بقلم المؤرخ المفكر المعارض السياسي
د احمد عويدي العبادي ( أبو البشر ونمي )
( ح31) قصة عجايب وسليمان الخريشة ومقارنتهما بالأميرة هند الفزارية زوجة الحجاج
كانت الشيخة عجايب رحمها الله، مضرب الامثال في الجمال وحسن الاخلاق والتربية، والذوق الأردني الرفيع فالذوق أساس الاخلاق ويسبقها، والأخلاق أساس العلم وتسبقه، والعلم أساس الايمان، والعلم بلا ايمان هرطقة والايمان بلا علم زندقة، وكلها مبنية على الذوق وهي ( الفطرة ) التي ذكرها الله سبحانه في القران الكريم، اذ قال تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) سورة الروم
وفي الحديث الشريف روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ(ومعناه أن البهيمة تلد البهيمة كاملة الأعضاء لا نقص فيها ، وإنما يحدث فيها الجدع والنقص بعد ولادتها) هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ (الجواب لا، حتى يكون مالكها يجدعها) )
فقد ولدت الشيخة عجايب على الفطرة والذوق الرفيع وتربَّت على الاخلاق الحميدة المجيدة ، التي اعتدت الاردنيات ان يتربَّين عليها، وتعلمت القراءة والكتابة وقراءة القران الكريم، على يدي زوجة الشيخ ( ويسميه الأردنيون القدامى : الخطيب الذي علَّم ابن عمها ( سليمان ) القراءة والكتابة وقراءة القران الكريم ), وكانت في بيئة اردنية نقية طبيعية واجتماعية وأسرية، فعشقت ابن عمها بصدق وعمق وبقيت مخلصة له، وهو لها كذلك، وكان المرسال بينها وبين عمها ( العبدة ام جوهر / اسم مجازي ) وهي تراها كل يوم لانهما في مضارب واحدة وبيوت متجاورة، ولا مانع ولا شك في ان تتحرك ( العبدة ) بين البيوت، ومعها سرا وهو حمل الرسائل المتبادلة بين عجايب وسليمان ثم يتم حرقها بعد الفروغ منها فحرمونا من ادبيات العشق النقي في ذلك الزمن .
وكأن عجايب تكرر مقولة هند الفزارية وهي بنت أسماء بن خارجة الفزارية من سيدات العرب النبيلات الشامخات كراما وكرما ومجدا وعفة ورقيّا، تزوجها عبيد الله بن زياد ابن ابيه والي العراق زمن الامويين، وكانا لا يفترقان في سفر ولا حضر، وقد شغفها حبًا، فلما مات فتلا نظرت في وجهه وودعته ميتا وهي تقول : إني لأشتاق إلى القيامة لأرى وجهه)
قُتل زوجها عبيد الله بن زياد سنة 67هـ يوم الخازر قرب الموصل على يد جيش المختار بن أبي عبيد الثقفي الخارجي ، وهي معه، فقالت: لا يستمكن هؤلاء مني، ثم شدت عليها قباءه وعمامته ومنطقته، وركبت فرسه التي كان اسمها (الكامل) ، ثم خرجت حتى دخلت الكوفة في بقية يومها وليلتها ليس معها دليل أو أنيس.
ولما تولى بشر بن مروان بن الحكم الكوفة أميراً على العراقين وُصٍفت له، وكان أخو الخليفة عبد الملك بن مروان، فخطبها بشر وتزوجها فولدت له عبد الملك، ومات بشر سنة 75 فأرسل إليها الحجاج بن يوسف الثقفي لما ولي العراق يطلب الطفل عبد الملك ليربيه تربية الأمراء، فأذعنت.
ثم تزوجها الحجاج بن يوسف، ثم طلقها في قصة مشهورة لأنها كرهته واهانته، فلما خُطٍبت بعده قالت: لا أتزوج إلا من لا تُرد قضاياه، ولا تُودى قتلاه، وهي تقابل المقولة الأردنية (سيفه ضافي وقتيله هافي ) وتقصد الخليفة، وكان عبد الملك بن مروان كان الحجاج بن يوسف يحب أن يتزوج من بيوتات العرب المعروفة بالرئاسة، وكان الناس يتقربون إليه بذلك، فدله محمد بن عمير بن عطارد على هند بنت أسماء ووصفها له وقال: تزوجها أيها الأمير فإنها في بيت قيس،
فأرسل الحجاج أيوب مندوبه (بن القرية - وكان من فصحاء العرب -) وقال له: اخطب عليّ هند بنت أسماء، ولا تزد على ثلاث كلمات، فأتاهم فقال: أتيتكم من عند من تعلمون، والأمير معطيكم ما تسألون، أفتنكحون أم تردّون؟
قالوا: بل أنكحنا وأنعمنا. فرجع ابن القرّية إلى الحجّاج فقال: أقرّ اللّه عينك، وجمعٍ شملك، وأنبت ريعك؛ على الثبات والنبات، والغنى حتى الممات؛ جعلها اللّه ودوداً ولوداً، وجمع بينكما على البركة والخير.
ومن النوادر البيانية بين الحجاج وزوجته الاميرة هند الفزارية هذه، عندما تكلمت هند بنت أسماء بن خارجة الفزارية ، فلحنت وهي عند الحجاج، (واللحن هو الخطأ باللغة العربية) فقال لها: أتلحنين وأنت شريفة في بيت قيس ؟!
فقالت: أما سمعت قول أخي مالك لامرأته الأنصارية؟ قال: وما هو؟ قالت: قال:
منطق صائب وتلحن أحيانًا وخير الحديث ما كان لحنًا ( أي تقول كلاما وتقصد به شيء معين)
فقال لها الحجاج: إنما عني أخوك اللحن في القول، إذا كَنَّى المحدث عما يريد، ولم يعن اللحن في العربية، فأصلحي لسانك !
وبنى الحجاج قصراً في البصرة، عُرِف ب (قصر الحجاج ) ونزل به، فقال لها يوما: هل رأيت أحسن من هذا القصر؟ فقالت: ما أحسنه! قال: اصدقيني،
فقالت: أما إذ أبيت، فوالله ما رأيت أحسن من القصر الأحمر! وكان دار الإمارة بالبصرة، بناه زوجها الأول عبيد الله بن زياد،
فغضب الحجاج وأمر ابن القِرِّية أن يأتي هندَ بنت أسماء فيطلقها بكلمتين، ويُمَتَعها بعشرة آلاف درهم؛ فأتاها فقال لها: إن الحجّاج يقول لك: كنتِ فبِنْتِ، وهذه عشرة آلاف مُتْعة لك؛ فقالت: قل له: كنا فما حَمدنا، وبِنّا فما ندمْنَا؛ وهذه العشرة الآلاف لك ببشارتك إياي بطلاقي
وجاءت قصة طلاقها هذ في روايات متعددة، ومنها رواية سناتي عليها لاحقا في هذا الكتاب بعون الله تعتلى ) ولكنها جاءت بنفس المعنى والهدف، وان الاختلاف هو بسبب تلاعب الرواة والحكواتية ).
ما ذكرناه من وصف للعشق من الزوجة لزوجها كما جاء على لسان الاميرة هند الفزارية، انما هو وصف دقيق سبق قبل 1200 سنة لعشق عجايب لابن عمها الشيخ سليمان الخريشة، لو ارادت ( عجايب ) ان تعبر عن حبها للشيخ سليمان لو مات قبلها، وأنها ستقول هذه الكلمات بدون نقص ولا زيادة، مقرونة بالنحيب .
