أخبار اليوم - إن من أهم الأمور التي على الإنسان أن يعنى بها: مأكله ومشربه؛ قال وُهَيْب بْن الْوَرْدِ رحمه الله: «وَاللهِ لَوْ قُمْتَ مَقَامَ هَذِهِ السَّارِيَةِ مَا نَفَعَكَ حَتَّى تَعْلَمَ مَا يَدْخُلُ بَطْنَكَ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ»، فلو قام العبد في المسجد كقيام هذا العمود مصليًّا راكعًا ساجدًا فلن يُقبل منه حتى ينظر ما يدخل في فمه أحلال هو أم حرام؟ لذلك كانت خطورة الأكل من الحرام خطورة عظيمة؛ فيجب على الإنسان أن يتحرَّى مأكله ومشربه؛ ولهذا كان الحديث عن هذا الموضوع من الأهمية بمكان؛ لتساهل كثير من الناس في هذا الزمان في أكل الحرام، ولقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذا فقال: «يأتي على الناس زمان، لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام» ؟، فكثير من الناس يظن أن كل ما حل في يده من المال فهو حلال، ولا يتحرَّى مأكله ومشربه. ومما يبين خطورة هذا الموضوع كذلك أن الإنسان مجبول على حب المال؛ فقد يحمله حبه للمال على أن يجمعه، ولو من الحرام ولا يبالي، قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿ {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} ﴾ [الفجر: 20]، ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر فيقول: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب؛ لأحَبَّ أن يكون له ثالث، ولا يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» . ولما كان المال فتنة عظيمة قد يُفتن به الإنسان، فيبيع دينه من أجل الحصول على المال؛ أصبح من أوجب الواجبات على الإنسان الحذر من فتنته، فلقد سمعنا عن بعض من كان يظهر عليهم الصلاح قد فُتنوا بالمال حتى طمعوا فيه، ونصبوا على الناس، ونهبوا أموالهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال» . فقد يكون الإنسان موظفًا بسيطًا، فتُعرض عليه رشوة كبيرة -وهذه الفتنة بعينها- فإن لم يكن عنده ورع وخوف من الله قبلها، فعلى العبد أن يستعيذ بالله من فتنة المال، أعاذنا الله وإياكم منها. وأموال المسلمين حرمتها عظيمة، فلا يحل التعدي عليها بأي وجه من وجوه التعدي، ولعظيم حرمتها بيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع في البلد الحرام، في الشهر الحرام، في يوم حرام؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما، 'أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: «يا أيها الناس، أي يوم هذا» ؟، قالوا: يوم حرام، قال: «فأي بلد هذا» ؟، قالوا: بلد حرام، قال: «فأي شهر هذا» ؟، قالوا: شهر حرام، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا»، فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه فقال: «اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت»، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فو الذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته، فليبلغ الشاهد الغائب'. خطورة أكل الحرام: عدم قبول عمل آكل المال الحرام: فآكل الحرام لا يقبل منه فرض ولا نفل، فكيف يتصدَّق الإنسان من حرام ويرجو القبول؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غُلُولٍ»، فمن حج أو اعتمر بمال حرام لا يقبل منه، ومن تصَدَّق بحرام لا يقبل منه؛ بل هو مأزور غير مأجور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من جمع مالًا حرامًا، ثم تصَدَّق به، لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه». الأكل من الحرام كبيرة، ومنه ما لا يغفر: فأكل المال الحرام بجميع أنواعه كبيرة من الكبائر؛ فليحذر العبد منها؛ فعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياك والذنوب التي لا تغفر؛ الغلول، فمن غل شيئًّا أتى به يوم القيامة، وأكل الربا، فمن أكل الربا بُعِث يوم القيامة مجنونًا يتخبط» ، ثم قرأ: ﴿ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} ﴾ [البقرة: 275]'. لا يستجاب دعاء آكل الحرام: فالبعض يقول: دعوت، ودعوت ولم يُستجب لي، فيقال لهذا: فتش عن مأكلك ومشربك، وراجع حساباتك، فقد تكونُ أغلقت على نفسك أبواب الإجابة بيديك وأنت لا تدري. