بديعاً تعقبه موسيقى حزينة، ولقطة لسماء رمادية. لكن لا.. كان هذا واقعاً، واقعًا من لحمٍ ودم، ومن صمتٍ ثقيل، ومن ذاكرة كانت هناك، وماتت قبل أن تُروى.
هل رأيت يوماً أحداً يودع بيته بعبارة «سَمِّ بالله»؟
هل سمعت أحداً يدعو قاتله لذكر الله، لا ليهرب، بل ليستقبل الصاروخ بوجهٍ مكشوف؟
لا تسأل عن النهاية، فهي واضحة كالفجر: انتهت الحكاية، وانتهت الذكرى، وبقيت ثلاث كلمات: «سَمِّ بالله، اكبس».
إنها ترتيلة النهاية، أو بداية، بداية لسؤال لا أحد يجرؤ على طرحه.
غزة: حيث يكبر الأطفال على حافة القبر
في غزة، لا يلعب الأطفال لعبة «الغميضة»، كما يفعل أقرانهم في العالم، بل يختبئون من طائرات تعرف وجوههم، ويعدّون أنفاسهم لا ليمرحوا، بل ليتأكدوا أن الصاروخ لم يسقط بعد.
في غزة، لا تُطفأ الأنوار ليحلم الصغار، بل ليبدأ الليل فصلاً جديداً من الكوابيس، كأن الظلام صار موعداً يومياً مع الرعب، لا راحة فيه ولا نجاة. هكذا أعلن مركز التدريب الفلسطيني أرقاماً ليست فقط مرعبة، بل تكاد تكون خارجة عن حدود اللغة. 96 في المئة من أطفال غزة يشعرون باقتراب الموت. هذه ليست مبالغة، بل شهادة حيّة من جيل لم يُمهل ليعيش، بل فقط ليراقب كيف تُغتال الطفولة تحت الركام، كيف تتحول الدمى إلى شظايا، والبيوت إلى قبور مؤقتة.
الأطفال هناك لا يسألون: «متى نعود إلى المدرسة؟» بل: «متى نموت؟»
عندما يصبح الخوف هو الرفيق الوحيد في سنوات التكوين، لا تعود النفس كما كانت. 73 في المئة من أطفال غزة تغيّر سلوكهم كلياً. صاروا عدوانيين، صامتين، أو باهتين، كأنهم وُلدوا وهم شيوخ.
في غزة، العدوانية ليست خياراً، بل آلية دفاع. طفل صغير يضرب رأسه بالحائط، لا لأنه غاضب، بل لأنه لا يجد وسيلة ليصرخ. طفلة تمزق صورها، لا لأنها تكره ملامحها، بل لأنها تخاف أن تراها في خبر استشهادها المقبل. لكن الأدهى من ذلك كله، تلك الأمنية التي لا تُقال إلا في أكثر حالات اليأس. 49 في المئة من أطفال غزة تمنوا الموت. نصف جيل كامل يريد أن يرحل، لا لأنه تعب فقط، بل لأنه فهم، قبل أوانه، أن هذه الحياة ليست له.
أيّ مكان هذا الذي يجعل من الموت أمنية؟
أيّ زمن هذا الذي يخاطب فيه الطفل ربه قائلاً: «يا رب، خذني…»؟! حتى الليل، الذي كان يوماً صديق الحكايات، صار فخاً. الطفل يغمض عينيه ليهرب، فيجد الموت يطارده في الحلم، كما يطارده في اليقظة. الكوابيس في غزة ليست رمزية، بل دقيقة، حقيقية، متكررة. ينام الطفل على وقع قصف، ويحلم بأمّه تُنتَشل من تحت الحجارة، ثم يصحو ليكتشف أن الحلم لم يكن إلا نبوءة. اضطرابات النوم صارت قاعدة لا استثناء، كأن الطفولة نفسها قررت أن تنأى بنفسها عن هذا المكان. كيف تنام براحة، حين يكون الحائط الذي تستند إليه هشاً، والمبنى الذي يأويك هدفاً، وأمّك نائمة بين دمعتين؟
هل العالم يسمع؟ ربما، لكنه لا يصغي.
18 ألف طفل قُتلوا برصاص الاحتلال، بلا ذنب، بلا محاكمة، بلا محام يدافع عنهم سوى تراب الأرض، الذي احتضن أجسادهم الصغيرة. 238 رضيعاً لم يعرفوا طعم الحليب، فقط عرفوا حليب الخوف.
