اخبار اليوم - تحت عنوان “المنفى المرير لوائل الدحدوح الصحافي الذي يجسد مأساة غزة”، كتبت صحيفة لوموند الفرنسية أنه قبل عام من الآن، لجأ مدير مكتب الجزيرة في غزة إلى قطر بعد إصابته بجروح خطيرة وفقدانه جزءاً كبيراً من عائلته. ومنذ ذلك الحين، ظل يندد بالمأساة التي يعيشها شعبه. واليوم، يمنحه وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني/ يناير الجاري، الأمل في العودة.
يقول على قناة الجزيرة القطرية التي يعمل بها منذ عشرين عاماً: “ليس من السهل بالنسبة لي أن أراقب هذه اللحظات من بعيد، وأن أرى زملائي وسط هذه الأنقاض. ولكن يجب علينا أن نكون قادرين على عيش هذه اللحظة بشكل كامل، بحلاوتها ومرارتها”. حلاوة الهدنة التي قد تجلب بعض الراحة لسكان القطاع الفلسطيني بعد 471 يوماً من الحرب، والمرارة الناتجة عن تحمل كل هذا المعاناة.
قبل شهر، في 14 ديسمبر/كانون الأول، في إحدى المقابلات النادرة للغاية التي وافق على إجرائها، عبر تطبيق زووم، اعترف وائل الدحدوح، الذي ما يزال ساعده الأيمن موضوعا بجبيرة منذ أن أصابته نيران إسرائيلية، بما حدث له، وتعلقه الثابت بأرضه الأم: “هذه الأرض جزء مني”، كما أوضح، “إنها تعكس شخصيتي وأنا أعكسها”.
بعد أن لجأ إلى قطر لمدة عام، مع أطفاله الخمسة المسجلين في المدرسة أو الجامعة، يحاول الأب البالغ من العمر 54 عاما استئناف ما يشبه الحياة الطبيعية. لكن كل أفكاره تظل منصبة على غزة، حيث ما يزال أقاربه وإخوته وأخواته وجيرانه وأصدقاؤه يعيشون هناك.
بعيدا عن منزله، تولى المراسل دورا آخر خلال الأشهر الأخيرة، “مكملا” لسنوات عمله في مجال التقارير الإخبارية. لقد أصبح صوتا لمأساة شعبه، وتجسيدا لـ”إنسانية” القضية الفلسطينية. وقد تم تكريمه بجوائز متعددة، مثل جائزة حرية الصحافة من نادي الصحافة الوطني في واشنطن، والتي تم منحها في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وجائزة الشجاعة من منظمة “مراسلون بلا حدود” في أوائل ديسمبر/ كانون الأول. ويستغل الرجل كل فرصة لزيادة الوعي بـ”القمع الظالم” الذي يقول إن الفلسطينيين يعانون منه.
ويقول: “كصحافيين يعملون في غزة، فإن صمت العالم يقتلنا بقدر ما تقتلنا القنابل والصواريخ ورصاص الطائرات بدون طيار”. منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لقي 145 صحافياً مصرعهم في غزة أثناء تغطيتهم للصراع، وفقاً لأحدث تقرير صادر عن منظمة مراسلون بلا حدود.
وأصبح وائل الدحدوح أحد أشهر أبناء غزة في هذه الحرب. وقد رسمه فنانو الشوارع، وهو يرتدي خوذة وسترة واقية من الرصاص تحمل شعار ”الصحافة”، وتزين صورته جدران العديد من العواصم الأوروبية. فمنذ الساعات الأولى للصراع، ظهر وائل ليلاً ونهاراً على الهواء مباشرة في قناة الجزيرة.
بهدوء وتعليم، وصف مدير مكتب الجزيرة، العدوان الإسرائيلي بدقة، مستفيداً من معرفته بالجغرافيا المعقدة لقطاع غزة، والتي يعرف عنها أدق التفاصيل، ولم يُسمح حتى الآن لأي صحافي أجنبي بالعمل في القطاع.