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين» ، فقال: ﴿ {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك» ؟!'. فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، سواء من العبادات أو المعاملات أو الدعوات. آكل الحرام مطرود من رحمة الله: فآكل الحرام ملعون ومطرود من رحمة الله –أعاذنا الله وإياكم من غضبه وسخطه– فلقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الأخبار المشتملة على أن آكل الحرام ملعون، فمن تلك الأخبار: • قوله صلى الله عليه وسلم: «... لعن الله من غير منار الأرض». • وقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» • عن جابر قال: 'لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه'، وقال: 'هم سواء' • قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الخمر، ولعن شاربها، وساقيها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها». • فكل من تلطخ بالحرام، وعاون فيه؛ فهو ملعون بلعنة الله، واللعن كما ذكرت هو الطرد من رحمة الله، فمن يقدر على ذلك أو يصبر عليه؟! عافنا الله وإياكم. آكل الحرام متوعَّد بالنار: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير حق؛ فلهم النار يوم القيامة»، والخوض هو التخليط في المال، وتحصيله من غير وجهه كيفما أمكن. وقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: «يا كعب بن عجرة، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به»، فالمال العام حق لجميع المسلمين، فمن يعمل في الوظائف العامة عليه أمانة عظيمة، وحمل ثقيل، فمن خان عمله، وقصر فيه، وضيعه؛ فقد تعرض للوعيد الشديد –أعاذنا الله وإياكم-. آكل الحرام متوعَّد بغضب من الله: فمن الناس من يتهاون بالحلف بالله كاذبًا، فإذا رأى أنه لا بينة مع خصمه، ولا شهود عليه، حلف كذبًا ليبرئ نفسه، وهو يظن أنه بذلك قد نجا! يا مسكين على من تكذب؟! إن الذي رآك وأنت تسرق، ورآك وأنت تحلف به كاذبًا هو الذي سيحاسبك، فأعِدَّ للسؤال جوابًا. عن عبدالله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم؛ لقي الله وهو عليه غضبان»، قال: فقال الأشعث بن قيس: فيَّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألك بينة»، قال: قلت: لا، قال: فقال لليهودي: «احلف»، قال: قلت: يا رسول الله، إذًا يحلف ويذهب بمالي، قال: فأنزل الله تعالى: ﴿ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} ﴾ [آل عمران: 77] إلى آخر الآية. أكل الحرام سبب للخراب والدمار: فيا من تأكل الحرام أبشر بالخراب والدمار الذي سيحل بك، جمعتَ المال من الحرام لتسعد به؛ فكان سبب تعاستك وانتكاستك وشقائك. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع». والْيَمِينُ الفَاجِرَة هِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ، يَقْتَطِعُ الرَّجُلُ بِهَا مَالَ غَيْرِهِ، سُمِّيَتْ غَمُوسًا؛ لأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الإِثْمِ، ثُمَّ فِي النَّارِ. فمعنى الحديث: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُفَرِّقُ شَمْلَ الْحَالِفِ، وَيُغَيِّرُ عَلَيْهِ مَا أَوْلاهُ مِنْ نِعَمِهِ، وَقِيلَ: يَفْتَقِرُ، وَيَذْهَبُ مَا فِي بَيْتِهِ مِنَ الْمَالِ. المال الحرام سبب لمحق البركة: فالغش في البيع والشراء سبب لذهاب بركة المبيع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَذَبا وكَتَما مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِما». ومن أنواع الغش المشهور في البيع: غش اللبن بالماء، وبيع ما انتهت صلاحية استخدامه، وتغيير بيانات المبيع كتغيير بلد الصُّنع مثلًا، ومن ذلك التطفيف في الميزان؛ كبيع الشيء الذي يبلغ وزنه 900 جرام على أنه كيلو جرام مثلًا. وقد توعد الله المطففين في الكيل والميزان، وأنزل فيهم سورة سماها بـ'المطففين' تتلى