853 آخرون استشهدوا في عامهم الأول، قبل أن ينطقوا «ماما» كاملة.
حتى من نجا من القصف، لم ينجُ من الحصار. الجوع هناك ليس مجرد ألم، بل موت بطيء. 44 طفلاً ماتوا جوعاً، لا لأن الغذاء غير موجود في هذا العالم، بل لأنه مُنع عنهم عمداً. الاستهداف ممنهج. الأطفال في غزة ليسوا أضراراً جانبية، بل أهداف محسوبة في خرائط الحرب. كل شهيد صغير هو رسالة صامتة من عالم فقد ضميره، أو قرر أن يضعه في درجٍ مغلق، إلى حين.
غزة، حيث لا يكبر الطفل كما يكبر الآخرون، بل يتآكل، يذبل، يتقلص داخلياً حتى يخبو. في غزة، لا يُسأل الطفل عن حلمه، بل عن آخر مرة رأى فيها السماء زرقاء، أو ضحك من قلبه. هذه ليست أرقاماً في تقرير، هذه صرخات مكتومة، أنفاس مقطوعة، أرواح تطلب من العالم فقط: أن يتذكر. أن يتذكر أن هناك أطفالاً، لم يطلبوا إلا أن يُتركوا ليعيشوا، لكن العالم اختار أن يمرّ عليهم، كما تمرّ الدبابات على الأجساد.. صامتاً.
كاتبة لبنانيّة
أخبار اليوم - لم يكن هذا مقطعاً من فيلم، ولا مشهداً مكتوباً بعناية في نص درامي. كان لحظةً واقعية التقطتها عدسة هاتف، ونقلتها آلاف الشاشات، لتتحول إلى صورةٍ أقرب للخيال، وأقسى من أن تُروى دون أن يرتعش شيء في القلب.
فلسطيني يقف أمام منزله في غزة، يقف شامخاً وسط الركام الذي لم يسقط بعد، ينظر إلى السماء، لا لأنه ينتظر شيئاً، بل لأنه تعوّد أن تأتيه الضربات من هناك.
على الطرف الآخر من الخط، جندي إسرائيلي، صوته يأتي مشوّشاً، بارداً كزرّ التشغيل في غرفةٍ بلا روح. يخبره أن الصاروخ في الطريق، أن أمامه نصف دقيقة، نصف دقيقة فقط.
لكن الفلسطيني، وفي لحظة لا يمكن تمثيلها، لا يسأل: لماذا؟ ولا يصرخ: لا تفعل.
بل يقول: «سَمِّ بالله، واكبس».
صوته فيه تحد وإصرار على الحياة، وكأنه يريد أن يُدخل حتى آلة الموت في قدسية الاسم. وكأنه، في لحظة فائقة الصفاء، أراد للجندي ألا يكون قاتلاً بلا دعاء، ألا يضغط الزر كمَن يُطفئ ضوء الغرفة، بل أن يعرف أنه يضغط على ذاكرة، على صورة أمّ في المطبخ، على طفولة نائمة في حضن دمية.
يرد الجندي، وهو يتنفس من رئتين اصطناعيتين:
«نصف دقيقة وينزل».. لكنه لا يُكمل. فالمكان ينفجر.
لا نعرف إن كان الفلسطيني ما زال هناك. لا نعرف إن كان الجندي أكمل خدمته وذهب ليرى فيلماً تلك الليلة، أو جلس مع أطفاله.
لكن ما نعرفه، هو أن الكلمات اختنقت قبل أن تنتهي. أن الحكاية انفجرت، قبل أن تختار كيف تنتهي. في عالمٍ يحترف محو المشاعر، جاء هذا المشهد ليُعيد تعريف المعنى.
كان يجب أن يكون مشهداً من فيلم، مشهداً بديعاً تعقبه موسيقى حزينة، ولقطة لسماء رمادية. لكن لا.. كان هذا واقعاً، واقعًا من لحمٍ ودم، ومن صمتٍ ثقيل، ومن ذاكرة كانت هناك، وماتت قبل أن تُروى.
هل رأيت يوماً أحداً يودع بيته بعبارة «سَمِّ بالله»؟
هل سمعت أحداً يدعو قاتله لذكر الله، لا ليهرب، بل ليستقبل الصاروخ بوجهٍ مكشوف؟
لا تسأل عن النهاية، فهي واضحة كالفجر: انتهت الحكاية، وانتهت الذكرى، وبقيت ثلاث كلمات: «سَمِّ بالله، اكبس».