كان وائل حاضرا على الهواء مساء يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عندما علم أن صاروخا انفجر في منزل بالنصيرات، حيث لجأت عائلته، حيث استشهدت زوجته أمينة (44 عاماً)، وأحد أبنائه محمود (15 عاماً)، وابنته شام (7 أعوام)، وحفيده آدم (18 شهراً)، بالإضافة إلى ثمانية أقارب آخرين. وائل الدحدوح يظهر في بث مباشر عندما يكتشف جثث عائلته هامدة، وقال “أنتم تنتقمون منا من خلال أبنائنا” كانت أول كلماته التي نطق بها بصوت متقطع.
وفي 15 كانون الأول/ ديسمبر، نجا الصحافي من الموت بأعجوبة في خان يونس جنوبي قطاع غزة، بعد استهدافه بنيران طائرة بدون طيار. وتوفي زميله المصور سامر أبو دقة بعد معاناة طويلة، وذلك لعدم حصول طواقم الإسعاف على الضوء الأخضر من الإسرائيليين لإنقاذه. وبعد ثلاثة أسابيع، في السابع من يناير/ كانون الثاني 2024، جاء دور ابنه الأكبر حمزة، الذي كان يعمل أيضاً في قناة الجزيرة، وزميله مصطفى ثريا للقتل على يد الإسرائيليين.
ويؤكد وائل قائلا: “عندما تم استهداف عائلتي، وعندما تم استهداف منزلي، وعندما تم استهداف مكتب الجزيرة، وحتى عندما تعرضت للإصابة، كنت أعود دائما إلى العمل. وعدت باحترافية أكبر. هذا ما أزعج إسرائيل”.
وفي أبريل/ نيسان الماضي، أوقفت إسرائيل بث قناة الجزيرة على أراضيها، إذا اعتبرتها الحكومة “تهديداً للأمن القومي”. وفي الأول من يناير/ كانون الثاني الجاري، حظرت السلطة الفلسطينية بدورها على قناة الجزيرة مواصلة أنشطتها في الضفة الغربية، غاضبة من تغطيتها للاشتباكات في جنين بين أجهزة الأمن والمجموعات المسلحة المحلية، والتي وصفها نظام رام الله بأنها ”تحريض على الفتنة”.
ولد وائل الدحدوح لعائلة مزارعين في شمال قطاع غزة مع ثمانية أبناء آخرين، وكان أول من حصل على شهادة البكالوريا. لكن اندلاع الانتفاضة الأولى في نهاية عام 1987 حوّله عن دراسته الطبية التي كان يخطط لها، إذ تم اعتقاله بتهمة إلقاء الحجارة وحكم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر عاما. ويقول إنه تعلم ”الصبر والعزيمة” من السنوات السبع التي قضاها خلف القضبان. كما عمل الدحدوح على تطوير اتصالات رئيسية داخل الفصائل المسلحة الفلسطينية.
وبعد إطلاق سراحه، لم يعد يُسمح له بمغادرة القطاع. وفي سن الرابعة والعشرين عاما، اختار متابعة أول دورة صحافة في فلسطين والتي افتتحت في الجامعة الإسلامية بغزة. إلى جانب شخصيات أخرى في الصحافة الغزية، مثل عادل الزعنون ورشدي أبو العوف، مراسلي وكالة فرانس برس وهيئة الإذاعة البريطانية على التوالي، فإنهم يشكلون جيلاً من ”الرواد” الذين يرغبون في رواية قصة “غزة” الخاصة بهم، حيث ولدوا وتربوا.
بعد فترة قضاها مع صحيفة القدس الفلسطينية، حاول وائل الدحدوح الظهور أمام الكاميرا على قناة العربية السعودية، قبل أن يتم انتدابه من قبل منافستها الجزيرة. سرعان ما جعلته معرفته الدقيقة بقطاع غزة لا غنى عنه: ففي عام 2004، كان أول من أعلن لقناة العربية وفاة مؤسس حركة حماس أحمد ياسين، الذي استشهد بصاروخ مروحية إسرائيلية في مدينة غزة.