إلى يوم القيامة، فقال تعالى: ﴿ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ﴾ [المطففين: 1-4]. أكل الحرام سبب من أسباب عذاب القبر: فأكل الحرام سبب من أسباب عذاب القبر، فلا تستهن بأكل المال الحرام، واسمع هذه الواقعة التي تبين لك خطورة الأمر؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول: افتتحنا خيبر، ولم نغنم ذهبًا ولا فضة، إنما غنمنا البقر والإبل، والمتاع والحوائط، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى، ومعه عبد له يقال له: مِدْعَم، أهداه له أحد بني الضِّباب، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر، حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئًا له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارًا»، فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين، فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شراك -أو شراكان- من نار». أكل الحرام سبب للإفلاس يوم القيامة: فمن أخذ حقوق الناس، وظلمهم وغشَّهم، واحتال على أخذ أموالهم لن يفلت يوم القيامة؛ ستؤخذ منه حقوق الناس، ويقضيها من حسناته، فإن عجزت حسناته عن قضاء الحقوق حمل من سيئات من ظلمهم. فعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس» ؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المفلس من أُمَّتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيقعد، فيقتص هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقتص ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم، فطرح عليه، ثم طرح في النار». لذلك على العبد أن يقضي ما عليه في الدنيا قبل فوات الأوان، اذهب إلى من ظلمتهم، وأعطهم حقوقهم، أو اطلب منهم العفو والصفح، فالأمر هنا سهل ميسور. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل ألَّا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه». أرأيتم أيها الإخوة كيف هي خطورة أكل الحرام؟! خطورة شديدة على آكله في الدنيا، وفي القبر، وفي يوم القيامة. أسأل الله أن يطيب مطاعمنا ومشاربنا، وأن يقينا وإياكم شر الحرام، وأسأله سبحانه أن يرزقنا الحلال، وأن يبارك لنا فيه. هذا وأحب أن أنبِّه على بعض صور المال الحرام؛ لنحذرها، ونحذر غيرنا منها، فمن تلك الصور: الرشوة، والسرقة، والنهب، والقمار، وأكل أموال اليتامى ظلمًا، وأكل الميراث، وإنكار الديون، والقمار، والإجارات المحرمة، وبيع الأشياء المحرمة؛ كالخمر والمخدرات والسجائر، ومن أعظم ذلك الربا. فالربا انتشر في زماننا انتشارًا كبيرًا، وصاحبه يقوم يوم القيامة من قبره مصروعًا مجنونًا يتخبطه الشيطان، قال الله تعالى: ﴿ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ﴾ [البقرة: 275]. وهو كبيرة من أكبر الكبائر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات». وأكل اليسير من الربا أعظم من كثير من الزنا، يقول كعب الأحبار: 'لأن أزني ثلاثًا وثلاثين زنية أحب إليَّ من أن آكل درهم ربا، يعلم الله أني أكلته حين أكلته ربا'، وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم». ومن أشهر صور الربا: القرض بالفائدة: لقوله تعالى: ﴿ {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ﴾ [البقرة: 188]؛ ووجه الاستدلال بالآية: أنها نهت عن أكل الأموال بالباطل، والزيادة في القرض من أكل الأموال بالباطل؛ لأنه في غير مقابل. وقد أجمع العلماء على أن كل قرض جَرَّ نفعًا -من حيث الجملة- إذا وقع على سبيل الشرط والمشارطة أنه لا يجوز، وحكى الإجماع على ذلك ابن المنذر، ونقله الإمام ابن قدامة، رحم الله الجميع برحمته الواسعة. وشراء الذهب بالتقسيط، أو مبادلة الذهب القديم بالجديد مع دفع الفارق: وذلك لحديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد». وقال الإمام النووي رحمه الله: 'قال العلماء هذا يتناول جميع أنواع الذهب، والوَرِق من جيد ورديء، وصحيح ومكسور، وحلي وتِبْر، وغير ذلك، وسواء الخالص والمخلوط بغيره، وهذا كله مجمع عليه... وقد أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب أو بالفضة مؤجلًا، وكذلك الحنطة بالحنطة أو بالشعير، وكذلك كل شيئين اشتركا في علة الربا'. والطريق الصحيح في مبادلة الذهب القديم بالجديد: أن يباع القديم بثمنه، ويقبض المشتري الثمن بدون اتفاق على شراء ذهب جديد، وبعد القبض يجوز للمشتري أن يشتري ما يشاء. والدليل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد، يقول: جاء بلال بتمر بَرْنِيٍّ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أين هذا» ؟