إنها ترتيلة النهاية، أو بداية، بداية لسؤال لا أحد يجرؤ على طرحه.
غزة: حيث يكبر الأطفال على حافة القبر
في غزة، لا يلعب الأطفال لعبة «الغميضة»، كما يفعل أقرانهم في العالم، بل يختبئون من طائرات تعرف وجوههم، ويعدّون أنفاسهم لا ليمرحوا، بل ليتأكدوا أن الصاروخ لم يسقط بعد.
في غزة، لا تُطفأ الأنوار ليحلم الصغار، بل ليبدأ الليل فصلاً جديداً من الكوابيس، كأن الظلام صار موعداً يومياً مع الرعب، لا راحة فيه ولا نجاة. هكذا أعلن مركز التدريب الفلسطيني أرقاماً ليست فقط مرعبة، بل تكاد تكون خارجة عن حدود اللغة. 96 في المئة من أطفال غزة يشعرون باقتراب الموت. هذه ليست مبالغة، بل شهادة حيّة من جيل لم يُمهل ليعيش، بل فقط ليراقب كيف تُغتال الطفولة تحت الركام، كيف تتحول الدمى إلى شظايا، والبيوت إلى قبور مؤقتة.
الأطفال هناك لا يسألون: «متى نعود إلى المدرسة؟» بل: «متى نموت؟»
عندما يصبح الخوف هو الرفيق الوحيد في سنوات التكوين، لا تعود النفس كما كانت. 73 في المئة من أطفال غزة تغيّر سلوكهم كلياً. صاروا عدوانيين، صامتين، أو باهتين، كأنهم وُلدوا وهم شيوخ.
في غزة، العدوانية ليست خياراً، بل آلية دفاع. طفل صغير يضرب رأسه بالحائط، لا لأنه غاضب، بل لأنه لا يجد وسيلة ليصرخ. طفلة تمزق صورها، لا لأنها تكره ملامحها، بل لأنها تخاف أن تراها في خبر استشهادها المقبل. لكن الأدهى من ذلك كله، تلك الأمنية التي لا تُقال إلا في أكثر حالات اليأس. 49 في المئة من أطفال غزة تمنوا الموت. نصف جيل كامل يريد أن يرحل، لا لأنه تعب فقط، بل لأنه فهم، قبل أوانه، أن هذه الحياة ليست له.
أيّ مكان هذا الذي يجعل من الموت أمنية؟
أيّ زمن هذا الذي يخاطب فيه الطفل ربه قائلاً: «يا رب، خذني…»؟! حتى الليل، الذي كان يوماً صديق الحكايات، صار فخاً. الطفل يغمض عينيه ليهرب، فيجد الموت يطارده في الحلم، كما يطارده في اليقظة. الكوابيس في غزة ليست رمزية، بل دقيقة، حقيقية، متكررة. ينام الطفل على وقع قصف، ويحلم بأمّه تُنتَشل من تحت الحجارة، ثم يصحو ليكتشف أن الحلم لم يكن إلا نبوءة. اضطرابات النوم صارت قاعدة لا استثناء، كأن الطفولة نفسها قررت أن تنأى بنفسها عن هذا المكان. كيف تنام براحة، حين يكون الحائط الذي تستند إليه هشاً، والمبنى الذي يأويك هدفاً، وأمّك نائمة بين دمعتين؟
هل العالم يسمع؟ ربما، لكنه لا يصغي.
18 ألف طفل قُتلوا برصاص الاحتلال، بلا ذنب، بلا محاكمة، بلا محام يدافع عنهم سوى تراب الأرض، الذي احتضن أجسادهم الصغيرة. 238 رضيعاً لم يعرفوا طعم الحليب، فقط عرفوا حليب الخوف.
853 آخرون استشهدوا في عامهم الأول، قبل أن ينطقوا «ماما» كاملة.
حتى من نجا من القصف، لم ينجُ من الحصار. الجوع هناك ليس مجرد ألم، بل موت بطيء. 44 طفلاً ماتوا جوعاً، لا لأن الغذاء غير موجود في هذا العالم، بل لأنه مُنع عنهم عمداً. الاستهداف ممنهج. الأطفال في غزة ليسوا أضراراً جانبية، بل أهداف محسوبة في خرائط الحرب. كل شهيد صغير هو رسالة صامتة من عالم فقد ضميره، أو قرر أن يضعه في درجٍ مغلق، إلى حين.