ورغم القيود المفروضة على حرية الصحافة منذ وصول حماس إلى السلطة في القطاع عام 2007، فإن وائل يسعى جاهدا للبقاء وفيا لشعار الجزيرة: “الرأي والرأي الآخر”.
مدير مكتب، وهو متواجد في الميدان باستمرار. ويقول عادل زعنون، شريكه منذ فترة طويلة في العمل مع وكالة الصحافة الفرنسية والذي يعمل الآن من قبرص: “الناس يحترمونه لصوته المتوازن”.
وبعد أن فقد جزءا من عائلته وأصيب هو بجروح خطيرة، اضطر وائل الدحدوح إلى اتخاذ قرار “مرير للغاية”، على حد قوله، بمغادرة غزة.
لكن الهدنة التي أُعلن عنها في 15 يناير/ كانون الثاني، تفتح الأمل بالعودة. ويصف “منزله الكبير” في غزة، حيث كان يتمتع بحديقة خضراء. اليوم تم تدمير كل شيء. تظهر ابتسامة حزينة على وجهه، قائلا: “لم أستمتع بهذه الجنة الصغيرة بما فيه الكفاية، مع أولئك الذين هم الجنة الحقيقية: عائلتي”.
اخبار اليوم - تحت عنوان “المنفى المرير لوائل الدحدوح الصحافي الذي يجسد مأساة غزة”، كتبت صحيفة لوموند الفرنسية أنه قبل عام من الآن، لجأ مدير مكتب الجزيرة في غزة إلى قطر بعد إصابته بجروح خطيرة وفقدانه جزءاً كبيراً من عائلته. ومنذ ذلك الحين، ظل يندد بالمأساة التي يعيشها شعبه. واليوم، يمنحه وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني/ يناير الجاري، الأمل في العودة.
يقول على قناة الجزيرة القطرية التي يعمل بها منذ عشرين عاماً: “ليس من السهل بالنسبة لي أن أراقب هذه اللحظات من بعيد، وأن أرى زملائي وسط هذه الأنقاض. ولكن يجب علينا أن نكون قادرين على عيش هذه اللحظة بشكل كامل، بحلاوتها ومرارتها”. حلاوة الهدنة التي قد تجلب بعض الراحة لسكان القطاع الفلسطيني بعد 471 يوماً من الحرب، والمرارة الناتجة عن تحمل كل هذا المعاناة.
قبل شهر، في 14 ديسمبر/كانون الأول، في إحدى المقابلات النادرة للغاية التي وافق على إجرائها، عبر تطبيق زووم، اعترف وائل الدحدوح، الذي ما يزال ساعده الأيمن موضوعا بجبيرة منذ أن أصابته نيران إسرائيلية، بما حدث له، وتعلقه الثابت بأرضه الأم: “هذه الأرض جزء مني”، كما أوضح، “إنها تعكس شخصيتي وأنا أعكسها”.
بعد أن لجأ إلى قطر لمدة عام، مع أطفاله الخمسة المسجلين في المدرسة أو الجامعة، يحاول الأب البالغ من العمر 54 عاما استئناف ما يشبه الحياة الطبيعية. لكن كل أفكاره تظل منصبة على غزة، حيث ما يزال أقاربه وإخوته وأخواته وجيرانه وأصدقاؤه يعيشون هناك.
بعيدا عن منزله، تولى المراسل دورا آخر خلال الأشهر الأخيرة، “مكملا” لسنوات عمله في مجال التقارير الإخبارية. لقد أصبح صوتا لمأساة شعبه، وتجسيدا لـ”إنسانية” القضية الفلسطينية. وقد تم تكريمه بجوائز متعددة، مثل جائزة حرية الصحافة من نادي الصحافة الوطني في واشنطن، والتي تم منحها في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وجائزة الشجاعة من منظمة “مراسلون بلا حدود” في أوائل ديسمبر/ كانون الأول. ويستغل الرجل كل فرصة لزيادة الوعي بـ”القمع الظالم” الذي يقول إن الفلسطينيين يعانون منه.
