أخبار اليوم - كان يتقلب بالنار التي أضرمها الاحتلال في خيام النازحين بمستشفى شهداء الأقصى فجر الاثنين الموافق 14 أكتوبر/ تشرين أول 2024، يلوح برأسه تارة ويرفع يده تارة أخرى، بينما يقف المسعفون وكل من حاول انقاذه عاجزين عن التقدم أمام نار تتمدد مع انفجار اسطوانات الغاز بشكل متتابع، بحيث لم يستطع أحد الاقتراب.
شاهد العالم الشاب شعبان الدلو (20 عامًا) وهو يحترق حيًّا، والجميع سمع صوت استغاثته بين حمم النار لكن العالم الذي صمت عن جرائم مماثلة واصل الصمت عن جريمة إحراق النازحين وهم أحياء، وهي صرخة واحدة بين نار أكبر يعيشها أكثر من مليوني إنسان يكتوون بنار الحرب والقتل والحصار والتجويع في كل متر بقطاع غزة ويواصلون الاستغاثة.
استشهد شعبان في 14 أكتوبر قبل ذكرى ميلاده بيومين الذي يوافق 16 أكتوبر، تشرين أول، أضرم الاحتلال نارًا في ذكرى ميلاده أكبر من تلك التي كانت توقدها أمه على شمعة تضيء هذه الذكرى الجميلة منذ أن كان طفلا صغيرًا، فانطفأت وهج الذكرى التي ارتدت ثوبا حزينا عندما اجتمعت ذكرى الميلاد والاستشهاد في نفس التاريخ.
لحظة سقوط الصواريخ الإسرائيلية كان تيسير المغاري وهو يسكن قبالة المشفى، يقف على نافذة بيته، يراقب بعيون القلق التحليق المنخفض لطائرات الاحتلال بدون طيار ما يحمل إشارة 'استهداف وشيك في المكان'، فسرقت تلك الشوك الداخلية نومه وبقي مستيقظًا، حتى شاهد الصاروخ الأول يسقط بجوار العيادة الخارجية بساحة المشفى الساعة الثانية فجرًا.
صراخ داخل الخيام
'خرجت نار بسرعة من المكان، فنزلت من البيت وذهبت للمكان، وعندما وصلت حدث انفجار ثاني من أسطوانة غاز فاشتعلت النار للأعلى، في البداية كان صعبا تحديد مكان الاستهداف لكن بعد دقائق بدأنا نسمع صراخ من داخل خيام النازحين، ومن استطاع الهروب والفرار من النار هرب، وهناك من خرج مصابا بحروق' تتقلب المشاهد في ذاكرة تيسير المغاري وهو يروى لـ 'فلسطين أون لاين' بقلب مفجوع.
ويقول: 'لاحظنا أنه لم يخرج أحد من خيمة أبو شعبان، وبدأت الرؤية تتضح أن من في الخيمة احترقوا، فكان شعبان يرفع يده ويلوح برأسه، حاولنا إنقاذه لكن الأمر كان صعبا لأن الانفجارات لم تتوقف فكل دقيقة تنفجر إسطوانة غاز، وكانت النيران أعلى منا، ومع قدوم طواقم الدفاع المدني استطعنا فصل آخر خيمة عن النيران حتى لا تتمدد لباقي الخيام'.
بقلب مكسور، يصف المشهد: 'كان الأمر قاسيًا، رأيتُ الكثير من المشاهد القاسية خلال الحرب لكن ليس مثل احتراق شعبان لأنه كان حيًّا واحترق أمام الجميع ولم يستطع أحد فعل شيء له من علو النار وانفجار اسطوانات الغاز، وبمساعدة الطواقم خمدت النيران وأخرج شعبان وأمه وكانوا شهداء، وأصيب والده وثلاثة من أشقائه'.
جمعت المغاري بوالد شعبان علاقة جوار، كون الأخير يبيع مأكولات شعبية (فلافل) على بسطة صغيرة مقابل المشفى، وكان ابنه شعبان يساعده في البيع، يحكي 'بدأت علاقتنا من هنا، وعرفت والده إنسانًا مكافحًا ومحترمًا، وابنه شاب مؤدب وخلوق دائمًا تراه مبتسمًا، فكل يوم اشتري منه في الصباح والمساء'.