غزة، حيث لا يكبر الطفل كما يكبر الآخرون، بل يتآكل، يذبل، يتقلص داخلياً حتى يخبو. في غزة، لا يُسأل الطفل عن حلمه، بل عن آخر مرة رأى فيها السماء زرقاء، أو ضحك من قلبه. هذه ليست أرقاماً في تقرير، هذه صرخات مكتومة، أنفاس مقطوعة، أرواح تطلب من العالم فقط: أن يتذكر. أن يتذكر أن هناك أطفالاً، لم يطلبوا إلا أن يُتركوا ليعيشوا، لكن العالم اختار أن يمرّ عليهم، كما تمرّ الدبابات على الأجساد.. صامتاً.
كاتبة لبنانيّة
أخبار اليوم - لم يكن هذا مقطعاً من فيلم، ولا مشهداً مكتوباً بعناية في نص درامي. كان لحظةً واقعية التقطتها عدسة هاتف، ونقلتها آلاف الشاشات، لتتحول إلى صورةٍ أقرب للخيال، وأقسى من أن تُروى دون أن يرتعش شيء في القلب.
فلسطيني يقف أمام منزله في غزة، يقف شامخاً وسط الركام الذي لم يسقط بعد، ينظر إلى السماء، لا لأنه ينتظر شيئاً، بل لأنه تعوّد أن تأتيه الضربات من هناك.
على الطرف الآخر من الخط، جندي إسرائيلي، صوته يأتي مشوّشاً، بارداً كزرّ التشغيل في غرفةٍ بلا روح. يخبره أن الصاروخ في الطريق، أن أمامه نصف دقيقة، نصف دقيقة فقط.
لكن الفلسطيني، وفي لحظة لا يمكن تمثيلها، لا يسأل: لماذا؟ ولا يصرخ: لا تفعل.
بل يقول: «سَمِّ بالله، واكبس».
صوته فيه تحد وإصرار على الحياة، وكأنه يريد أن يُدخل حتى آلة الموت في قدسية الاسم. وكأنه، في لحظة فائقة الصفاء، أراد للجندي ألا يكون قاتلاً بلا دعاء، ألا يضغط الزر كمَن يُطفئ ضوء الغرفة، بل أن يعرف أنه يضغط على ذاكرة، على صورة أمّ في المطبخ، على طفولة نائمة في حضن دمية.
يرد الجندي، وهو يتنفس من رئتين اصطناعيتين:
«نصف دقيقة وينزل».. لكنه لا يُكمل. فالمكان ينفجر.
لا نعرف إن كان الفلسطيني ما زال هناك. لا نعرف إن كان الجندي أكمل خدمته وذهب ليرى فيلماً تلك الليلة، أو جلس مع أطفاله.
لكن ما نعرفه، هو أن الكلمات اختنقت قبل أن تنتهي. أن الحكاية انفجرت، قبل أن تختار كيف تنتهي. في عالمٍ يحترف محو المشاعر، جاء هذا المشهد ليُعيد تعريف المعنى.
كان يجب أن يكون مشهداً من فيلم، مشهداً بديعاً تعقبه موسيقى حزينة، ولقطة لسماء رمادية. لكن لا.. كان هذا واقعاً، واقعًا من لحمٍ ودم، ومن صمتٍ ثقيل، ومن ذاكرة كانت هناك، وماتت قبل أن تُروى.
هل رأيت يوماً أحداً يودع بيته بعبارة «سَمِّ بالله»؟
هل سمعت أحداً يدعو قاتله لذكر الله، لا ليهرب، بل ليستقبل الصاروخ بوجهٍ مكشوف؟
لا تسأل عن النهاية، فهي واضحة كالفجر: انتهت الحكاية، وانتهت الذكرى، وبقيت ثلاث كلمات: «سَمِّ بالله، اكبس».
إنها ترتيلة النهاية، أو بداية، بداية لسؤال لا أحد يجرؤ على طرحه.
غزة: حيث يكبر الأطفال على حافة القبر
في غزة، لا يلعب الأطفال لعبة «الغميضة»، كما يفعل أقرانهم في العالم، بل يختبئون من طائرات تعرف وجوههم، ويعدّون أنفاسهم لا ليمرحوا، بل ليتأكدوا أن الصاروخ لم يسقط بعد.