ويقول: “كصحافيين يعملون في غزة، فإن صمت العالم يقتلنا بقدر ما تقتلنا القنابل والصواريخ ورصاص الطائرات بدون طيار”. منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لقي 145 صحافياً مصرعهم في غزة أثناء تغطيتهم للصراع، وفقاً لأحدث تقرير صادر عن منظمة مراسلون بلا حدود.
وأصبح وائل الدحدوح أحد أشهر أبناء غزة في هذه الحرب. وقد رسمه فنانو الشوارع، وهو يرتدي خوذة وسترة واقية من الرصاص تحمل شعار ”الصحافة”، وتزين صورته جدران العديد من العواصم الأوروبية. فمنذ الساعات الأولى للصراع، ظهر وائل ليلاً ونهاراً على الهواء مباشرة في قناة الجزيرة.
بهدوء وتعليم، وصف مدير مكتب الجزيرة، العدوان الإسرائيلي بدقة، مستفيداً من معرفته بالجغرافيا المعقدة لقطاع غزة، والتي يعرف عنها أدق التفاصيل، ولم يُسمح حتى الآن لأي صحافي أجنبي بالعمل في القطاع.
كان وائل حاضرا على الهواء مساء يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عندما علم أن صاروخا انفجر في منزل بالنصيرات، حيث لجأت عائلته، حيث استشهدت زوجته أمينة (44 عاماً)، وأحد أبنائه محمود (15 عاماً)، وابنته شام (7 أعوام)، وحفيده آدم (18 شهراً)، بالإضافة إلى ثمانية أقارب آخرين. وائل الدحدوح يظهر في بث مباشر عندما يكتشف جثث عائلته هامدة، وقال “أنتم تنتقمون منا من خلال أبنائنا” كانت أول كلماته التي نطق بها بصوت متقطع.
وفي 15 كانون الأول/ ديسمبر، نجا الصحافي من الموت بأعجوبة في خان يونس جنوبي قطاع غزة، بعد استهدافه بنيران طائرة بدون طيار. وتوفي زميله المصور سامر أبو دقة بعد معاناة طويلة، وذلك لعدم حصول طواقم الإسعاف على الضوء الأخضر من الإسرائيليين لإنقاذه. وبعد ثلاثة أسابيع، في السابع من يناير/ كانون الثاني 2024، جاء دور ابنه الأكبر حمزة، الذي كان يعمل أيضاً في قناة الجزيرة، وزميله مصطفى ثريا للقتل على يد الإسرائيليين.
ويؤكد وائل قائلا: “عندما تم استهداف عائلتي، وعندما تم استهداف منزلي، وعندما تم استهداف مكتب الجزيرة، وحتى عندما تعرضت للإصابة، كنت أعود دائما إلى العمل. وعدت باحترافية أكبر. هذا ما أزعج إسرائيل”.
وفي أبريل/ نيسان الماضي، أوقفت إسرائيل بث قناة الجزيرة على أراضيها، إذا اعتبرتها الحكومة “تهديداً للأمن القومي”. وفي الأول من يناير/ كانون الثاني الجاري، حظرت السلطة الفلسطينية بدورها على قناة الجزيرة مواصلة أنشطتها في الضفة الغربية، غاضبة من تغطيتها للاشتباكات في جنين بين أجهزة الأمن والمجموعات المسلحة المحلية، والتي وصفها نظام رام الله بأنها ”تحريض على الفتنة”.
ولد وائل الدحدوح لعائلة مزارعين في شمال قطاع غزة مع ثمانية أبناء آخرين، وكان أول من حصل على شهادة البكالوريا. لكن اندلاع الانتفاضة الأولى في نهاية عام 1987 حوّله عن دراسته الطبية التي كان يخطط لها، إذ تم اعتقاله بتهمة إلقاء الحجارة وحكم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر عاما. ويقول إنه تعلم ”الصبر والعزيمة” من السنوات السبع التي قضاها خلف القضبان. كما عمل الدحدوح على تطوير اتصالات رئيسية داخل الفصائل المسلحة الفلسطينية.