، فقال بلال: 'تمر كان عندنا رديء، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله عند ذلك: «أَوَّهْ عَيْنُ الربا، لا تفعل؛ ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر، ثم اشترِ به». وفي ذلك حكمة عظيمة قد تخفى على بعضنا، وقد تظهر لآخرين، واليقين أن الله سبحانه وتعالى لا يحرم شيئًا إلا لحكمة. والخلاصة أيها الكرام أن يتحرَّى العبد الرزق الحلال، ويجتنب الحرام، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجنبنا الحرام، ويسر لنا الحلال، إنه ولي ذلك ومولاه، هذا والله أعلى وأعلم، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
أخبار اليوم - إن من أهم الأمور التي على الإنسان أن يعنى بها: مأكله ومشربه؛ قال وُهَيْب بْن الْوَرْدِ رحمه الله: «وَاللهِ لَوْ قُمْتَ مَقَامَ هَذِهِ السَّارِيَةِ مَا نَفَعَكَ حَتَّى تَعْلَمَ مَا يَدْخُلُ بَطْنَكَ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ»، فلو قام العبد في المسجد كقيام هذا العمود مصليًّا راكعًا ساجدًا فلن يُقبل منه حتى ينظر ما يدخل في فمه أحلال هو أم حرام؟ لذلك كانت خطورة الأكل من الحرام خطورة عظيمة؛ فيجب على الإنسان أن يتحرَّى مأكله ومشربه؛ ولهذا كان الحديث عن هذا الموضوع من الأهمية بمكان؛ لتساهل كثير من الناس في هذا الزمان في أكل الحرام، ولقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذا فقال: «يأتي على الناس زمان، لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام» ؟، فكثير من الناس يظن أن كل ما حل في يده من المال فهو حلال، ولا يتحرَّى مأكله ومشربه. ومما يبين خطورة هذا الموضوع كذلك أن الإنسان مجبول على حب المال؛ فقد يحمله حبه للمال على أن يجمعه، ولو من الحرام ولا يبالي، قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿ {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} ﴾ [الفجر: 20]، ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر فيقول: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب؛ لأحَبَّ أن يكون له ثالث، ولا يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» . ولما كان المال فتنة عظيمة قد يُفتن به الإنسان، فيبيع دينه من أجل الحصول على المال؛ أصبح من أوجب الواجبات على الإنسان الحذر من فتنته، فلقد سمعنا عن بعض من كان يظهر عليهم الصلاح قد فُتنوا بالمال حتى طمعوا فيه، ونصبوا على الناس، ونهبوا أموالهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال» . فقد يكون الإنسان موظفًا بسيطًا، فتُعرض عليه رشوة كبيرة -وهذه الفتنة بعينها- فإن لم يكن عنده ورع وخوف من الله قبلها، فعلى العبد أن يستعيذ بالله من فتنة المال، أعاذنا الله وإياكم منها. وأموال المسلمين حرمتها عظيمة، فلا يحل التعدي عليها بأي وجه من وجوه التعدي، ولعظيم حرمتها بيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع في البلد الحرام، في الشهر الحرام، في يوم حرام؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما، 'أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: «يا أيها الناس، أي يوم هذا» ؟، قالوا: يوم حرام، قال: «فأي بلد هذا» ؟، قالوا: بلد حرام، قال: «فأي شهر هذا» ؟