الدكتور صبري ربيحات
شقيقتي السبعينية لا تهتم كثيرا للحوارات التي تجري في مجالسنا ولا تتنافس مع احد على ابداء الراي.. بالرغم انها حادة الذكاء ولديها اشياء كثيرة تقولها حول ما يدور حولها الا أن تفاعلاتها وتعليقاتها ان اضطرت لا تخرج في غالب الاحيان عن أربعة او خمسة جمل يتالف بعضها من كلمة واحدة بهيبة جملة او فقرة واحيانا موضوع.
'اكتيش' مفردة تستخدمها شقيقتي باستمرار للسؤال عن الزمن او بديلا عن متى ...فإذا أرادت ان تدخل للمحادثة تستخدم هذه المفردة المركبة والتي تطلب فيها تحديد الزمن هذه الجملة تعادل في معاجم شقيقتي مفهوم ' الزمن ' الذي اعتبره عمانوئيل كانت احد الأبعاد الاربعة لخلق السياق او بناء المحتوى حول اية مسألة عقلية . وهذه المفردة تختلف قليلا عن كديش او قديش التي تعني السؤال عن الكمية او القيمة وغالبا ما يكون السؤال هنا مباشرا...
'ولويه' هي المفردة الأخرى التي تحاول فيها ام كايد تفكيك الاسباب الكامنة وراء الفعل وقد يكون الغاية من إطلاق هذه القنبلة اللفظية السخرية او الاستنكار او الاستهجان ومن الصعب تحديد المقصد دون سماع جرس الكلمة وموقعها في السياق. واحيانا تتبع مفردة ' لويه ' مفرده اخرى 'ولويه هذا ' او ولويه متبوعة ب 'هذا العوس!' .
'انداري ' هي المفردة الثالثة التي قد تعني التعجب او الاستنكار واحيانا الحياد .في كل الحالات يأتي وقع المفردة كدعوة الجميع للتأمل والمراجعة فهناك احد يرى في الأمر حيرة ويحتاج الى ان يستوعب الموضوع او قد يفهمه ولا يتفق مع الطريقة التي تسير فيها الأحداث.
تأتي مقولة دقة ع الحافر ودقة ع المسمار ' كخلاصة لادبيات الحكمة المتوارثة ورحيق للأخلاق الوسيطة التي تستوعب الجميع وتعمل على تجاوز الخلافات وفي الجملة اعتراف بوجود أطراف ووجود حقوق يجب مراعاتها ويحتاج لهذه الحكمة وروحها كل من يريد أن يلعب دور الوساطة ويقرب وجهات النظر ويلفت النظر الى اهمية مراعاة ما يتطلع له الفرقاء ويأمل به أطراف النزاع.
في إعطاء المسوغات والمبررات لقبول الحلول المقترحة لفض النزاعات تقول شقيقتي دائما عبارتها المفضلة وبايقاع يمنحك الاحساس بأنها هي التي اوجدت القول وانها الراعية لاستخدامه بدقة لا تخرجه عن معناه ...عبارة شقيقتي التي تتلذذ في لفظها وتسمح لاحرفها ان تدور دوران كامل في حنجرتها وعلى لسانها هي ' يا خي لا يجوع الذيب ولا تفنى الغنم '.
صحيح اننا نشأنا في بيئة واحدة وتعاملنا مع بيطار القرية الذي كان يمارس تبديل أحذية البغال والحمير بحرفية عالية بالرغم من بدائية الأدوات والتجهيزات التي كان يحملها عبيدالله البيطار وهو يتهيأ لورشة تبديل أحذية الحيوان ونتعجب من مهارة التجليخ لحوافر الدابة وبرد سطحها وتثبيت الحذوة على الحافر ووضع المسامير في الفم وطي قدم الدابة لتتموضع في الزاوية التي تسمح له بضرب رأس المسمار وطرق الحذوة لكي لا تفتل او يغور المسمار في لحم الدابة خطأ.
لا أذكر انه قد خطر ببالي يوم ان تكون ملاحظاتي ومشاهداتي للعمل الحرفي الذي اتقنه البيطار عبيدالله درسا يمكن ان استعين فيه لفهم الحكمة التي استخلصها اهالينا من ايقاع حياتهم ليضعوها قاعدة من قواعد السلوك المقبول اجتماعيا....