بداخل قسم العناية المتوسطة بمجمع ناصر الطبي، تقف غادة الدلو أمام سرير الطفل عبد الله (11 عامًا) تملأ الحروق وجهه وجسده، ترافق الطفل الذي نجى بحروق كبيرة حتى اللحظة ولا زالت العائلة تخفي خبر استشهاد أمه وشقيقه عنه خوفا على حالته الصحية والنفسية لشدة تعلقه بأمه، وعلى سرير آخر بالقسم ترقد شقيقته فرح (19 عامًا) بحروق شديدة طالت جميع أنحاء جسدها، فيما تتلقى شقيقتهم رهف (13 عامًا) العلاج بمستشفى آخر، أما والدهم فيمكث في العناية المركزة بمبنى آخر داخل مجمع ناصر الطبي بحروق مختلفة، بينما نجى شقيقهم محمد (17 عامًا) والذي نام ليلته خارج المشفى من الحريق.
إصابة قبل الحريق
قبل الحريق بلحظات استبدل الأب مكان نومه المفترض على السرير الطبي الذي احضر له لمعاناته من أوجاع بالظهر، وتركه لينام عليه نجله شعبان المصاب بشظايا في رأسه بعد قصف الاحتلال لمسجد يؤوي نازحين قبل عشرة أيام ونجى شعبان من تلك المجزرة، وكان الشاب يتلقى العلاج والمسكنات، فكان السرير قريبا من مصدر النيران التي أحرقته فيما منعته الإصابة من الحركة.
وقعت المجزرة في 6 أكتوبر/ تشرين أول الجاري، وذهب يومها شعبان للمسجد بسبب ضيق الخيمة، فاختار أن يفرغ مكانه لتتوسع العائلة، فاستشهد بالمجزرة 21 نازحنا بينهم أطفال وكبار سن، وتناثرت أشلاء الأطفال، بينما خرج مصابا بشظايا برأسه، واستمر بتلقي العلاج على مدار عشرة أيام وحتى استشهاده.
تنقل الدلو وهي زوجة عم فرح وعبد الله لموقع 'فلسطين أون لاين' ما رواه لها المصابان عن لحظة الحريق، فتقول: 'عندما شبت النار بالخيمة وانفجرت اسطوانة الغاز، ولم يستطع شعبان النهوض حاولت أمه مساعدته لكنها لم تستطع نقله فاحترقت معه ولم يستطع أحد انقاذهما، بينما قام والد شعبان بإنقاذ فرح ورهف وعبد الله وإخراجهم من داخل الحريق وأصيب بحروق بيده وقدم وشظايا برأسه'.
تعتقد الدلو أن 'إصابة شعبان حالت دون تمكنه من إسعاف نفسه في الثواني الأولى، كون المسكنات تؤدي إلى أن يغرق المصاب بالنوم، وعندما استيقظت واستوعب ما جرى كانت النار تحاصره'.
'وين ماما؟' لم تستطع الدلو التهرب من سؤال 'فرح' عن مصير أمها، فتلقت خبر الفقد بدموع وحزن، وهي تتذكر كيف أحرقت النار أمها وشقيقها أمامها، وهي بالكاد استطاعت أن ترمي نفسها بعيدا عن النار التي أحرقت شعرها ووجهها وجسدها، في حين أخفت الإجابة عن عبد الرحمن الذي تفصله عدة أمتار عن شقيقته داخل القسم، تردف: 'الولد متعلق بأمه كتير وما بدنا نحبطت نفسيته أكتر، بكفي أنه بصرخ وبعيط من الوجع فما بالك لو عرف باستشهاد أمه'.
نزحت العائلة منذ عام من حي النصر بمدينة غزة تحت ضربات الأحزمة النارية، واستقرت بدير البلح وسط القطاع قبل أن تنتقل لمحافظة رفح، ثم عادت العائلة واستقرت بخيمة داخل مستشفى شهداء الأقصى.
بملامح متعبة، يتدفق القهر من قلب الدلو 'من لحظة قصف خيام النازحين بالمشفى، طلبنا منهم الانتقال لشاطئ البحر لكنهم رفضوا معتقدين أن الوضع داخل المشفى أفضل، كما أن لديهم بسطة لبيع المأكولات الشعبية (فلافل) وكان مصدر الدخل الوحيد لهم، ووقت الحريق كان محمد (17 عاما) ابنهم الناجي من الحريق نائما فيه وهي خارج المشفى.
حلم الطبيب
حصل شعبان على معدل 98% بالفرع العلمي، وكان يتمني أن يصبح طبيبا وتحقيق حلم حياته الذي كبر معه، لكن الظروف المادية للعائلة حالت دون تحقيق حلمه فدرس تخصص البرمجة وكان بالسنة الدراسية الثانية فقتل الاحتلال حلمه، وبعد استشهاده نُشرت مساعي أمه الحثيثة ومناشداتها عبر صفحات مواقع التواصل في محاولة للحصول على منحة دراسية لإنقاذ حلمه، لكن لم تلبَ مناشداتها.