كانت عجايب الخريشة أميرة وشيخة اردنية بدوية جذامية صخرية، طاهرة الجيب خالية من العيب، بالفطرة والوراثة العائلية والوطنية، ولم تكن اميرة بالصدفة ولا بسبب زواجها، فهي مكافئة لابن عمها ( سليمان ) نسبا وحسبا وتربية واخلاقا، وبالتالي فان لقبها كاميرة او شيخة، لم يأتي اليها بالاكتساب ولا بالصدفة ولا من دهاليز مظلة ولا من معاقل الظلم والظلام التركي في حينه او غيره، ولا بقرار من السلطة العثمانية او أي سلطة أخرى، فهي صاحبة الشرعية النقية الاصيلة المتجذرة لهذا اللقب، التي لا يمحوها الانكار، وليست صاحبة شرعية زائفة او طارئة لا يعرفها الناس الا من خلال نقر دف، وعزف مزمار، وحاشية من التنابلة، وشتان بين الشرعيتين، بين زبد يذهب جفاء ويُشقي الناس، وبين ماء يمكث في الأرض فينفع الناس
الشيخة عجايب لم يكن لقبها مكتسبا ولا ثوبا مستعارا ولا مستوردا، ليتم تبديله كل يوم او عند كل حركة، انه ثوب العفة الأردنية الذي ترتديه كل اردنية متجذرة، نبتت من تراب الأردن ولم تنزل اليه بالصدفة التاريخية او الترتيبات غير المرئية، وهذا شان كل اردنية تمسكت بتراثنا وهويتنا ورعيتنا الى يومنا هذا وما بعده
لقب الشيخة الذي كانت تحمله الشيخة عجايب، هو لقب حقيقي وغير مكتسب ممزوج بشخصيتها ودمها وسحنتها وفطرتها وسمو عائلتها ورقي ذوقها، , لا يمكن سلخه عنها بقرار، لانه جزء من دمها وجيناتها الوراثية، ويليق بها وهي به تليق ، ولا زال لاصقا بها الى يومنا هذا والى يوم القيامة بعد قرون من موتها رحمها الله ورحمنا جميعا امواتا واحياء
وكما ورد الينا من وصف الشيخة عجايب انها كانت فارعة الطول نحيفة القد صافية الخد، عجيبة في جمالها وملاحتها وجاذبيتها واخلاقها وسلوكها ( الملاحة هي الجمال المقترن بالجاذبية، فالجمال بلا جاذبية هو مادة بلا روح، ولا يكتمل الحسن الا إذا امتزج الجمال بالجاذبية، وهي صفة الشيخة عجايب )
والملاحة عند العرب هي قمة الجمال كما قال الشاعر
قل للمليحة في الخمار الأسود ** ماذا فعلت بناسك متعبدِ
قد كان شمر للصلاة ثيابه ** حتى وقفت له بباب المسجدِ
ردي عليه صلاته وصيامه ** لا تقتليه بحق دين محمدِ
الشيخة عجايب الخريشة : عريقة وعريبة الجَدّ نحيفة القَدّ عفيفة اللسان والبيان، ونظيفة الجيب عن العيب، عشقت ابن عمها الفارس الشيخ سليمان ولم تعشق غيره في حياتها، رغم انها كانت موضع اماني القريب والغريب، كما ان ابن عمها عشقها، ولم يعشق غيرها ولم يتزوج عليها، رغم سيادة ثقافة التعدد آنذاك، ورغم انه كان مطلب الملاح من كل المضارب والبطاح
أقول : ورغم انه كان مطلب النشميات من قبيلته وغيرها من بنات شيوخ القبائل الأخرى، البنات البدويات الجميلات اللواتي بطبعهن يعشقن الفرسان والكرماء. وهو الفارس والامير الكريم، وفارس أحلام كل فتاة في عصره، وأكرر القول انه لم يتزوج عليها رغم ثقافة التعدد في ذلك الزمن
فالبدوية بطبعها تعشق الفارس والكريم والرجل الشهم النشمي , وهي صفات الشيخ سليمان بلا منازع، ¸وتحتقر وتكره الرديء ( يسمونه الرِّدي : وهو الخالي من الغيرة والشهامة، ويسمونه النذل , ويسمونه المْشِمّ وعندما يذكرونه يقولون سَنْحُه وَلّ عليه أي ( له الويل ) وتكره وتحتقر البخيل ( يسمونه البخيس، الذي هو لشدة بخله , لا يبول على يد المجروح) وتكره الجبان ( يسمونه الساقط، وأيضا الهتيكةHateechah أي مهتوك الستر العاجز عن الدفاع عن الحلة والمحلة والديرة والعشيرة والأرض والعرض ) والمتردد ( يسمونه الخويثة، ما يدري الله وين حاطُّه )
وكانت البدوية لا يهمها التعدد عند شخص توفرت به صفات الرجولة والشجاعة والكرم والشهامة والمرة والفزعة عند النداء، وتقبل ان تكون ثانية او ثالثة او رابعة،
وبذلك يقول المثل الأردني ( قيراط بالخيِّر ولا النذل كله ) أي ربع في الرجل الشهم ولا الشخص النذل بكامله، أي ان تكون زوجة لرجل متزوج من عدة زوجات، ضمن التعدد، ولها ضُرَّة او أكثر، خير لها من تكون زوجة وحيدة لرجل نذل ( ساقط ), ذلك ان من حق بنت ( بالمفرد والجمع ) الشيخ ان تختار من تتزوج ولا يجوز اجبارها على الزواج من شخص لا تريده اطلاقا، ولها الحق في الطلاق أيضا، وبنات الشيوخ عادة يعشقن الفرسان والأسخياء (مفردها السخي أي الكريم وليس شرطا ان يكون غنيا، فالسخاء شيء والغنى شيء اخر ) ،
وفي ذلك يقول الامام الشافعي (150 هـ - 204 هـ / 767م - 820م) رضي الله عنه :
وكن رجلاً على الأهوال جلداً وشيمتك السماحة والسخاء
ُيغطَّى بالسماحة كلُّ عيب، وكم عيب يغطيه السخاء
وقد استفادت الشيخة عجايب من هذا القانون العشائري الحضاري الرائع الخاص ببنات الشيوخ، في موضوع حرية الفتاة في اختيار الزوج، واستغلته اعلى درجات الاستغلال، ولكن بذكاء ودهاء برفض جميع الخَطّابين، وأعلنت بموجب هذا القانون العشائري، انها لن تتزوج الا ابن عمها سليمان، والا فإنها لن تتزوج ابدا .
وهذا يبين روعة مجتمع القبيلة الأردنية وحقوق المرأة فيها، التي لم تكن مضطهدة عند العشائر الكريمة، الا عندما خضعت للأطراف اللئيمة من شتى المنابت والأصول من الزوائد الدودية والبضاعة المُزجاة .
وكان من حق بنات الشيوخ طلب الطلاق أيضا، وحينها يجب ان يتم الطلاق، لان بنت الشيوخ كما قال الشاعر البدوي حمد بن منوه الجعفري ( لا تنغصب على غير مشهاة، أي لا يجوز اجبارها على الزواج ممن لا تحبه، ولا ان تبقى في ذمته وهي تقرر الطلاق )
وفي ذلك قصة جميلة لهذا الشاعر عندما تزوج فتاة بدوية جميلة تتدفق حيوية وجاذبية وجمالا وشبابا وطاقة طافحة ، وكانت من بنات الشيوخ، ولكنه لم يكن قادرا على أداء مهمات الزوج المطلوبة لمثل عمرها ، فعادت الى أهلها غاضبة منه، ومفارقة له
طلبت الطلاق معتمدة في حجتها قصيدة لنفس الزوج (الشيخ حمد بن منوه الجعفري) ورفضت العودة اليه، ولكنه أرسل اليها مرسالا ليأخذ قرارها النهائي فأرسلت اليه بيتين من الشعر هي من شعره هو نفسه
وقالت: أنا معاضبة مشيرة إلى قوله:( أنا أشهد أن فرق المعاضب جماله // أي ان فراق العايف عمل جميل ) فقال: نعم اذهبي إلى أهلك وطلقها بسبب ما قدمته من حجة عليه مما قاله في تلك القصيدة، واحترم نفسه وطلقها،
ولو انه لم يفعل فإنها ستقاضيه وستكون حجتها هي ابيات الشعر التي قالها، لكنه اختصر الامر من بدايته .