وبعد إطلاق سراحه، لم يعد يُسمح له بمغادرة القطاع. وفي سن الرابعة والعشرين عاما، اختار متابعة أول دورة صحافة في فلسطين والتي افتتحت في الجامعة الإسلامية بغزة. إلى جانب شخصيات أخرى في الصحافة الغزية، مثل عادل الزعنون ورشدي أبو العوف، مراسلي وكالة فرانس برس وهيئة الإذاعة البريطانية على التوالي، فإنهم يشكلون جيلاً من ”الرواد” الذين يرغبون في رواية قصة “غزة” الخاصة بهم، حيث ولدوا وتربوا.
بعد فترة قضاها مع صحيفة القدس الفلسطينية، حاول وائل الدحدوح الظهور أمام الكاميرا على قناة العربية السعودية، قبل أن يتم انتدابه من قبل منافستها الجزيرة. سرعان ما جعلته معرفته الدقيقة بقطاع غزة لا غنى عنه: ففي عام 2004، كان أول من أعلن لقناة العربية وفاة مؤسس حركة حماس أحمد ياسين، الذي استشهد بصاروخ مروحية إسرائيلية في مدينة غزة.
ورغم القيود المفروضة على حرية الصحافة منذ وصول حماس إلى السلطة في القطاع عام 2007، فإن وائل يسعى جاهدا للبقاء وفيا لشعار الجزيرة: “الرأي والرأي الآخر”.
مدير مكتب، وهو متواجد في الميدان باستمرار. ويقول عادل زعنون، شريكه منذ فترة طويلة في العمل مع وكالة الصحافة الفرنسية والذي يعمل الآن من قبرص: “الناس يحترمونه لصوته المتوازن”.
وبعد أن فقد جزءا من عائلته وأصيب هو بجروح خطيرة، اضطر وائل الدحدوح إلى اتخاذ قرار “مرير للغاية”، على حد قوله، بمغادرة غزة.
لكن الهدنة التي أُعلن عنها في 15 يناير/ كانون الثاني، تفتح الأمل بالعودة. ويصف “منزله الكبير” في غزة، حيث كان يتمتع بحديقة خضراء. اليوم تم تدمير كل شيء. تظهر ابتسامة حزينة على وجهه، قائلا: “لم أستمتع بهذه الجنة الصغيرة بما فيه الكفاية، مع أولئك الذين هم الجنة الحقيقية: عائلتي”.
اخبار اليوم - تحت عنوان “المنفى المرير لوائل الدحدوح الصحافي الذي يجسد مأساة غزة”، كتبت صحيفة لوموند الفرنسية أنه قبل عام من الآن، لجأ مدير مكتب الجزيرة في غزة إلى قطر بعد إصابته بجروح خطيرة وفقدانه جزءاً كبيراً من عائلته. ومنذ ذلك الحين، ظل يندد بالمأساة التي يعيشها شعبه. واليوم، يمنحه وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني/ يناير الجاري، الأمل في العودة.
يقول على قناة الجزيرة القطرية التي يعمل بها منذ عشرين عاماً: “ليس من السهل بالنسبة لي أن أراقب هذه اللحظات من بعيد، وأن أرى زملائي وسط هذه الأنقاض. ولكن يجب علينا أن نكون قادرين على عيش هذه اللحظة بشكل كامل، بحلاوتها ومرارتها”. حلاوة الهدنة التي قد تجلب بعض الراحة لسكان القطاع الفلسطيني بعد 471 يوماً من الحرب، والمرارة الناتجة عن تحمل كل هذا المعاناة.