تعلقت أرواح شعبان وأمه ببعضهما، حفظ شعبان القرآن الكريم وكانت 'أخلاقه نسخة مكررة من أخلاق أمه الطيبة'، و'دائما كانت تفتخر به وباقي أولادها الذين ربتهم على التربية الحسنة والأخلاق الحميدة، قلوبنا تتمزق عليه، وشقيقته 'فرح' تصارحني وهي تبكي: 'كيف سأعيش بدون شعبان، فمن سيصارحني عندما أزعل، ويحبني مثله؟'، مشيرةً، إلى أن فرح تتعهد بتطبيق وصية أمها بالتعلم والتفوق، وأداء صلاتها التي لم تقطعها حتى وهي ترقد على سرير المشفى.
لحظة انتشار فيديو احتراق شعبان واستغاثته للعالم، كانت دموع نجاة اللقطة والمتواجدة بإحدى المستشفيات الأمريكية لعلاج ابنها 'آدم' المصاب بغزة، وهي شقيقة والدة شعبان آلاء الدلو تتساقط على شاشة الهاتف، تتعاطف وهي تحدث الممرضين الأمريكان عندما سمعوا صوت بكائها: 'يا حرام هالناس في الخيم بتموت حرق!'، قبل أن تنبته أن خيمة أختها بداخل المشفى.
تصفحت اللقطة هاتفها وقبل أن تتصل بشقيقتها للاطمئنان عليها الذي مر يوم واحد على آخر حديث بينهن عبر تطبيقات مواقع التواصل، تعثرت بمنشور نشره عمها ينعى شقيقتها وابنها شعبان، لتزداد الصدمة والبكاء تحت نظر عيون الممرضين والأطباء الأمريكان الذين ترعى حكومتهم جرائم الاحتلال.
تقول اللقطة لـ 'فلسطين أون لاين' بصوت يغلفه الحزن: 'كل صور شعبان وهو يحترق أثارت غضب قطاعات أمريكية شعبية، فخرجت مظاهرات منددة بالحريق، مشهد الحريق مدمي للقلب'.
تستحضر آخر حديث بينها وبين شعبان 'تحدثت معه قبل استشهاده بيوم، قال لي عندما سألته عن حاله: 'أنا بخير، وهيني بغير على الغرز'، وعندما أوصيته بالعناء بأمه، أجابني ضاحكا: 'جاية تحكيلي عن أمي، هي روحي'.
أما عن أمه فكان آخر ما تحدث به مع أختها، أنها تعبت من النوم على الأرض ومن حر الخيمة، ومن رؤية جثامين الشهداء والمصابين الذين لا يتوقفون من القدوم إلى المشفى، وعرفتها 'طيبة لا تزعل أحدا، وتسامح الجميع، وترضي ربها، وظلت بجانب ابنها حتى أتم حفظ القرآن الكريم'.
أخبار اليوم - كان يتقلب بالنار التي أضرمها الاحتلال في خيام النازحين بمستشفى شهداء الأقصى فجر الاثنين الموافق 14 أكتوبر/ تشرين أول 2024، يلوح برأسه تارة ويرفع يده تارة أخرى، بينما يقف المسعفون وكل من حاول انقاذه عاجزين عن التقدم أمام نار تتمدد مع انفجار اسطوانات الغاز بشكل متتابع، بحيث لم يستطع أحد الاقتراب.
شاهد العالم الشاب شعبان الدلو (20 عامًا) وهو يحترق حيًّا، والجميع سمع صوت استغاثته بين حمم النار لكن العالم الذي صمت عن جرائم مماثلة واصل الصمت عن جريمة إحراق النازحين وهم أحياء، وهي صرخة واحدة بين نار أكبر يعيشها أكثر من مليوني إنسان يكتوون بنار الحرب والقتل والحصار والتجويع في كل متر بقطاع غزة ويواصلون الاستغاثة.
استشهد شعبان في 14 أكتوبر قبل ذكرى ميلاده بيومين الذي يوافق 16 أكتوبر، تشرين أول، أضرم الاحتلال نارًا في ذكرى ميلاده أكبر من تلك التي كانت توقدها أمه على شمعة تضيء هذه الذكرى الجميلة منذ أن كان طفلا صغيرًا، فانطفأت وهج الذكرى التي ارتدت ثوبا حزينا عندما اجتمعت ذكرى الميلاد والاستشهاد في نفس التاريخ.