في عشرات المرات سمعت قصصا عن عدوان الذئب على الاغنام وفتكه بها وقرأت في الأشعار تعاطفت ضمنيا مع الذئب الذي كان آبائنا يعززون مبادراتنا بقول 'فلان ذيب' فالذئب لا يخون شريكة حياته ويحزن عليها ولا اعرف سر ايجاد الأعذار له واعطاءه حقوق والحرص على ان لا يموت وهنا اتذكر قول الشاعر ' لا يلام الذئب في عدوانه....ان يك الراعي عدو الغنم '.... ولا اعرف من أين جاء مستوى التصالح مع الذئب والذي نعبر عنه بالقول ...' فلان يعدو مع الذيب...ويصيح مع الراعي '
على كل الاحوال اتمنى ان تخرج شقيقتي عن صمتها وتترك كبسولات التعبير وتقول لنا ما ترى في كل هذا..
لقد شهدنا هذه العمليات بحذافيرها مرارا وتكرارا واتيح لنا المقارنة بين مهارات عبيدالله في الطرق على المسمار والحافر مع مهارات الحرفي الثاني في القرية المرحوم ابراهيم الصعانين ..فبين ابراهيم وعبيدالله تنقسم دواب قريتنا كلما اقتضت الضرورة تجديد احذيتها او كلما عانت من إصابات العمل التي تحتاج إلى مزيد من العناية الحثيثة من خبير حذق بمستوى هذين الرجلين.
لقد شكل هذين الرجلين بالنسبة لجيلنا طلائع رجال الصناعة والعلوم التطبيقية والاعمال الحرفية ...الرحمة لارواح الرجال الذين أعطو لبلدهم واهلهم الكثير ورحلوا راضين مريضين.
الدكتور صبري ربيحات
شقيقتي السبعينية لا تهتم كثيرا للحوارات التي تجري في مجالسنا ولا تتنافس مع احد على ابداء الراي.. بالرغم انها حادة الذكاء ولديها اشياء كثيرة تقولها حول ما يدور حولها الا أن تفاعلاتها وتعليقاتها ان اضطرت لا تخرج في غالب الاحيان عن أربعة او خمسة جمل يتالف بعضها من كلمة واحدة بهيبة جملة او فقرة واحيانا موضوع.
'اكتيش' مفردة تستخدمها شقيقتي باستمرار للسؤال عن الزمن او بديلا عن متى ...فإذا أرادت ان تدخل للمحادثة تستخدم هذه المفردة المركبة والتي تطلب فيها تحديد الزمن هذه الجملة تعادل في معاجم شقيقتي مفهوم ' الزمن ' الذي اعتبره عمانوئيل كانت احد الأبعاد الاربعة لخلق السياق او بناء المحتوى حول اية مسألة عقلية . وهذه المفردة تختلف قليلا عن كديش او قديش التي تعني السؤال عن الكمية او القيمة وغالبا ما يكون السؤال هنا مباشرا...
'ولويه' هي المفردة الأخرى التي تحاول فيها ام كايد تفكيك الاسباب الكامنة وراء الفعل وقد يكون الغاية من إطلاق هذه القنبلة اللفظية السخرية او الاستنكار او الاستهجان ومن الصعب تحديد المقصد دون سماع جرس الكلمة وموقعها في السياق. واحيانا تتبع مفردة ' لويه ' مفرده اخرى 'ولويه هذا ' او ولويه متبوعة ب 'هذا العوس!' .
'انداري ' هي المفردة الثالثة التي قد تعني التعجب او الاستنكار واحيانا الحياد .في كل الحالات يأتي وقع المفردة كدعوة الجميع للتأمل والمراجعة فهناك احد يرى في الأمر حيرة ويحتاج الى ان يستوعب الموضوع او قد يفهمه ولا يتفق مع الطريقة التي تسير فيها الأحداث.
تأتي مقولة دقة ع الحافر ودقة ع المسمار ' كخلاصة لادبيات الحكمة المتوارثة ورحيق للأخلاق الوسيطة التي تستوعب الجميع وتعمل على تجاوز الخلافات وفي الجملة اعتراف بوجود أطراف ووجود حقوق يجب مراعاتها ويحتاج لهذه الحكمة وروحها كل من يريد أن يلعب دور الوساطة ويقرب وجهات النظر ويلفت النظر الى اهمية مراعاة ما يتطلع له الفرقاء ويأمل به أطراف النزاع.
في إعطاء المسوغات والمبررات لقبول الحلول المقترحة لفض النزاعات تقول شقيقتي دائما عبارتها المفضلة وبايقاع يمنحك الاحساس بأنها هي التي اوجدت القول وانها الراعية لاستخدامه بدقة لا تخرجه عن معناه ...عبارة شقيقتي التي تتلذذ في لفظها وتسمح لاحرفها ان تدور دوران كامل في حنجرتها وعلى لسانها هي ' يا خي لا يجوع الذيب ولا تفنى الغنم '.