قبل شهر، في 14 ديسمبر/كانون الأول، في إحدى المقابلات النادرة للغاية التي وافق على إجرائها، عبر تطبيق زووم، اعترف وائل الدحدوح، الذي ما يزال ساعده الأيمن موضوعا بجبيرة منذ أن أصابته نيران إسرائيلية، بما حدث له، وتعلقه الثابت بأرضه الأم: “هذه الأرض جزء مني”، كما أوضح، “إنها تعكس شخصيتي وأنا أعكسها”.
بعد أن لجأ إلى قطر لمدة عام، مع أطفاله الخمسة المسجلين في المدرسة أو الجامعة، يحاول الأب البالغ من العمر 54 عاما استئناف ما يشبه الحياة الطبيعية. لكن كل أفكاره تظل منصبة على غزة، حيث ما يزال أقاربه وإخوته وأخواته وجيرانه وأصدقاؤه يعيشون هناك.
بعيدا عن منزله، تولى المراسل دورا آخر خلال الأشهر الأخيرة، “مكملا” لسنوات عمله في مجال التقارير الإخبارية. لقد أصبح صوتا لمأساة شعبه، وتجسيدا لـ”إنسانية” القضية الفلسطينية. وقد تم تكريمه بجوائز متعددة، مثل جائزة حرية الصحافة من نادي الصحافة الوطني في واشنطن، والتي تم منحها في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وجائزة الشجاعة من منظمة “مراسلون بلا حدود” في أوائل ديسمبر/ كانون الأول. ويستغل الرجل كل فرصة لزيادة الوعي بـ”القمع الظالم” الذي يقول إن الفلسطينيين يعانون منه.
ويقول: “كصحافيين يعملون في غزة، فإن صمت العالم يقتلنا بقدر ما تقتلنا القنابل والصواريخ ورصاص الطائرات بدون طيار”. منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لقي 145 صحافياً مصرعهم في غزة أثناء تغطيتهم للصراع، وفقاً لأحدث تقرير صادر عن منظمة مراسلون بلا حدود.
وأصبح وائل الدحدوح أحد أشهر أبناء غزة في هذه الحرب. وقد رسمه فنانو الشوارع، وهو يرتدي خوذة وسترة واقية من الرصاص تحمل شعار ”الصحافة”، وتزين صورته جدران العديد من العواصم الأوروبية. فمنذ الساعات الأولى للصراع، ظهر وائل ليلاً ونهاراً على الهواء مباشرة في قناة الجزيرة.
بهدوء وتعليم، وصف مدير مكتب الجزيرة، العدوان الإسرائيلي بدقة، مستفيداً من معرفته بالجغرافيا المعقدة لقطاع غزة، والتي يعرف عنها أدق التفاصيل، ولم يُسمح حتى الآن لأي صحافي أجنبي بالعمل في القطاع.
كان وائل حاضرا على الهواء مساء يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عندما علم أن صاروخا انفجر في منزل بالنصيرات، حيث لجأت عائلته، حيث استشهدت زوجته أمينة (44 عاماً)، وأحد أبنائه محمود (15 عاماً)، وابنته شام (7 أعوام)، وحفيده آدم (18 شهراً)، بالإضافة إلى ثمانية أقارب آخرين. وائل الدحدوح يظهر في بث مباشر عندما يكتشف جثث عائلته هامدة، وقال “أنتم تنتقمون منا من خلال أبنائنا” كانت أول كلماته التي نطق بها بصوت متقطع.
وفي 15 كانون الأول/ ديسمبر، نجا الصحافي من الموت بأعجوبة في خان يونس جنوبي قطاع غزة، بعد استهدافه بنيران طائرة بدون طيار. وتوفي زميله المصور سامر أبو دقة بعد معاناة طويلة، وذلك لعدم حصول طواقم الإسعاف على الضوء الأخضر من الإسرائيليين لإنقاذه. وبعد ثلاثة أسابيع، في السابع من يناير/ كانون الثاني 2024، جاء دور ابنه الأكبر حمزة، الذي كان يعمل أيضاً في قناة الجزيرة، وزميله مصطفى ثريا للقتل على يد الإسرائيليين.