لحظة سقوط الصواريخ الإسرائيلية كان تيسير المغاري وهو يسكن قبالة المشفى، يقف على نافذة بيته، يراقب بعيون القلق التحليق المنخفض لطائرات الاحتلال بدون طيار ما يحمل إشارة 'استهداف وشيك في المكان'، فسرقت تلك الشوك الداخلية نومه وبقي مستيقظًا، حتى شاهد الصاروخ الأول يسقط بجوار العيادة الخارجية بساحة المشفى الساعة الثانية فجرًا.
صراخ داخل الخيام
'خرجت نار بسرعة من المكان، فنزلت من البيت وذهبت للمكان، وعندما وصلت حدث انفجار ثاني من أسطوانة غاز فاشتعلت النار للأعلى، في البداية كان صعبا تحديد مكان الاستهداف لكن بعد دقائق بدأنا نسمع صراخ من داخل خيام النازحين، ومن استطاع الهروب والفرار من النار هرب، وهناك من خرج مصابا بحروق' تتقلب المشاهد في ذاكرة تيسير المغاري وهو يروى لـ 'فلسطين أون لاين' بقلب مفجوع.
ويقول: 'لاحظنا أنه لم يخرج أحد من خيمة أبو شعبان، وبدأت الرؤية تتضح أن من في الخيمة احترقوا، فكان شعبان يرفع يده ويلوح برأسه، حاولنا إنقاذه لكن الأمر كان صعبا لأن الانفجارات لم تتوقف فكل دقيقة تنفجر إسطوانة غاز، وكانت النيران أعلى منا، ومع قدوم طواقم الدفاع المدني استطعنا فصل آخر خيمة عن النيران حتى لا تتمدد لباقي الخيام'.
بقلب مكسور، يصف المشهد: 'كان الأمر قاسيًا، رأيتُ الكثير من المشاهد القاسية خلال الحرب لكن ليس مثل احتراق شعبان لأنه كان حيًّا واحترق أمام الجميع ولم يستطع أحد فعل شيء له من علو النار وانفجار اسطوانات الغاز، وبمساعدة الطواقم خمدت النيران وأخرج شعبان وأمه وكانوا شهداء، وأصيب والده وثلاثة من أشقائه'.
جمعت المغاري بوالد شعبان علاقة جوار، كون الأخير يبيع مأكولات شعبية (فلافل) على بسطة صغيرة مقابل المشفى، وكان ابنه شعبان يساعده في البيع، يحكي 'بدأت علاقتنا من هنا، وعرفت والده إنسانًا مكافحًا ومحترمًا، وابنه شاب مؤدب وخلوق دائمًا تراه مبتسمًا، فكل يوم اشتري منه في الصباح والمساء'.
بداخل قسم العناية المتوسطة بمجمع ناصر الطبي، تقف غادة الدلو أمام سرير الطفل عبد الله (11 عامًا) تملأ الحروق وجهه وجسده، ترافق الطفل الذي نجى بحروق كبيرة حتى اللحظة ولا زالت العائلة تخفي خبر استشهاد أمه وشقيقه عنه خوفا على حالته الصحية والنفسية لشدة تعلقه بأمه، وعلى سرير آخر بالقسم ترقد شقيقته فرح (19 عامًا) بحروق شديدة طالت جميع أنحاء جسدها، فيما تتلقى شقيقتهم رهف (13 عامًا) العلاج بمستشفى آخر، أما والدهم فيمكث في العناية المركزة بمبنى آخر داخل مجمع ناصر الطبي بحروق مختلفة، بينما نجى شقيقهم محمد (17 عامًا) والذي نام ليلته خارج المشفى من الحريق.
إصابة قبل الحريق
قبل الحريق بلحظات استبدل الأب مكان نومه المفترض على السرير الطبي الذي احضر له لمعاناته من أوجاع بالظهر، وتركه لينام عليه نجله شعبان المصاب بشظايا في رأسه بعد قصف الاحتلال لمسجد يؤوي نازحين قبل عشرة أيام ونجى شعبان من تلك المجزرة، وكان الشاب يتلقى العلاج والمسكنات، فكان السرير قريبا من مصدر النيران التي أحرقته فيما منعته الإصابة من الحركة.
وقعت المجزرة في 6 أكتوبر/ تشرين أول الجاري، وذهب يومها شعبان للمسجد بسبب ضيق الخيمة، فاختار أن يفرغ مكانه لتتوسع العائلة، فاستشهد بالمجزرة 21 نازحنا بينهم أطفال وكبار سن، وتناثرت أشلاء الأطفال، بينما خرج مصابا بشظايا برأسه، واستمر بتلقي العلاج على مدار عشرة أيام وحتى استشهاده.