صحيح اننا نشأنا في بيئة واحدة وتعاملنا مع بيطار القرية الذي كان يمارس تبديل أحذية البغال والحمير بحرفية عالية بالرغم من بدائية الأدوات والتجهيزات التي كان يحملها عبيدالله البيطار وهو يتهيأ لورشة تبديل أحذية الحيوان ونتعجب من مهارة التجليخ لحوافر الدابة وبرد سطحها وتثبيت الحذوة على الحافر ووضع المسامير في الفم وطي قدم الدابة لتتموضع في الزاوية التي تسمح له بضرب رأس المسمار وطرق الحذوة لكي لا تفتل او يغور المسمار في لحم الدابة خطأ.
لا أذكر انه قد خطر ببالي يوم ان تكون ملاحظاتي ومشاهداتي للعمل الحرفي الذي اتقنه البيطار عبيدالله درسا يمكن ان استعين فيه لفهم الحكمة التي استخلصها اهالينا من ايقاع حياتهم ليضعوها قاعدة من قواعد السلوك المقبول اجتماعيا....
في عشرات المرات سمعت قصصا عن عدوان الذئب على الاغنام وفتكه بها وقرأت في الأشعار تعاطفت ضمنيا مع الذئب الذي كان آبائنا يعززون مبادراتنا بقول 'فلان ذيب' فالذئب لا يخون شريكة حياته ويحزن عليها ولا اعرف سر ايجاد الأعذار له واعطاءه حقوق والحرص على ان لا يموت وهنا اتذكر قول الشاعر ' لا يلام الذئب في عدوانه....ان يك الراعي عدو الغنم '.... ولا اعرف من أين جاء مستوى التصالح مع الذئب والذي نعبر عنه بالقول ...' فلان يعدو مع الذيب...ويصيح مع الراعي '
على كل الاحوال اتمنى ان تخرج شقيقتي عن صمتها وتترك كبسولات التعبير وتقول لنا ما ترى في كل هذا..
لقد شهدنا هذه العمليات بحذافيرها مرارا وتكرارا واتيح لنا المقارنة بين مهارات عبيدالله في الطرق على المسمار والحافر مع مهارات الحرفي الثاني في القرية المرحوم ابراهيم الصعانين ..فبين ابراهيم وعبيدالله تنقسم دواب قريتنا كلما اقتضت الضرورة تجديد احذيتها او كلما عانت من إصابات العمل التي تحتاج إلى مزيد من العناية الحثيثة من خبير حذق بمستوى هذين الرجلين.
لقد شكل هذين الرجلين بالنسبة لجيلنا طلائع رجال الصناعة والعلوم التطبيقية والاعمال الحرفية ...الرحمة لارواح الرجال الذين أعطو لبلدهم واهلهم الكثير ورحلوا راضين مريضين.
الدكتور صبري ربيحات
شقيقتي السبعينية لا تهتم كثيرا للحوارات التي تجري في مجالسنا ولا تتنافس مع احد على ابداء الراي.. بالرغم انها حادة الذكاء ولديها اشياء كثيرة تقولها حول ما يدور حولها الا أن تفاعلاتها وتعليقاتها ان اضطرت لا تخرج في غالب الاحيان عن أربعة او خمسة جمل يتالف بعضها من كلمة واحدة بهيبة جملة او فقرة واحيانا موضوع.
'اكتيش' مفردة تستخدمها شقيقتي باستمرار للسؤال عن الزمن او بديلا عن متى ...فإذا أرادت ان تدخل للمحادثة تستخدم هذه المفردة المركبة والتي تطلب فيها تحديد الزمن هذه الجملة تعادل في معاجم شقيقتي مفهوم ' الزمن ' الذي اعتبره عمانوئيل كانت احد الأبعاد الاربعة لخلق السياق او بناء المحتوى حول اية مسألة عقلية . وهذه المفردة تختلف قليلا عن كديش او قديش التي تعني السؤال عن الكمية او القيمة وغالبا ما يكون السؤال هنا مباشرا...
'ولويه' هي المفردة الأخرى التي تحاول فيها ام كايد تفكيك الاسباب الكامنة وراء الفعل وقد يكون الغاية من إطلاق هذه القنبلة اللفظية السخرية او الاستنكار او الاستهجان ومن الصعب تحديد المقصد دون سماع جرس الكلمة وموقعها في السياق. واحيانا تتبع مفردة ' لويه ' مفرده اخرى 'ولويه هذا ' او ولويه متبوعة ب 'هذا العوس!' .