ونذكر من القصيدة هنا التي قالها الشيخ حمد بن منوه الجعفري ما هو متعلق بالحالة :
وقـلـبـي الـلـي بـه ثـمـانـيـن دالـــة وكـل دالـةٍ بـهـا دوالـيـل واشـــراه
أسايلك بالله عظيم المسالة ( السؤال والمساءلة) = ان تَنْغَصِب نفسا على غير مَشْهاه
ثم يحيب نفسه قائلا
: انا اشهد ان فرق المعاضب جِمَالة = ولو هو وَلدْك ولا يريدك بْليّاه
وقالت للمرسال ( انا معاضب ) وبذلك حكم الطلاق واعطاها مطلبها
واما فيما يتعلق بالشيخة عجايب، فقد كان الشيخ سليمان هو كل شيء، هو حبها ودمها ولحمها وروحها في حب يصلح ان يكون قصة إنسانية عالمية، ¸الحب النقي العفيف الشريف الذي يحمل ارث الإباء، وكانت تتطلع ان تنجب منه ولدا اميرا يكون كأبيها يُرْوي الرمح من دماء الأعداء (مروِّي شبا الزان ) ومثل اخيها يحمي الإبل من الغزو ( وأخوي حمَّاي البكار المتالي ) , وشبيه لابن عمها سليمان ( ذبَّاح طوابير العساكر قبالي )
ولا تتفق وتجتمع هذه المواصفات في أي رجل في القبائل في حينه الا بفتى احلامها، وهو ابن عمها الشيخ سليمان، الذي يقتل العساكر ولا يهاب الموت، ويهاب منه العساكر ( ذبَّاح طوابير العساكر قبالي ) ,
وهو أيضا حبيبها الذي يحمل اسم جدها الفارس سليمان الأول أيضا، فهذه مواصفات لا يمكن مقاومتها من فتاة ذات عقل وخلق ودين واصل وبعد نظر، وحرية في اختيار الزوج، ولا يمكن ان تجدها الا في ابن عمها الشيخ سليمان الخريشة
والنتيجة ان سليمان الخريشة هو مطلبها، لصفاته التي ترى فيها اباها او اخاها وهما موضع اعتزازها، وبالتالي فكل منهم جميعا يستحق الفنجان الأول والفنجان الثاني كونه كريم وفارس وهذه صفات كان يعشقها اهل البادية رجالا ونساءً،
وفي ذلك يقول الشاعر البدوي عن تقديم فنجان القهوة للرجال في المجلس ( مع اختلاف الروايات من يكون صاحب هذه الأبيات) :
صُبَّه ومِدَّه للي تَدْفق السمن يمناه طول الليالي مارَدَه ما يضوحِ
وْثنِّي وصبّه للي تكره الخيل طرياه يرخص بعمره عند راعي اللُّدوحِ
ثلِّث وصبه للي يزعج النزل طرياه يضوي اليا صكَّت عليه النّبوحِ
وباقي الرجال فحول نسوان وِرْعاة حِرَّاس مال ويتبعون السّروحِ
أي أنه يتم صب القهوة أولاً: للكريم الذي تدفق السمن يمناه ( وسليمان منهم ) صاحب البيت الكريم المفتوح (طول الزمن ما رده ما يضوح) أي لا ينضب ولا ينقطع من الضيوف.
ثانياً: للفارس الذي لا يهاب المغازي الذي بدونه تُسْلَب العشيرة، وهو الذي يهبُّ لنجدة قومه ويرد العدو ويدحره ويدافع عن حياض العشيرة، وأموالها وبيوتها وحلالها ( الحِلَّة والمَحَلَّة ) ولا يترك رفيقه إذا وقع عن فرسه، وانما يقف ويركبه وراءه على جواده، لينقذه من المنع (أي من الاسر ويسمى في عرف البدو المنيع ) وكلا الصفتين موجودتان في الشيخ سليمان الخريشة ،كما هما موجدتان في ابيها مطلق السلمان، وأخيها نمر أيضا
ثم يتم تقديم القهوة لمن تكره الناس ذكره، لانه قد يسطو عليهم في اية لحظة، ولكن سليمان ليس لصّا وانما فارس لا يهاب من اخذ ما يريد شهارا جهارا نهارا
،واما البقية فهم عبارة عن ذكور ورعاة وحراس للأموال، وهاتان الصفتان المذمومتان، ليستا من صفات الشيخ سليمان الخريشة، ولا من صفات ابيها وأخيها
وهناك ابيات شعر بدوي، شبيهة كذلك في هذا المجال والمعنى
يا مسوِّي الفنجان حوفه وذوقـه خِصَّ القروم ثُمّ وانحر هل الساس
صبه على اللي وافي ٍ في حقوقه يملا الصحن ويطمِّن النفس للناس
وعدِّه على اللي تلاعج بروقـه فكَّاك ربعه يوم الأريـاق يبـَّاس
وعدِّه على اللي كل عد ٍ يذوقـه تلقى اخباره مثل طِيبات الانفاس
عاشت الشيخة عجايب في مناطق البادية الأردنية من ديار البلقاء التاريخية التي كانت حدودها تتاخم الرابع الخالي وحوض الفراتين شرقا، وأكثر ما كان عيشها في الموقر والازرق ومشاش حدرج ( حيث عاشت الشاعرة ميسون زوجة الخليفة معاوية (ماتت في عام 80 هـ/700م) ) , وأطراف الصُّـمَّان : التي هي هضبة مستطيلة تقع في شرق جزيرة العرب وتمتد الهضبة من الربع الخالي جنوباً حتى الحدود العراقية شمالاً وذلك بطول 1000 كيلو متر تقريباً ويتراوح عرضها بين 80 إلى 250 كيلو متر تقريباً،
انتهت ( ح 31 ) وتليها ( ح32 ) بعون الله تعالى وهي عن الموقر رمز الجمال والوقار
بقلم المؤرخ المفكر المعارض السياسي
د احمد عويدي العبادي ( أبو البشر ونمي )
( ح31) قصة عجايب وسليمان الخريشة ومقارنتهما بالأميرة هند الفزارية زوجة الحجاج
كانت الشيخة عجايب رحمها الله، مضرب الامثال في الجمال وحسن الاخلاق والتربية، والذوق الأردني الرفيع فالذوق أساس الاخلاق ويسبقها، والأخلاق أساس العلم وتسبقه، والعلم أساس الايمان، والعلم بلا ايمان هرطقة والايمان بلا علم زندقة، وكلها مبنية على الذوق وهي ( الفطرة ) التي ذكرها الله سبحانه في القران الكريم، اذ قال تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) سورة الروم
وفي الحديث الشريف روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ(ومعناه أن البهيمة تلد البهيمة كاملة الأعضاء لا نقص فيها ، وإنما يحدث فيها الجدع والنقص بعد ولادتها) هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ (الجواب لا، حتى يكون مالكها يجدعها) )
فقد ولدت الشيخة عجايب على الفطرة والذوق الرفيع وتربَّت على الاخلاق الحميدة المجيدة ، التي اعتدت الاردنيات ان يتربَّين عليها، وتعلمت القراءة والكتابة وقراءة القران الكريم، على يدي زوجة الشيخ ( ويسميه الأردنيون القدامى : الخطيب الذي علَّم ابن عمها ( سليمان ) القراءة والكتابة وقراءة القران الكريم ), وكانت في بيئة اردنية نقية طبيعية واجتماعية وأسرية، فعشقت ابن عمها بصدق وعمق وبقيت مخلصة له، وهو لها كذلك، وكان المرسال بينها وبين عمها ( العبدة ام جوهر / اسم مجازي ) وهي تراها كل يوم لانهما في مضارب واحدة وبيوت متجاورة، ولا مانع ولا شك في ان تتحرك ( العبدة ) بين البيوت، ومعها سرا وهو حمل الرسائل المتبادلة بين عجايب وسليمان ثم يتم حرقها بعد الفروغ منها فحرمونا من ادبيات العشق النقي في ذلك الزمن .
وكأن عجايب تكرر مقولة هند الفزارية وهي بنت أسماء بن خارجة الفزارية من سيدات العرب النبيلات الشامخات كراما وكرما ومجدا وعفة ورقيّا، تزوجها عبيد الله بن زياد ابن ابيه والي العراق زمن الامويين، وكانا لا يفترقان في سفر ولا حضر، وقد شغفها حبًا، فلما مات فتلا نظرت في وجهه وودعته ميتا وهي تقول : إني لأشتاق إلى القيامة لأرى وجهه)
قُتل زوجها عبيد الله بن زياد سنة 67هـ يوم الخازر قرب الموصل على يد جيش المختار بن أبي عبيد الثقفي الخارجي ، وهي معه، فقالت: لا يستمكن هؤلاء مني، ثم شدت عليها قباءه وعمامته ومنطقته، وركبت فرسه التي كان اسمها (الكامل) ، ثم خرجت حتى دخلت الكوفة في بقية يومها وليلتها ليس معها دليل أو أنيس.