تنقل الدلو وهي زوجة عم فرح وعبد الله لموقع 'فلسطين أون لاين' ما رواه لها المصابان عن لحظة الحريق، فتقول: 'عندما شبت النار بالخيمة وانفجرت اسطوانة الغاز، ولم يستطع شعبان النهوض حاولت أمه مساعدته لكنها لم تستطع نقله فاحترقت معه ولم يستطع أحد انقاذهما، بينما قام والد شعبان بإنقاذ فرح ورهف وعبد الله وإخراجهم من داخل الحريق وأصيب بحروق بيده وقدم وشظايا برأسه'.
تعتقد الدلو أن 'إصابة شعبان حالت دون تمكنه من إسعاف نفسه في الثواني الأولى، كون المسكنات تؤدي إلى أن يغرق المصاب بالنوم، وعندما استيقظت واستوعب ما جرى كانت النار تحاصره'.
'وين ماما؟' لم تستطع الدلو التهرب من سؤال 'فرح' عن مصير أمها، فتلقت خبر الفقد بدموع وحزن، وهي تتذكر كيف أحرقت النار أمها وشقيقها أمامها، وهي بالكاد استطاعت أن ترمي نفسها بعيدا عن النار التي أحرقت شعرها ووجهها وجسدها، في حين أخفت الإجابة عن عبد الرحمن الذي تفصله عدة أمتار عن شقيقته داخل القسم، تردف: 'الولد متعلق بأمه كتير وما بدنا نحبطت نفسيته أكتر، بكفي أنه بصرخ وبعيط من الوجع فما بالك لو عرف باستشهاد أمه'.
نزحت العائلة منذ عام من حي النصر بمدينة غزة تحت ضربات الأحزمة النارية، واستقرت بدير البلح وسط القطاع قبل أن تنتقل لمحافظة رفح، ثم عادت العائلة واستقرت بخيمة داخل مستشفى شهداء الأقصى.
بملامح متعبة، يتدفق القهر من قلب الدلو 'من لحظة قصف خيام النازحين بالمشفى، طلبنا منهم الانتقال لشاطئ البحر لكنهم رفضوا معتقدين أن الوضع داخل المشفى أفضل، كما أن لديهم بسطة لبيع المأكولات الشعبية (فلافل) وكان مصدر الدخل الوحيد لهم، ووقت الحريق كان محمد (17 عاما) ابنهم الناجي من الحريق نائما فيه وهي خارج المشفى.
حلم الطبيب
حصل شعبان على معدل 98% بالفرع العلمي، وكان يتمني أن يصبح طبيبا وتحقيق حلم حياته الذي كبر معه، لكن الظروف المادية للعائلة حالت دون تحقيق حلمه فدرس تخصص البرمجة وكان بالسنة الدراسية الثانية فقتل الاحتلال حلمه، وبعد استشهاده نُشرت مساعي أمه الحثيثة ومناشداتها عبر صفحات مواقع التواصل في محاولة للحصول على منحة دراسية لإنقاذ حلمه، لكن لم تلبَ مناشداتها.
تعلقت أرواح شعبان وأمه ببعضهما، حفظ شعبان القرآن الكريم وكانت 'أخلاقه نسخة مكررة من أخلاق أمه الطيبة'، و'دائما كانت تفتخر به وباقي أولادها الذين ربتهم على التربية الحسنة والأخلاق الحميدة، قلوبنا تتمزق عليه، وشقيقته 'فرح' تصارحني وهي تبكي: 'كيف سأعيش بدون شعبان، فمن سيصارحني عندما أزعل، ويحبني مثله؟'، مشيرةً، إلى أن فرح تتعهد بتطبيق وصية أمها بالتعلم والتفوق، وأداء صلاتها التي لم تقطعها حتى وهي ترقد على سرير المشفى.
لحظة انتشار فيديو احتراق شعبان واستغاثته للعالم، كانت دموع نجاة اللقطة والمتواجدة بإحدى المستشفيات الأمريكية لعلاج ابنها 'آدم' المصاب بغزة، وهي شقيقة والدة شعبان آلاء الدلو تتساقط على شاشة الهاتف، تتعاطف وهي تحدث الممرضين الأمريكان عندما سمعوا صوت بكائها: 'يا حرام هالناس في الخيم بتموت حرق!'، قبل أن تنبته أن خيمة أختها بداخل المشفى.