'انداري ' هي المفردة الثالثة التي قد تعني التعجب او الاستنكار واحيانا الحياد .في كل الحالات يأتي وقع المفردة كدعوة الجميع للتأمل والمراجعة فهناك احد يرى في الأمر حيرة ويحتاج الى ان يستوعب الموضوع او قد يفهمه ولا يتفق مع الطريقة التي تسير فيها الأحداث.
تأتي مقولة دقة ع الحافر ودقة ع المسمار ' كخلاصة لادبيات الحكمة المتوارثة ورحيق للأخلاق الوسيطة التي تستوعب الجميع وتعمل على تجاوز الخلافات وفي الجملة اعتراف بوجود أطراف ووجود حقوق يجب مراعاتها ويحتاج لهذه الحكمة وروحها كل من يريد أن يلعب دور الوساطة ويقرب وجهات النظر ويلفت النظر الى اهمية مراعاة ما يتطلع له الفرقاء ويأمل به أطراف النزاع.
في إعطاء المسوغات والمبررات لقبول الحلول المقترحة لفض النزاعات تقول شقيقتي دائما عبارتها المفضلة وبايقاع يمنحك الاحساس بأنها هي التي اوجدت القول وانها الراعية لاستخدامه بدقة لا تخرجه عن معناه ...عبارة شقيقتي التي تتلذذ في لفظها وتسمح لاحرفها ان تدور دوران كامل في حنجرتها وعلى لسانها هي ' يا خي لا يجوع الذيب ولا تفنى الغنم '.
صحيح اننا نشأنا في بيئة واحدة وتعاملنا مع بيطار القرية الذي كان يمارس تبديل أحذية البغال والحمير بحرفية عالية بالرغم من بدائية الأدوات والتجهيزات التي كان يحملها عبيدالله البيطار وهو يتهيأ لورشة تبديل أحذية الحيوان ونتعجب من مهارة التجليخ لحوافر الدابة وبرد سطحها وتثبيت الحذوة على الحافر ووضع المسامير في الفم وطي قدم الدابة لتتموضع في الزاوية التي تسمح له بضرب رأس المسمار وطرق الحذوة لكي لا تفتل او يغور المسمار في لحم الدابة خطأ.
لا أذكر انه قد خطر ببالي يوم ان تكون ملاحظاتي ومشاهداتي للعمل الحرفي الذي اتقنه البيطار عبيدالله درسا يمكن ان استعين فيه لفهم الحكمة التي استخلصها اهالينا من ايقاع حياتهم ليضعوها قاعدة من قواعد السلوك المقبول اجتماعيا....
في عشرات المرات سمعت قصصا عن عدوان الذئب على الاغنام وفتكه بها وقرأت في الأشعار تعاطفت ضمنيا مع الذئب الذي كان آبائنا يعززون مبادراتنا بقول 'فلان ذيب' فالذئب لا يخون شريكة حياته ويحزن عليها ولا اعرف سر ايجاد الأعذار له واعطاءه حقوق والحرص على ان لا يموت وهنا اتذكر قول الشاعر ' لا يلام الذئب في عدوانه....ان يك الراعي عدو الغنم '.... ولا اعرف من أين جاء مستوى التصالح مع الذئب والذي نعبر عنه بالقول ...' فلان يعدو مع الذيب...ويصيح مع الراعي '
على كل الاحوال اتمنى ان تخرج شقيقتي عن صمتها وتترك كبسولات التعبير وتقول لنا ما ترى في كل هذا..
لقد شهدنا هذه العمليات بحذافيرها مرارا وتكرارا واتيح لنا المقارنة بين مهارات عبيدالله في الطرق على المسمار والحافر مع مهارات الحرفي الثاني في القرية المرحوم ابراهيم الصعانين ..فبين ابراهيم وعبيدالله تنقسم دواب قريتنا كلما اقتضت الضرورة تجديد احذيتها او كلما عانت من إصابات العمل التي تحتاج إلى مزيد من العناية الحثيثة من خبير حذق بمستوى هذين الرجلين.
لقد شكل هذين الرجلين بالنسبة لجيلنا طلائع رجال الصناعة والعلوم التطبيقية والاعمال الحرفية ...الرحمة لارواح الرجال الذين أعطو لبلدهم واهلهم الكثير ورحلوا راضين مريضين.
التعليقات