في غزة، لا تُطفأ الأنوار ليحلم الصغار، بل ليبدأ الليل فصلاً جديداً من الكوابيس، كأن الظلام صار موعداً يومياً مع الرعب، لا راحة فيه ولا نجاة. هكذا أعلن مركز التدريب الفلسطيني أرقاماً ليست فقط مرعبة، بل تكاد تكون خارجة عن حدود اللغة. 96 في المئة من أطفال غزة يشعرون باقتراب الموت. هذه ليست مبالغة، بل شهادة حيّة من جيل لم يُمهل ليعيش، بل فقط ليراقب كيف تُغتال الطفولة تحت الركام، كيف تتحول الدمى إلى شظايا، والبيوت إلى قبور مؤقتة.
الأطفال هناك لا يسألون: «متى نعود إلى المدرسة؟» بل: «متى نموت؟»
عندما يصبح الخوف هو الرفيق الوحيد في سنوات التكوين، لا تعود النفس كما كانت. 73 في المئة من أطفال غزة تغيّر سلوكهم كلياً. صاروا عدوانيين، صامتين، أو باهتين، كأنهم وُلدوا وهم شيوخ.
في غزة، العدوانية ليست خياراً، بل آلية دفاع. طفل صغير يضرب رأسه بالحائط، لا لأنه غاضب، بل لأنه لا يجد وسيلة ليصرخ. طفلة تمزق صورها، لا لأنها تكره ملامحها، بل لأنها تخاف أن تراها في خبر استشهادها المقبل. لكن الأدهى من ذلك كله، تلك الأمنية التي لا تُقال إلا في أكثر حالات اليأس. 49 في المئة من أطفال غزة تمنوا الموت. نصف جيل كامل يريد أن يرحل، لا لأنه تعب فقط، بل لأنه فهم، قبل أوانه، أن هذه الحياة ليست له.
أيّ مكان هذا الذي يجعل من الموت أمنية؟
أيّ زمن هذا الذي يخاطب فيه الطفل ربه قائلاً: «يا رب، خذني…»؟! حتى الليل، الذي كان يوماً صديق الحكايات، صار فخاً. الطفل يغمض عينيه ليهرب، فيجد الموت يطارده في الحلم، كما يطارده في اليقظة. الكوابيس في غزة ليست رمزية، بل دقيقة، حقيقية، متكررة. ينام الطفل على وقع قصف، ويحلم بأمّه تُنتَشل من تحت الحجارة، ثم يصحو ليكتشف أن الحلم لم يكن إلا نبوءة. اضطرابات النوم صارت قاعدة لا استثناء، كأن الطفولة نفسها قررت أن تنأى بنفسها عن هذا المكان. كيف تنام براحة، حين يكون الحائط الذي تستند إليه هشاً، والمبنى الذي يأويك هدفاً، وأمّك نائمة بين دمعتين؟
هل العالم يسمع؟ ربما، لكنه لا يصغي.
18 ألف طفل قُتلوا برصاص الاحتلال، بلا ذنب، بلا محاكمة، بلا محام يدافع عنهم سوى تراب الأرض، الذي احتضن أجسادهم الصغيرة. 238 رضيعاً لم يعرفوا طعم الحليب، فقط عرفوا حليب الخوف.
853 آخرون استشهدوا في عامهم الأول، قبل أن ينطقوا «ماما» كاملة.
حتى من نجا من القصف، لم ينجُ من الحصار. الجوع هناك ليس مجرد ألم، بل موت بطيء. 44 طفلاً ماتوا جوعاً، لا لأن الغذاء غير موجود في هذا العالم، بل لأنه مُنع عنهم عمداً. الاستهداف ممنهج. الأطفال في غزة ليسوا أضراراً جانبية، بل أهداف محسوبة في خرائط الحرب. كل شهيد صغير هو رسالة صامتة من عالم فقد ضميره، أو قرر أن يضعه في درجٍ مغلق، إلى حين.
غزة، حيث لا يكبر الطفل كما يكبر الآخرون، بل يتآكل، يذبل، يتقلص داخلياً حتى يخبو. في غزة، لا يُسأل الطفل عن حلمه، بل عن آخر مرة رأى فيها السماء زرقاء، أو ضحك من قلبه. هذه ليست أرقاماً في تقرير، هذه صرخات مكتومة، أنفاس مقطوعة، أرواح تطلب من العالم فقط: أن يتذكر. أن يتذكر أن هناك أطفالاً، لم يطلبوا إلا أن يُتركوا ليعيشوا، لكن العالم اختار أن يمرّ عليهم، كما تمرّ الدبابات على الأجساد.. صامتاً.
كاتبة لبنانيّة
التعليقات