تصفحت اللقطة هاتفها وقبل أن تتصل بشقيقتها للاطمئنان عليها الذي مر يوم واحد على آخر حديث بينهن عبر تطبيقات مواقع التواصل، تعثرت بمنشور نشره عمها ينعى شقيقتها وابنها شعبان، لتزداد الصدمة والبكاء تحت نظر عيون الممرضين والأطباء الأمريكان الذين ترعى حكومتهم جرائم الاحتلال.
تقول اللقطة لـ 'فلسطين أون لاين' بصوت يغلفه الحزن: 'كل صور شعبان وهو يحترق أثارت غضب قطاعات أمريكية شعبية، فخرجت مظاهرات منددة بالحريق، مشهد الحريق مدمي للقلب'.
تستحضر آخر حديث بينها وبين شعبان 'تحدثت معه قبل استشهاده بيوم، قال لي عندما سألته عن حاله: 'أنا بخير، وهيني بغير على الغرز'، وعندما أوصيته بالعناء بأمه، أجابني ضاحكا: 'جاية تحكيلي عن أمي، هي روحي'.
أما عن أمه فكان آخر ما تحدث به مع أختها، أنها تعبت من النوم على الأرض ومن حر الخيمة، ومن رؤية جثامين الشهداء والمصابين الذين لا يتوقفون من القدوم إلى المشفى، وعرفتها 'طيبة لا تزعل أحدا، وتسامح الجميع، وترضي ربها، وظلت بجانب ابنها حتى أتم حفظ القرآن الكريم'.
أخبار اليوم - كان يتقلب بالنار التي أضرمها الاحتلال في خيام النازحين بمستشفى شهداء الأقصى فجر الاثنين الموافق 14 أكتوبر/ تشرين أول 2024، يلوح برأسه تارة ويرفع يده تارة أخرى، بينما يقف المسعفون وكل من حاول انقاذه عاجزين عن التقدم أمام نار تتمدد مع انفجار اسطوانات الغاز بشكل متتابع، بحيث لم يستطع أحد الاقتراب.
شاهد العالم الشاب شعبان الدلو (20 عامًا) وهو يحترق حيًّا، والجميع سمع صوت استغاثته بين حمم النار لكن العالم الذي صمت عن جرائم مماثلة واصل الصمت عن جريمة إحراق النازحين وهم أحياء، وهي صرخة واحدة بين نار أكبر يعيشها أكثر من مليوني إنسان يكتوون بنار الحرب والقتل والحصار والتجويع في كل متر بقطاع غزة ويواصلون الاستغاثة.
استشهد شعبان في 14 أكتوبر قبل ذكرى ميلاده بيومين الذي يوافق 16 أكتوبر، تشرين أول، أضرم الاحتلال نارًا في ذكرى ميلاده أكبر من تلك التي كانت توقدها أمه على شمعة تضيء هذه الذكرى الجميلة منذ أن كان طفلا صغيرًا، فانطفأت وهج الذكرى التي ارتدت ثوبا حزينا عندما اجتمعت ذكرى الميلاد والاستشهاد في نفس التاريخ.
لحظة سقوط الصواريخ الإسرائيلية كان تيسير المغاري وهو يسكن قبالة المشفى، يقف على نافذة بيته، يراقب بعيون القلق التحليق المنخفض لطائرات الاحتلال بدون طيار ما يحمل إشارة 'استهداف وشيك في المكان'، فسرقت تلك الشوك الداخلية نومه وبقي مستيقظًا، حتى شاهد الصاروخ الأول يسقط بجوار العيادة الخارجية بساحة المشفى الساعة الثانية فجرًا.
صراخ داخل الخيام
'خرجت نار بسرعة من المكان، فنزلت من البيت وذهبت للمكان، وعندما وصلت حدث انفجار ثاني من أسطوانة غاز فاشتعلت النار للأعلى، في البداية كان صعبا تحديد مكان الاستهداف لكن بعد دقائق بدأنا نسمع صراخ من داخل خيام النازحين، ومن استطاع الهروب والفرار من النار هرب، وهناك من خرج مصابا بحروق' تتقلب المشاهد في ذاكرة تيسير المغاري وهو يروى لـ 'فلسطين أون لاين' بقلب مفجوع.
ويقول: 'لاحظنا أنه لم يخرج أحد من خيمة أبو شعبان، وبدأت الرؤية تتضح أن من في الخيمة احترقوا، فكان شعبان يرفع يده ويلوح برأسه، حاولنا إنقاذه لكن الأمر كان صعبا لأن الانفجارات لم تتوقف فكل دقيقة تنفجر إسطوانة غاز، وكانت النيران أعلى منا، ومع قدوم طواقم الدفاع المدني استطعنا فصل آخر خيمة عن النيران حتى لا تتمدد لباقي الخيام'.