ولما تولى بشر بن مروان بن الحكم الكوفة أميراً على العراقين وُصٍفت له، وكان أخو الخليفة عبد الملك بن مروان، فخطبها بشر وتزوجها فولدت له عبد الملك، ومات بشر سنة 75 فأرسل إليها الحجاج بن يوسف الثقفي لما ولي العراق يطلب الطفل عبد الملك ليربيه تربية الأمراء، فأذعنت.
ثم تزوجها الحجاج بن يوسف، ثم طلقها في قصة مشهورة لأنها كرهته واهانته، فلما خُطٍبت بعده قالت: لا أتزوج إلا من لا تُرد قضاياه، ولا تُودى قتلاه، وهي تقابل المقولة الأردنية (سيفه ضافي وقتيله هافي ) وتقصد الخليفة، وكان عبد الملك بن مروان كان الحجاج بن يوسف يحب أن يتزوج من بيوتات العرب المعروفة بالرئاسة، وكان الناس يتقربون إليه بذلك، فدله محمد بن عمير بن عطارد على هند بنت أسماء ووصفها له وقال: تزوجها أيها الأمير فإنها في بيت قيس،
فأرسل الحجاج أيوب مندوبه (بن القرية - وكان من فصحاء العرب -) وقال له: اخطب عليّ هند بنت أسماء، ولا تزد على ثلاث كلمات، فأتاهم فقال: أتيتكم من عند من تعلمون، والأمير معطيكم ما تسألون، أفتنكحون أم تردّون؟
قالوا: بل أنكحنا وأنعمنا. فرجع ابن القرّية إلى الحجّاج فقال: أقرّ اللّه عينك، وجمعٍ شملك، وأنبت ريعك؛ على الثبات والنبات، والغنى حتى الممات؛ جعلها اللّه ودوداً ولوداً، وجمع بينكما على البركة والخير.
ومن النوادر البيانية بين الحجاج وزوجته الاميرة هند الفزارية هذه، عندما تكلمت هند بنت أسماء بن خارجة الفزارية ، فلحنت وهي عند الحجاج، (واللحن هو الخطأ باللغة العربية) فقال لها: أتلحنين وأنت شريفة في بيت قيس ؟!
فقالت: أما سمعت قول أخي مالك لامرأته الأنصارية؟ قال: وما هو؟ قالت: قال:
منطق صائب وتلحن أحيانًا وخير الحديث ما كان لحنًا ( أي تقول كلاما وتقصد به شيء معين)
فقال لها الحجاج: إنما عني أخوك اللحن في القول، إذا كَنَّى المحدث عما يريد، ولم يعن اللحن في العربية، فأصلحي لسانك !
وبنى الحجاج قصراً في البصرة، عُرِف ب (قصر الحجاج ) ونزل به، فقال لها يوما: هل رأيت أحسن من هذا القصر؟ فقالت: ما أحسنه! قال: اصدقيني،
فقالت: أما إذ أبيت، فوالله ما رأيت أحسن من القصر الأحمر! وكان دار الإمارة بالبصرة، بناه زوجها الأول عبيد الله بن زياد،
فغضب الحجاج وأمر ابن القِرِّية أن يأتي هندَ بنت أسماء فيطلقها بكلمتين، ويُمَتَعها بعشرة آلاف درهم؛ فأتاها فقال لها: إن الحجّاج يقول لك: كنتِ فبِنْتِ، وهذه عشرة آلاف مُتْعة لك؛ فقالت: قل له: كنا فما حَمدنا، وبِنّا فما ندمْنَا؛ وهذه العشرة الآلاف لك ببشارتك إياي بطلاقي
وجاءت قصة طلاقها هذ في روايات متعددة، ومنها رواية سناتي عليها لاحقا في هذا الكتاب بعون الله تعتلى ) ولكنها جاءت بنفس المعنى والهدف، وان الاختلاف هو بسبب تلاعب الرواة والحكواتية ).
ما ذكرناه من وصف للعشق من الزوجة لزوجها كما جاء على لسان الاميرة هند الفزارية، انما هو وصف دقيق سبق قبل 1200 سنة لعشق عجايب لابن عمها الشيخ سليمان الخريشة، لو ارادت ( عجايب ) ان تعبر عن حبها للشيخ سليمان لو مات قبلها، وأنها ستقول هذه الكلمات بدون نقص ولا زيادة، مقرونة بالنحيب .
كانت عجايب الخريشة أميرة وشيخة اردنية بدوية جذامية صخرية، طاهرة الجيب خالية من العيب، بالفطرة والوراثة العائلية والوطنية، ولم تكن اميرة بالصدفة ولا بسبب زواجها، فهي مكافئة لابن عمها ( سليمان ) نسبا وحسبا وتربية واخلاقا، وبالتالي فان لقبها كاميرة او شيخة، لم يأتي اليها بالاكتساب ولا بالصدفة ولا من دهاليز مظلة ولا من معاقل الظلم والظلام التركي في حينه او غيره، ولا بقرار من السلطة العثمانية او أي سلطة أخرى، فهي صاحبة الشرعية النقية الاصيلة المتجذرة لهذا اللقب، التي لا يمحوها الانكار، وليست صاحبة شرعية زائفة او طارئة لا يعرفها الناس الا من خلال نقر دف، وعزف مزمار، وحاشية من التنابلة، وشتان بين الشرعيتين، بين زبد يذهب جفاء ويُشقي الناس، وبين ماء يمكث في الأرض فينفع الناس
الشيخة عجايب لم يكن لقبها مكتسبا ولا ثوبا مستعارا ولا مستوردا، ليتم تبديله كل يوم او عند كل حركة، انه ثوب العفة الأردنية الذي ترتديه كل اردنية متجذرة، نبتت من تراب الأردن ولم تنزل اليه بالصدفة التاريخية او الترتيبات غير المرئية، وهذا شان كل اردنية تمسكت بتراثنا وهويتنا ورعيتنا الى يومنا هذا وما بعده
لقب الشيخة الذي كانت تحمله الشيخة عجايب، هو لقب حقيقي وغير مكتسب ممزوج بشخصيتها ودمها وسحنتها وفطرتها وسمو عائلتها ورقي ذوقها، , لا يمكن سلخه عنها بقرار، لانه جزء من دمها وجيناتها الوراثية، ويليق بها وهي به تليق ، ولا زال لاصقا بها الى يومنا هذا والى يوم القيامة بعد قرون من موتها رحمها الله ورحمنا جميعا امواتا واحياء
وكما ورد الينا من وصف الشيخة عجايب انها كانت فارعة الطول نحيفة القد صافية الخد، عجيبة في جمالها وملاحتها وجاذبيتها واخلاقها وسلوكها ( الملاحة هي الجمال المقترن بالجاذبية، فالجمال بلا جاذبية هو مادة بلا روح، ولا يكتمل الحسن الا إذا امتزج الجمال بالجاذبية، وهي صفة الشيخة عجايب )
والملاحة عند العرب هي قمة الجمال كما قال الشاعر
قل للمليحة في الخمار الأسود ** ماذا فعلت بناسك متعبدِ
قد كان شمر للصلاة ثيابه ** حتى وقفت له بباب المسجدِ
ردي عليه صلاته وصيامه ** لا تقتليه بحق دين محمدِ
الشيخة عجايب الخريشة : عريقة وعريبة الجَدّ نحيفة القَدّ عفيفة اللسان والبيان، ونظيفة الجيب عن العيب، عشقت ابن عمها الفارس الشيخ سليمان ولم تعشق غيره في حياتها، رغم انها كانت موضع اماني القريب والغريب، كما ان ابن عمها عشقها، ولم يعشق غيرها ولم يتزوج عليها، رغم سيادة ثقافة التعدد آنذاك، ورغم انه كان مطلب الملاح من كل المضارب والبطاح
أقول : ورغم انه كان مطلب النشميات من قبيلته وغيرها من بنات شيوخ القبائل الأخرى، البنات البدويات الجميلات اللواتي بطبعهن يعشقن الفرسان والكرماء. وهو الفارس والامير الكريم، وفارس أحلام كل فتاة في عصره، وأكرر القول انه لم يتزوج عليها رغم ثقافة التعدد في ذلك الزمن