ويؤكد وائل قائلا: “عندما تم استهداف عائلتي، وعندما تم استهداف منزلي، وعندما تم استهداف مكتب الجزيرة، وحتى عندما تعرضت للإصابة، كنت أعود دائما إلى العمل. وعدت باحترافية أكبر. هذا ما أزعج إسرائيل”.
وفي أبريل/ نيسان الماضي، أوقفت إسرائيل بث قناة الجزيرة على أراضيها، إذا اعتبرتها الحكومة “تهديداً للأمن القومي”. وفي الأول من يناير/ كانون الثاني الجاري، حظرت السلطة الفلسطينية بدورها على قناة الجزيرة مواصلة أنشطتها في الضفة الغربية، غاضبة من تغطيتها للاشتباكات في جنين بين أجهزة الأمن والمجموعات المسلحة المحلية، والتي وصفها نظام رام الله بأنها ”تحريض على الفتنة”.
ولد وائل الدحدوح لعائلة مزارعين في شمال قطاع غزة مع ثمانية أبناء آخرين، وكان أول من حصل على شهادة البكالوريا. لكن اندلاع الانتفاضة الأولى في نهاية عام 1987 حوّله عن دراسته الطبية التي كان يخطط لها، إذ تم اعتقاله بتهمة إلقاء الحجارة وحكم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر عاما. ويقول إنه تعلم ”الصبر والعزيمة” من السنوات السبع التي قضاها خلف القضبان. كما عمل الدحدوح على تطوير اتصالات رئيسية داخل الفصائل المسلحة الفلسطينية.
وبعد إطلاق سراحه، لم يعد يُسمح له بمغادرة القطاع. وفي سن الرابعة والعشرين عاما، اختار متابعة أول دورة صحافة في فلسطين والتي افتتحت في الجامعة الإسلامية بغزة. إلى جانب شخصيات أخرى في الصحافة الغزية، مثل عادل الزعنون ورشدي أبو العوف، مراسلي وكالة فرانس برس وهيئة الإذاعة البريطانية على التوالي، فإنهم يشكلون جيلاً من ”الرواد” الذين يرغبون في رواية قصة “غزة” الخاصة بهم، حيث ولدوا وتربوا.
بعد فترة قضاها مع صحيفة القدس الفلسطينية، حاول وائل الدحدوح الظهور أمام الكاميرا على قناة العربية السعودية، قبل أن يتم انتدابه من قبل منافستها الجزيرة. سرعان ما جعلته معرفته الدقيقة بقطاع غزة لا غنى عنه: ففي عام 2004، كان أول من أعلن لقناة العربية وفاة مؤسس حركة حماس أحمد ياسين، الذي استشهد بصاروخ مروحية إسرائيلية في مدينة غزة.
ورغم القيود المفروضة على حرية الصحافة منذ وصول حماس إلى السلطة في القطاع عام 2007، فإن وائل يسعى جاهدا للبقاء وفيا لشعار الجزيرة: “الرأي والرأي الآخر”.
مدير مكتب، وهو متواجد في الميدان باستمرار. ويقول عادل زعنون، شريكه منذ فترة طويلة في العمل مع وكالة الصحافة الفرنسية والذي يعمل الآن من قبرص: “الناس يحترمونه لصوته المتوازن”.
وبعد أن فقد جزءا من عائلته وأصيب هو بجروح خطيرة، اضطر وائل الدحدوح إلى اتخاذ قرار “مرير للغاية”، على حد قوله، بمغادرة غزة.
لكن الهدنة التي أُعلن عنها في 15 يناير/ كانون الثاني، تفتح الأمل بالعودة. ويصف “منزله الكبير” في غزة، حيث كان يتمتع بحديقة خضراء. اليوم تم تدمير كل شيء. تظهر ابتسامة حزينة على وجهه، قائلا: “لم أستمتع بهذه الجنة الصغيرة بما فيه الكفاية، مع أولئك الذين هم الجنة الحقيقية: عائلتي”.
التعليقات