بقلب مكسور، يصف المشهد: 'كان الأمر قاسيًا، رأيتُ الكثير من المشاهد القاسية خلال الحرب لكن ليس مثل احتراق شعبان لأنه كان حيًّا واحترق أمام الجميع ولم يستطع أحد فعل شيء له من علو النار وانفجار اسطوانات الغاز، وبمساعدة الطواقم خمدت النيران وأخرج شعبان وأمه وكانوا شهداء، وأصيب والده وثلاثة من أشقائه'.
جمعت المغاري بوالد شعبان علاقة جوار، كون الأخير يبيع مأكولات شعبية (فلافل) على بسطة صغيرة مقابل المشفى، وكان ابنه شعبان يساعده في البيع، يحكي 'بدأت علاقتنا من هنا، وعرفت والده إنسانًا مكافحًا ومحترمًا، وابنه شاب مؤدب وخلوق دائمًا تراه مبتسمًا، فكل يوم اشتري منه في الصباح والمساء'.
بداخل قسم العناية المتوسطة بمجمع ناصر الطبي، تقف غادة الدلو أمام سرير الطفل عبد الله (11 عامًا) تملأ الحروق وجهه وجسده، ترافق الطفل الذي نجى بحروق كبيرة حتى اللحظة ولا زالت العائلة تخفي خبر استشهاد أمه وشقيقه عنه خوفا على حالته الصحية والنفسية لشدة تعلقه بأمه، وعلى سرير آخر بالقسم ترقد شقيقته فرح (19 عامًا) بحروق شديدة طالت جميع أنحاء جسدها، فيما تتلقى شقيقتهم رهف (13 عامًا) العلاج بمستشفى آخر، أما والدهم فيمكث في العناية المركزة بمبنى آخر داخل مجمع ناصر الطبي بحروق مختلفة، بينما نجى شقيقهم محمد (17 عامًا) والذي نام ليلته خارج المشفى من الحريق.
إصابة قبل الحريق
قبل الحريق بلحظات استبدل الأب مكان نومه المفترض على السرير الطبي الذي احضر له لمعاناته من أوجاع بالظهر، وتركه لينام عليه نجله شعبان المصاب بشظايا في رأسه بعد قصف الاحتلال لمسجد يؤوي نازحين قبل عشرة أيام ونجى شعبان من تلك المجزرة، وكان الشاب يتلقى العلاج والمسكنات، فكان السرير قريبا من مصدر النيران التي أحرقته فيما منعته الإصابة من الحركة.
وقعت المجزرة في 6 أكتوبر/ تشرين أول الجاري، وذهب يومها شعبان للمسجد بسبب ضيق الخيمة، فاختار أن يفرغ مكانه لتتوسع العائلة، فاستشهد بالمجزرة 21 نازحنا بينهم أطفال وكبار سن، وتناثرت أشلاء الأطفال، بينما خرج مصابا بشظايا برأسه، واستمر بتلقي العلاج على مدار عشرة أيام وحتى استشهاده.
تنقل الدلو وهي زوجة عم فرح وعبد الله لموقع 'فلسطين أون لاين' ما رواه لها المصابان عن لحظة الحريق، فتقول: 'عندما شبت النار بالخيمة وانفجرت اسطوانة الغاز، ولم يستطع شعبان النهوض حاولت أمه مساعدته لكنها لم تستطع نقله فاحترقت معه ولم يستطع أحد انقاذهما، بينما قام والد شعبان بإنقاذ فرح ورهف وعبد الله وإخراجهم من داخل الحريق وأصيب بحروق بيده وقدم وشظايا برأسه'.
تعتقد الدلو أن 'إصابة شعبان حالت دون تمكنه من إسعاف نفسه في الثواني الأولى، كون المسكنات تؤدي إلى أن يغرق المصاب بالنوم، وعندما استيقظت واستوعب ما جرى كانت النار تحاصره'.
'وين ماما؟' لم تستطع الدلو التهرب من سؤال 'فرح' عن مصير أمها، فتلقت خبر الفقد بدموع وحزن، وهي تتذكر كيف أحرقت النار أمها وشقيقها أمامها، وهي بالكاد استطاعت أن ترمي نفسها بعيدا عن النار التي أحرقت شعرها ووجهها وجسدها، في حين أخفت الإجابة عن عبد الرحمن الذي تفصله عدة أمتار عن شقيقته داخل القسم، تردف: 'الولد متعلق بأمه كتير وما بدنا نحبطت نفسيته أكتر، بكفي أنه بصرخ وبعيط من الوجع فما بالك لو عرف باستشهاد أمه'.