فالبدوية بطبعها تعشق الفارس والكريم والرجل الشهم النشمي , وهي صفات الشيخ سليمان بلا منازع، ¸وتحتقر وتكره الرديء ( يسمونه الرِّدي : وهو الخالي من الغيرة والشهامة، ويسمونه النذل , ويسمونه المْشِمّ وعندما يذكرونه يقولون سَنْحُه وَلّ عليه أي ( له الويل ) وتكره وتحتقر البخيل ( يسمونه البخيس، الذي هو لشدة بخله , لا يبول على يد المجروح) وتكره الجبان ( يسمونه الساقط، وأيضا الهتيكةHateechah أي مهتوك الستر العاجز عن الدفاع عن الحلة والمحلة والديرة والعشيرة والأرض والعرض ) والمتردد ( يسمونه الخويثة، ما يدري الله وين حاطُّه )
وكانت البدوية لا يهمها التعدد عند شخص توفرت به صفات الرجولة والشجاعة والكرم والشهامة والمرة والفزعة عند النداء، وتقبل ان تكون ثانية او ثالثة او رابعة،
وبذلك يقول المثل الأردني ( قيراط بالخيِّر ولا النذل كله ) أي ربع في الرجل الشهم ولا الشخص النذل بكامله، أي ان تكون زوجة لرجل متزوج من عدة زوجات، ضمن التعدد، ولها ضُرَّة او أكثر، خير لها من تكون زوجة وحيدة لرجل نذل ( ساقط ), ذلك ان من حق بنت ( بالمفرد والجمع ) الشيخ ان تختار من تتزوج ولا يجوز اجبارها على الزواج من شخص لا تريده اطلاقا، ولها الحق في الطلاق أيضا، وبنات الشيوخ عادة يعشقن الفرسان والأسخياء (مفردها السخي أي الكريم وليس شرطا ان يكون غنيا، فالسخاء شيء والغنى شيء اخر ) ،
وفي ذلك يقول الامام الشافعي (150 هـ - 204 هـ / 767م - 820م) رضي الله عنه :
وكن رجلاً على الأهوال جلداً وشيمتك السماحة والسخاء
ُيغطَّى بالسماحة كلُّ عيب، وكم عيب يغطيه السخاء
وقد استفادت الشيخة عجايب من هذا القانون العشائري الحضاري الرائع الخاص ببنات الشيوخ، في موضوع حرية الفتاة في اختيار الزوج، واستغلته اعلى درجات الاستغلال، ولكن بذكاء ودهاء برفض جميع الخَطّابين، وأعلنت بموجب هذا القانون العشائري، انها لن تتزوج الا ابن عمها سليمان، والا فإنها لن تتزوج ابدا .
وهذا يبين روعة مجتمع القبيلة الأردنية وحقوق المرأة فيها، التي لم تكن مضطهدة عند العشائر الكريمة، الا عندما خضعت للأطراف اللئيمة من شتى المنابت والأصول من الزوائد الدودية والبضاعة المُزجاة .
وكان من حق بنات الشيوخ طلب الطلاق أيضا، وحينها يجب ان يتم الطلاق، لان بنت الشيوخ كما قال الشاعر البدوي حمد بن منوه الجعفري ( لا تنغصب على غير مشهاة، أي لا يجوز اجبارها على الزواج ممن لا تحبه، ولا ان تبقى في ذمته وهي تقرر الطلاق )
وفي ذلك قصة جميلة لهذا الشاعر عندما تزوج فتاة بدوية جميلة تتدفق حيوية وجاذبية وجمالا وشبابا وطاقة طافحة ، وكانت من بنات الشيوخ، ولكنه لم يكن قادرا على أداء مهمات الزوج المطلوبة لمثل عمرها ، فعادت الى أهلها غاضبة منه، ومفارقة له
طلبت الطلاق معتمدة في حجتها قصيدة لنفس الزوج (الشيخ حمد بن منوه الجعفري) ورفضت العودة اليه، ولكنه أرسل اليها مرسالا ليأخذ قرارها النهائي فأرسلت اليه بيتين من الشعر هي من شعره هو نفسه
وقالت: أنا معاضبة مشيرة إلى قوله:( أنا أشهد أن فرق المعاضب جماله // أي ان فراق العايف عمل جميل ) فقال: نعم اذهبي إلى أهلك وطلقها بسبب ما قدمته من حجة عليه مما قاله في تلك القصيدة، واحترم نفسه وطلقها،
ولو انه لم يفعل فإنها ستقاضيه وستكون حجتها هي ابيات الشعر التي قالها، لكنه اختصر الامر من بدايته .
ونذكر من القصيدة هنا التي قالها الشيخ حمد بن منوه الجعفري ما هو متعلق بالحالة :
وقـلـبـي الـلـي بـه ثـمـانـيـن دالـــة وكـل دالـةٍ بـهـا دوالـيـل واشـــراه
أسايلك بالله عظيم المسالة ( السؤال والمساءلة) = ان تَنْغَصِب نفسا على غير مَشْهاه
ثم يحيب نفسه قائلا
: انا اشهد ان فرق المعاضب جِمَالة = ولو هو وَلدْك ولا يريدك بْليّاه
وقالت للمرسال ( انا معاضب ) وبذلك حكم الطلاق واعطاها مطلبها
واما فيما يتعلق بالشيخة عجايب، فقد كان الشيخ سليمان هو كل شيء، هو حبها ودمها ولحمها وروحها في حب يصلح ان يكون قصة إنسانية عالمية، ¸الحب النقي العفيف الشريف الذي يحمل ارث الإباء، وكانت تتطلع ان تنجب منه ولدا اميرا يكون كأبيها يُرْوي الرمح من دماء الأعداء (مروِّي شبا الزان ) ومثل اخيها يحمي الإبل من الغزو ( وأخوي حمَّاي البكار المتالي ) , وشبيه لابن عمها سليمان ( ذبَّاح طوابير العساكر قبالي )
ولا تتفق وتجتمع هذه المواصفات في أي رجل في القبائل في حينه الا بفتى احلامها، وهو ابن عمها الشيخ سليمان، الذي يقتل العساكر ولا يهاب الموت، ويهاب منه العساكر ( ذبَّاح طوابير العساكر قبالي ) ,
وهو أيضا حبيبها الذي يحمل اسم جدها الفارس سليمان الأول أيضا، فهذه مواصفات لا يمكن مقاومتها من فتاة ذات عقل وخلق ودين واصل وبعد نظر، وحرية في اختيار الزوج، ولا يمكن ان تجدها الا في ابن عمها الشيخ سليمان الخريشة
والنتيجة ان سليمان الخريشة هو مطلبها، لصفاته التي ترى فيها اباها او اخاها وهما موضع اعتزازها، وبالتالي فكل منهم جميعا يستحق الفنجان الأول والفنجان الثاني كونه كريم وفارس وهذه صفات كان يعشقها اهل البادية رجالا ونساءً،
وفي ذلك يقول الشاعر البدوي عن تقديم فنجان القهوة للرجال في المجلس ( مع اختلاف الروايات من يكون صاحب هذه الأبيات) :
صُبَّه ومِدَّه للي تَدْفق السمن يمناه طول الليالي مارَدَه ما يضوحِ
وْثنِّي وصبّه للي تكره الخيل طرياه يرخص بعمره عند راعي اللُّدوحِ
ثلِّث وصبه للي يزعج النزل طرياه يضوي اليا صكَّت عليه النّبوحِ
وباقي الرجال فحول نسوان وِرْعاة حِرَّاس مال ويتبعون السّروحِ
أي أنه يتم صب القهوة أولاً: للكريم الذي تدفق السمن يمناه ( وسليمان منهم ) صاحب البيت الكريم المفتوح (طول الزمن ما رده ما يضوح) أي لا ينضب ولا ينقطع من الضيوف.
ثانياً: للفارس الذي لا يهاب المغازي الذي بدونه تُسْلَب العشيرة، وهو الذي يهبُّ لنجدة قومه ويرد العدو ويدحره ويدافع عن حياض العشيرة، وأموالها وبيوتها وحلالها ( الحِلَّة والمَحَلَّة ) ولا يترك رفيقه إذا وقع عن فرسه، وانما يقف ويركبه وراءه على جواده، لينقذه من المنع (أي من الاسر ويسمى في عرف البدو المنيع ) وكلا الصفتين موجودتان في الشيخ سليمان الخريشة ،كما هما موجدتان في ابيها مطلق السلمان، وأخيها نمر أيضا
ثم يتم تقديم القهوة لمن تكره الناس ذكره، لانه قد يسطو عليهم في اية لحظة، ولكن سليمان ليس لصّا وانما فارس لا يهاب من اخذ ما يريد شهارا جهارا نهارا
،واما البقية فهم عبارة عن ذكور ورعاة وحراس للأموال، وهاتان الصفتان المذمومتان، ليستا من صفات الشيخ سليمان الخريشة، ولا من صفات ابيها وأخيها
وهناك ابيات شعر بدوي، شبيهة كذلك في هذا المجال والمعنى
يا مسوِّي الفنجان حوفه وذوقـه خِصَّ القروم ثُمّ وانحر هل الساس
صبه على اللي وافي ٍ في حقوقه يملا الصحن ويطمِّن النفس للناس
وعدِّه على اللي تلاعج بروقـه فكَّاك ربعه يوم الأريـاق يبـَّاس
وعدِّه على اللي كل عد ٍ يذوقـه تلقى اخباره مثل طِيبات الانفاس
عاشت الشيخة عجايب في مناطق البادية الأردنية من ديار البلقاء التاريخية التي كانت حدودها تتاخم الرابع الخالي وحوض الفراتين شرقا، وأكثر ما كان عيشها في الموقر والازرق ومشاش حدرج ( حيث عاشت الشاعرة ميسون زوجة الخليفة معاوية (ماتت في عام 80 هـ/700م) ) , وأطراف الصُّـمَّان : التي هي هضبة مستطيلة تقع في شرق جزيرة العرب وتمتد الهضبة من الربع الخالي جنوباً حتى الحدود العراقية شمالاً وذلك بطول 1000 كيلو متر تقريباً ويتراوح عرضها بين 80 إلى 250 كيلو متر تقريباً،
انتهت ( ح 31 ) وتليها ( ح32 ) بعون الله تعالى وهي عن الموقر رمز الجمال والوقار
بقلم المؤرخ المفكر المعارض السياسي
د احمد عويدي العبادي ( أبو البشر ونمي )
( ح31) قصة عجايب وسليمان الخريشة ومقارنتهما بالأميرة هند الفزارية زوجة الحجاج
كانت الشيخة عجايب رحمها الله، مضرب الامثال في الجمال وحسن الاخلاق والتربية، والذوق الأردني الرفيع فالذوق أساس الاخلاق ويسبقها، والأخلاق أساس العلم وتسبقه، والعلم أساس الايمان، والعلم بلا ايمان هرطقة والايمان بلا علم زندقة، وكلها مبنية على الذوق وهي ( الفطرة ) التي ذكرها الله سبحانه في القران الكريم، اذ قال تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) سورة الروم
وفي الحديث الشريف روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ(ومعناه أن البهيمة تلد البهيمة كاملة الأعضاء لا نقص فيها ، وإنما يحدث فيها الجدع والنقص بعد ولادتها) هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ (الجواب لا، حتى يكون مالكها يجدعها) )
فقد ولدت الشيخة عجايب على الفطرة والذوق الرفيع وتربَّت على الاخلاق الحميدة المجيدة ، التي اعتدت الاردنيات ان يتربَّين عليها، وتعلمت القراءة والكتابة وقراءة القران الكريم، على يدي زوجة الشيخ ( ويسميه الأردنيون القدامى : الخطيب الذي علَّم ابن عمها ( سليمان ) القراءة والكتابة وقراءة القران الكريم ), وكانت في بيئة اردنية نقية طبيعية واجتماعية وأسرية، فعشقت ابن عمها بصدق وعمق وبقيت مخلصة له، وهو لها كذلك، وكان المرسال بينها وبين عمها ( العبدة ام جوهر / اسم مجازي ) وهي تراها كل يوم لانهما في مضارب واحدة وبيوت متجاورة، ولا مانع ولا شك في ان تتحرك ( العبدة ) بين البيوت، ومعها سرا وهو حمل الرسائل المتبادلة بين عجايب وسليمان ثم يتم حرقها بعد الفروغ منها فحرمونا من ادبيات العشق النقي في ذلك الزمن .
وكأن عجايب تكرر مقولة هند الفزارية وهي بنت أسماء بن خارجة الفزارية من سيدات العرب النبيلات الشامخات كراما وكرما ومجدا وعفة ورقيّا، تزوجها عبيد الله بن زياد ابن ابيه والي العراق زمن الامويين، وكانا لا يفترقان في سفر ولا حضر، وقد شغفها حبًا، فلما مات فتلا نظرت في وجهه وودعته ميتا وهي تقول : إني لأشتاق إلى القيامة لأرى وجهه)
قُتل زوجها عبيد الله بن زياد سنة 67هـ يوم الخازر قرب الموصل على يد جيش المختار بن أبي عبيد الثقفي الخارجي ، وهي معه، فقالت: لا يستمكن هؤلاء مني، ثم شدت عليها قباءه وعمامته ومنطقته، وركبت فرسه التي كان اسمها (الكامل) ، ثم خرجت حتى دخلت الكوفة في بقية يومها وليلتها ليس معها دليل أو أنيس.
ولما تولى بشر بن مروان بن الحكم الكوفة أميراً على العراقين وُصٍفت له، وكان أخو الخليفة عبد الملك بن مروان، فخطبها بشر وتزوجها فولدت له عبد الملك، ومات بشر سنة 75 فأرسل إليها الحجاج بن يوسف الثقفي لما ولي العراق يطلب الطفل عبد الملك ليربيه تربية الأمراء، فأذعنت.
ثم تزوجها الحجاج بن يوسف، ثم طلقها في قصة مشهورة لأنها كرهته واهانته، فلما خُطٍبت بعده قالت: لا أتزوج إلا من لا تُرد قضاياه، ولا تُودى قتلاه، وهي تقابل المقولة الأردنية (سيفه ضافي وقتيله هافي ) وتقصد الخليفة، وكان عبد الملك بن مروان كان الحجاج بن يوسف يحب أن يتزوج من بيوتات العرب المعروفة بالرئاسة، وكان الناس يتقربون إليه بذلك، فدله محمد بن عمير بن عطارد على هند بنت أسماء ووصفها له وقال: تزوجها أيها الأمير فإنها في بيت قيس،
فأرسل الحجاج أيوب مندوبه (بن القرية - وكان من فصحاء العرب -) وقال له: اخطب عليّ هند بنت أسماء، ولا تزد على ثلاث كلمات، فأتاهم فقال: أتيتكم من عند من تعلمون، والأمير معطيكم ما تسألون، أفتنكحون أم تردّون؟
قالوا: بل أنكحنا وأنعمنا. فرجع ابن القرّية إلى الحجّاج فقال: أقرّ اللّه عينك، وجمعٍ شملك، وأنبت ريعك؛ على الثبات والنبات، والغنى حتى الممات؛ جعلها اللّه ودوداً ولوداً، وجمع بينكما على البركة والخير.
ومن النوادر البيانية بين الحجاج وزوجته الاميرة هند الفزارية هذه، عندما تكلمت هند بنت أسماء بن خارجة الفزارية ، فلحنت وهي عند الحجاج، (واللحن هو الخطأ باللغة العربية) فقال لها: أتلحنين وأنت شريفة في بيت قيس ؟!