نزحت العائلة منذ عام من حي النصر بمدينة غزة تحت ضربات الأحزمة النارية، واستقرت بدير البلح وسط القطاع قبل أن تنتقل لمحافظة رفح، ثم عادت العائلة واستقرت بخيمة داخل مستشفى شهداء الأقصى.
بملامح متعبة، يتدفق القهر من قلب الدلو 'من لحظة قصف خيام النازحين بالمشفى، طلبنا منهم الانتقال لشاطئ البحر لكنهم رفضوا معتقدين أن الوضع داخل المشفى أفضل، كما أن لديهم بسطة لبيع المأكولات الشعبية (فلافل) وكان مصدر الدخل الوحيد لهم، ووقت الحريق كان محمد (17 عاما) ابنهم الناجي من الحريق نائما فيه وهي خارج المشفى.
حلم الطبيب
حصل شعبان على معدل 98% بالفرع العلمي، وكان يتمني أن يصبح طبيبا وتحقيق حلم حياته الذي كبر معه، لكن الظروف المادية للعائلة حالت دون تحقيق حلمه فدرس تخصص البرمجة وكان بالسنة الدراسية الثانية فقتل الاحتلال حلمه، وبعد استشهاده نُشرت مساعي أمه الحثيثة ومناشداتها عبر صفحات مواقع التواصل في محاولة للحصول على منحة دراسية لإنقاذ حلمه، لكن لم تلبَ مناشداتها.
تعلقت أرواح شعبان وأمه ببعضهما، حفظ شعبان القرآن الكريم وكانت 'أخلاقه نسخة مكررة من أخلاق أمه الطيبة'، و'دائما كانت تفتخر به وباقي أولادها الذين ربتهم على التربية الحسنة والأخلاق الحميدة، قلوبنا تتمزق عليه، وشقيقته 'فرح' تصارحني وهي تبكي: 'كيف سأعيش بدون شعبان، فمن سيصارحني عندما أزعل، ويحبني مثله؟'، مشيرةً، إلى أن فرح تتعهد بتطبيق وصية أمها بالتعلم والتفوق، وأداء صلاتها التي لم تقطعها حتى وهي ترقد على سرير المشفى.
لحظة انتشار فيديو احتراق شعبان واستغاثته للعالم، كانت دموع نجاة اللقطة والمتواجدة بإحدى المستشفيات الأمريكية لعلاج ابنها 'آدم' المصاب بغزة، وهي شقيقة والدة شعبان آلاء الدلو تتساقط على شاشة الهاتف، تتعاطف وهي تحدث الممرضين الأمريكان عندما سمعوا صوت بكائها: 'يا حرام هالناس في الخيم بتموت حرق!'، قبل أن تنبته أن خيمة أختها بداخل المشفى.
تصفحت اللقطة هاتفها وقبل أن تتصل بشقيقتها للاطمئنان عليها الذي مر يوم واحد على آخر حديث بينهن عبر تطبيقات مواقع التواصل، تعثرت بمنشور نشره عمها ينعى شقيقتها وابنها شعبان، لتزداد الصدمة والبكاء تحت نظر عيون الممرضين والأطباء الأمريكان الذين ترعى حكومتهم جرائم الاحتلال.
تقول اللقطة لـ 'فلسطين أون لاين' بصوت يغلفه الحزن: 'كل صور شعبان وهو يحترق أثارت غضب قطاعات أمريكية شعبية، فخرجت مظاهرات منددة بالحريق، مشهد الحريق مدمي للقلب'.
تستحضر آخر حديث بينها وبين شعبان 'تحدثت معه قبل استشهاده بيوم، قال لي عندما سألته عن حاله: 'أنا بخير، وهيني بغير على الغرز'، وعندما أوصيته بالعناء بأمه، أجابني ضاحكا: 'جاية تحكيلي عن أمي، هي روحي'.
أما عن أمه فكان آخر ما تحدث به مع أختها، أنها تعبت من النوم على الأرض ومن حر الخيمة، ومن رؤية جثامين الشهداء والمصابين الذين لا يتوقفون من القدوم إلى المشفى، وعرفتها 'طيبة لا تزعل أحدا، وتسامح الجميع، وترضي ربها، وظلت بجانب ابنها حتى أتم حفظ القرآن الكريم'.
التعليقات