فقالت: أما سمعت قول أخي مالك لامرأته الأنصارية؟ قال: وما هو؟ قالت: قال:
منطق صائب وتلحن أحيانًا وخير الحديث ما كان لحنًا ( أي تقول كلاما وتقصد به شيء معين)
فقال لها الحجاج: إنما عني أخوك اللحن في القول، إذا كَنَّى المحدث عما يريد، ولم يعن اللحن في العربية، فأصلحي لسانك !
وبنى الحجاج قصراً في البصرة، عُرِف ب (قصر الحجاج ) ونزل به، فقال لها يوما: هل رأيت أحسن من هذا القصر؟ فقالت: ما أحسنه! قال: اصدقيني،
فقالت: أما إذ أبيت، فوالله ما رأيت أحسن من القصر الأحمر! وكان دار الإمارة بالبصرة، بناه زوجها الأول عبيد الله بن زياد،
فغضب الحجاج وأمر ابن القِرِّية أن يأتي هندَ بنت أسماء فيطلقها بكلمتين، ويُمَتَعها بعشرة آلاف درهم؛ فأتاها فقال لها: إن الحجّاج يقول لك: كنتِ فبِنْتِ، وهذه عشرة آلاف مُتْعة لك؛ فقالت: قل له: كنا فما حَمدنا، وبِنّا فما ندمْنَا؛ وهذه العشرة الآلاف لك ببشارتك إياي بطلاقي
وجاءت قصة طلاقها هذ في روايات متعددة، ومنها رواية سناتي عليها لاحقا في هذا الكتاب بعون الله تعتلى ) ولكنها جاءت بنفس المعنى والهدف، وان الاختلاف هو بسبب تلاعب الرواة والحكواتية ).
ما ذكرناه من وصف للعشق من الزوجة لزوجها كما جاء على لسان الاميرة هند الفزارية، انما هو وصف دقيق سبق قبل 1200 سنة لعشق عجايب لابن عمها الشيخ سليمان الخريشة، لو ارادت ( عجايب ) ان تعبر عن حبها للشيخ سليمان لو مات قبلها، وأنها ستقول هذه الكلمات بدون نقص ولا زيادة، مقرونة بالنحيب .
كانت عجايب الخريشة أميرة وشيخة اردنية بدوية جذامية صخرية، طاهرة الجيب خالية من العيب، بالفطرة والوراثة العائلية والوطنية، ولم تكن اميرة بالصدفة ولا بسبب زواجها، فهي مكافئة لابن عمها ( سليمان ) نسبا وحسبا وتربية واخلاقا، وبالتالي فان لقبها كاميرة او شيخة، لم يأتي اليها بالاكتساب ولا بالصدفة ولا من دهاليز مظلة ولا من معاقل الظلم والظلام التركي في حينه او غيره، ولا بقرار من السلطة العثمانية او أي سلطة أخرى، فهي صاحبة الشرعية النقية الاصيلة المتجذرة لهذا اللقب، التي لا يمحوها الانكار، وليست صاحبة شرعية زائفة او طارئة لا يعرفها الناس الا من خلال نقر دف، وعزف مزمار، وحاشية من التنابلة، وشتان بين الشرعيتين، بين زبد يذهب جفاء ويُشقي الناس، وبين ماء يمكث في الأرض فينفع الناس
الشيخة عجايب لم يكن لقبها مكتسبا ولا ثوبا مستعارا ولا مستوردا، ليتم تبديله كل يوم او عند كل حركة، انه ثوب العفة الأردنية الذي ترتديه كل اردنية متجذرة، نبتت من تراب الأردن ولم تنزل اليه بالصدفة التاريخية او الترتيبات غير المرئية، وهذا شان كل اردنية تمسكت بتراثنا وهويتنا ورعيتنا الى يومنا هذا وما بعده
لقب الشيخة الذي كانت تحمله الشيخة عجايب، هو لقب حقيقي وغير مكتسب ممزوج بشخصيتها ودمها وسحنتها وفطرتها وسمو عائلتها ورقي ذوقها، , لا يمكن سلخه عنها بقرار، لانه جزء من دمها وجيناتها الوراثية، ويليق بها وهي به تليق ، ولا زال لاصقا بها الى يومنا هذا والى يوم القيامة بعد قرون من موتها رحمها الله ورحمنا جميعا امواتا واحياء
وكما ورد الينا من وصف الشيخة عجايب انها كانت فارعة الطول نحيفة القد صافية الخد، عجيبة في جمالها وملاحتها وجاذبيتها واخلاقها وسلوكها ( الملاحة هي الجمال المقترن بالجاذبية، فالجمال بلا جاذبية هو مادة بلا روح، ولا يكتمل الحسن الا إذا امتزج الجمال بالجاذبية، وهي صفة الشيخة عجايب )
والملاحة عند العرب هي قمة الجمال كما قال الشاعر
قل للمليحة في الخمار الأسود ** ماذا فعلت بناسك متعبدِ
قد كان شمر للصلاة ثيابه ** حتى وقفت له بباب المسجدِ
ردي عليه صلاته وصيامه ** لا تقتليه بحق دين محمدِ
الشيخة عجايب الخريشة : عريقة وعريبة الجَدّ نحيفة القَدّ عفيفة اللسان والبيان، ونظيفة الجيب عن العيب، عشقت ابن عمها الفارس الشيخ سليمان ولم تعشق غيره في حياتها، رغم انها كانت موضع اماني القريب والغريب، كما ان ابن عمها عشقها، ولم يعشق غيرها ولم يتزوج عليها، رغم سيادة ثقافة التعدد آنذاك، ورغم انه كان مطلب الملاح من كل المضارب والبطاح
أقول : ورغم انه كان مطلب النشميات من قبيلته وغيرها من بنات شيوخ القبائل الأخرى، البنات البدويات الجميلات اللواتي بطبعهن يعشقن الفرسان والكرماء. وهو الفارس والامير الكريم، وفارس أحلام كل فتاة في عصره، وأكرر القول انه لم يتزوج عليها رغم ثقافة التعدد في ذلك الزمن
فالبدوية بطبعها تعشق الفارس والكريم والرجل الشهم النشمي , وهي صفات الشيخ سليمان بلا منازع، ¸وتحتقر وتكره الرديء ( يسمونه الرِّدي : وهو الخالي من الغيرة والشهامة، ويسمونه النذل , ويسمونه المْشِمّ وعندما يذكرونه يقولون سَنْحُه وَلّ عليه أي ( له الويل ) وتكره وتحتقر البخيل ( يسمونه البخيس، الذي هو لشدة بخله , لا يبول على يد المجروح) وتكره الجبان ( يسمونه الساقط، وأيضا الهتيكةHateechah أي مهتوك الستر العاجز عن الدفاع عن الحلة والمحلة والديرة والعشيرة والأرض والعرض ) والمتردد ( يسمونه الخويثة، ما يدري الله وين حاطُّه )
وكانت البدوية لا يهمها التعدد عند شخص توفرت به صفات الرجولة والشجاعة والكرم والشهامة والمرة والفزعة عند النداء، وتقبل ان تكون ثانية او ثالثة او رابعة،
وبذلك يقول المثل الأردني ( قيراط بالخيِّر ولا النذل كله ) أي ربع في الرجل الشهم ولا الشخص النذل بكامله، أي ان تكون زوجة لرجل متزوج من عدة زوجات، ضمن التعدد، ولها ضُرَّة او أكثر، خير لها من تكون زوجة وحيدة لرجل نذل ( ساقط ), ذلك ان من حق بنت ( بالمفرد والجمع ) الشيخ ان تختار من تتزوج ولا يجوز اجبارها على الزواج من شخص لا تريده اطلاقا، ولها الحق في الطلاق أيضا، وبنات الشيوخ عادة يعشقن الفرسان والأسخياء (مفردها السخي أي الكريم وليس شرطا ان يكون غنيا، فالسخاء شيء والغنى شيء اخر ) ،
وفي ذلك يقول الامام الشافعي (150 هـ - 204 هـ / 767م - 820م) رضي الله عنه :
وكن رجلاً على الأهوال جلداً وشيمتك السماحة والسخاء
ُيغطَّى بالسماحة كلُّ عيب، وكم عيب يغطيه السخاء
وقد استفادت الشيخة عجايب من هذا القانون العشائري الحضاري الرائع الخاص ببنات الشيوخ، في موضوع حرية الفتاة في اختيار الزوج، واستغلته اعلى درجات الاستغلال، ولكن بذكاء ودهاء برفض جميع الخَطّابين، وأعلنت بموجب هذا القانون العشائري، انها لن تتزوج الا ابن عمها سليمان، والا فإنها لن تتزوج ابدا .
وهذا يبين روعة مجتمع القبيلة الأردنية وحقوق المرأة فيها، التي لم تكن مضطهدة عند العشائر الكريمة، الا عندما خضعت للأطراف اللئيمة من شتى المنابت والأصول من الزوائد الدودية والبضاعة المُزجاة .
وكان من حق بنات الشيوخ طلب الطلاق أيضا، وحينها يجب ان يتم الطلاق، لان بنت الشيوخ كما قال الشاعر البدوي حمد بن منوه الجعفري ( لا تنغصب على غير مشهاة، أي لا يجوز اجبارها على الزواج ممن لا تحبه، ولا ان تبقى في ذمته وهي تقرر الطلاق )
وفي ذلك قصة جميلة لهذا الشاعر عندما تزوج فتاة بدوية جميلة تتدفق حيوية وجاذبية وجمالا وشبابا وطاقة طافحة ، وكانت من بنات الشيوخ، ولكنه لم يكن قادرا على أداء مهمات الزوج المطلوبة لمثل عمرها ، فعادت الى أهلها غاضبة منه، ومفارقة له
طلبت الطلاق معتمدة في حجتها قصيدة لنفس الزوج (الشيخ حمد بن منوه الجعفري) ورفضت العودة اليه، ولكنه أرسل اليها مرسالا ليأخذ قرارها النهائي فأرسلت اليه بيتين من الشعر هي من شعره هو نفسه
وقالت: أنا معاضبة مشيرة إلى قوله:( أنا أشهد أن فرق المعاضب جماله // أي ان فراق العايف عمل جميل ) فقال: نعم اذهبي إلى أهلك وطلقها بسبب ما قدمته من حجة عليه مما قاله في تلك القصيدة، واحترم نفسه وطلقها،
ولو انه لم يفعل فإنها ستقاضيه وستكون حجتها هي ابيات الشعر التي قالها، لكنه اختصر الامر من بدايته .
ونذكر من القصيدة هنا التي قالها الشيخ حمد بن منوه الجعفري ما هو متعلق بالحالة :
وقـلـبـي الـلـي بـه ثـمـانـيـن دالـــة وكـل دالـةٍ بـهـا دوالـيـل واشـــراه
أسايلك بالله عظيم المسالة ( السؤال والمساءلة) = ان تَنْغَصِب نفسا على غير مَشْهاه
ثم يحيب نفسه قائلا
: انا اشهد ان فرق المعاضب جِمَالة = ولو هو وَلدْك ولا يريدك بْليّاه
وقالت للمرسال ( انا معاضب ) وبذلك حكم الطلاق واعطاها مطلبها
واما فيما يتعلق بالشيخة عجايب، فقد كان الشيخ سليمان هو كل شيء، هو حبها ودمها ولحمها وروحها في حب يصلح ان يكون قصة إنسانية عالمية، ¸الحب النقي العفيف الشريف الذي يحمل ارث الإباء، وكانت تتطلع ان تنجب منه ولدا اميرا يكون كأبيها يُرْوي الرمح من دماء الأعداء (مروِّي شبا الزان ) ومثل اخيها يحمي الإبل من الغزو ( وأخوي حمَّاي البكار المتالي ) , وشبيه لابن عمها سليمان ( ذبَّاح طوابير العساكر قبالي )
ولا تتفق وتجتمع هذه المواصفات في أي رجل في القبائل في حينه الا بفتى احلامها، وهو ابن عمها الشيخ سليمان، الذي يقتل العساكر ولا يهاب الموت، ويهاب منه العساكر ( ذبَّاح طوابير العساكر قبالي ) ,
وهو أيضا حبيبها الذي يحمل اسم جدها الفارس سليمان الأول أيضا، فهذه مواصفات لا يمكن مقاومتها من فتاة ذات عقل وخلق ودين واصل وبعد نظر، وحرية في اختيار الزوج، ولا يمكن ان تجدها الا في ابن عمها الشيخ سليمان الخريشة
والنتيجة ان سليمان الخريشة هو مطلبها، لصفاته التي ترى فيها اباها او اخاها وهما موضع اعتزازها، وبالتالي فكل منهم جميعا يستحق الفنجان الأول والفنجان الثاني كونه كريم وفارس وهذه صفات كان يعشقها اهل البادية رجالا ونساءً،
وفي ذلك يقول الشاعر البدوي عن تقديم فنجان القهوة للرجال في المجلس ( مع اختلاف الروايات من يكون صاحب هذه الأبيات) :
صُبَّه ومِدَّه للي تَدْفق السمن يمناه طول الليالي مارَدَه ما يضوحِ
وْثنِّي وصبّه للي تكره الخيل طرياه يرخص بعمره عند راعي اللُّدوحِ
ثلِّث وصبه للي يزعج النزل طرياه يضوي اليا صكَّت عليه النّبوحِ
وباقي الرجال فحول نسوان وِرْعاة حِرَّاس مال ويتبعون السّروحِ
أي أنه يتم صب القهوة أولاً: للكريم الذي تدفق السمن يمناه ( وسليمان منهم ) صاحب البيت الكريم المفتوح (طول الزمن ما رده ما يضوح) أي لا ينضب ولا ينقطع من الضيوف.
ثانياً: للفارس الذي لا يهاب المغازي الذي بدونه تُسْلَب العشيرة، وهو الذي يهبُّ لنجدة قومه ويرد العدو ويدحره ويدافع عن حياض العشيرة، وأموالها وبيوتها وحلالها ( الحِلَّة والمَحَلَّة ) ولا يترك رفيقه إذا وقع عن فرسه، وانما يقف ويركبه وراءه على جواده، لينقذه من المنع (أي من الاسر ويسمى في عرف البدو المنيع ) وكلا الصفتين موجودتان في الشيخ سليمان الخريشة ،كما هما موجدتان في ابيها مطلق السلمان، وأخيها نمر أيضا
ثم يتم تقديم القهوة لمن تكره الناس ذكره، لانه قد يسطو عليهم في اية لحظة، ولكن سليمان ليس لصّا وانما فارس لا يهاب من اخذ ما يريد شهارا جهارا نهارا
،واما البقية فهم عبارة عن ذكور ورعاة وحراس للأموال، وهاتان الصفتان المذمومتان، ليستا من صفات الشيخ سليمان الخريشة، ولا من صفات ابيها وأخيها
وهناك ابيات شعر بدوي، شبيهة كذلك في هذا المجال والمعنى
يا مسوِّي الفنجان حوفه وذوقـه خِصَّ القروم ثُمّ وانحر هل الساس
صبه على اللي وافي ٍ في حقوقه يملا الصحن ويطمِّن النفس للناس
وعدِّه على اللي تلاعج بروقـه فكَّاك ربعه يوم الأريـاق يبـَّاس
وعدِّه على اللي كل عد ٍ يذوقـه تلقى اخباره مثل طِيبات الانفاس
عاشت الشيخة عجايب في مناطق البادية الأردنية من ديار البلقاء التاريخية التي كانت حدودها تتاخم الرابع الخالي وحوض الفراتين شرقا، وأكثر ما كان عيشها في الموقر والازرق ومشاش حدرج ( حيث عاشت الشاعرة ميسون زوجة الخليفة معاوية (ماتت في عام 80 هـ/700م) ) , وأطراف الصُّـمَّان : التي هي هضبة مستطيلة تقع في شرق جزيرة العرب وتمتد الهضبة من الربع الخالي جنوباً حتى الحدود العراقية شمالاً وذلك بطول 1000 كيلو متر تقريباً ويتراوح عرضها بين 80 إلى 250 كيلو متر تقريباً،
انتهت ( ح 31 ) وتليها ( ح32 ) بعون الله تعالى وهي عن الموقر رمز الجمال والوقار
التعليقات