، قالوا: شهر حرام، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا»، فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه فقال: «اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت»، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فو الذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته، فليبلغ الشاهد الغائب'. خطورة أكل الحرام: عدم قبول عمل آكل المال الحرام: فآكل الحرام لا يقبل منه فرض ولا نفل، فكيف يتصدَّق الإنسان من حرام ويرجو القبول؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غُلُولٍ»، فمن حج أو اعتمر بمال حرام لا يقبل منه، ومن تصَدَّق بحرام لا يقبل منه؛ بل هو مأزور غير مأجور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من جمع مالًا حرامًا، ثم تصَدَّق به، لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه». الأكل من الحرام كبيرة، ومنه ما لا يغفر: فأكل المال الحرام بجميع أنواعه كبيرة من الكبائر؛ فليحذر العبد منها؛ فعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياك والذنوب التي لا تغفر؛ الغلول، فمن غل شيئًّا أتى به يوم القيامة، وأكل الربا، فمن أكل الربا بُعِث يوم القيامة مجنونًا يتخبط» ، ثم قرأ: ﴿ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} ﴾ [البقرة: 275]'. لا يستجاب دعاء آكل الحرام: فالبعض يقول: دعوت، ودعوت ولم يُستجب لي، فيقال لهذا: فتش عن مأكلك ومشربك، وراجع حساباتك، فقد تكونُ أغلقت على نفسك أبواب الإجابة بيديك وأنت لا تدري. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين» ، فقال: ﴿ {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك» ؟!'. فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، سواء من العبادات أو المعاملات أو الدعوات. آكل الحرام مطرود من رحمة الله: فآكل الحرام ملعون ومطرود من رحمة الله –أعاذنا الله وإياكم من غضبه وسخطه– فلقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الأخبار المشتملة على أن آكل الحرام ملعون، فمن تلك الأخبار: • قوله صلى الله عليه وسلم: «... لعن الله من غير منار الأرض». • وقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» • عن جابر قال: 'لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه'، وقال: 'هم سواء' • قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الخمر، ولعن شاربها، وساقيها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها». • فكل من تلطخ بالحرام، وعاون فيه؛ فهو ملعون بلعنة الله، واللعن كما ذكرت هو الطرد من رحمة الله، فمن يقدر على ذلك أو يصبر عليه؟! عافنا الله وإياكم. آكل الحرام متوعَّد بالنار: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير حق؛ فلهم النار يوم القيامة»، والخوض هو التخليط في المال، وتحصيله من غير وجهه كيفما أمكن. وقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: «يا كعب بن عجرة، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به»، فالمال العام حق لجميع المسلمين، فمن يعمل في الوظائف العامة عليه أمانة عظيمة، وحمل ثقيل، فمن خان عمله، وقصر فيه، وضيعه؛ فقد تعرض للوعيد الشديد –أعاذنا الله وإياكم-. آكل الحرام متوعَّد بغضب من الله: فمن الناس من يتهاون بالحلف بالله كاذبًا، فإذا رأى أنه لا بينة مع خصمه، ولا شهود عليه، حلف كذبًا ليبرئ نفسه، وهو يظن أنه بذلك قد نجا! يا مسكين على من تكذب؟! إن الذي رآك وأنت تسرق، ورآك وأنت تحلف به كاذبًا هو الذي سيحاسبك، فأعِدَّ للسؤال جوابًا. عن عبدالله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم؛ لقي الله وهو عليه غضبان»، قال: فقال الأشعث بن قيس: فيَّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألك بينة»، قال: قلت: لا، قال: فقال لليهودي: «احلف»، قال: قلت: يا رسول الله، إذًا يحلف ويذهب بمالي، قال: فأنزل الله تعالى: ﴿ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} ﴾ [آل عمران: 77] إلى آخر الآية. أكل الحرام سبب للخراب والدمار: فيا من تأكل الحرام أبشر بالخراب والدمار الذي سيحل بك، جمعتَ المال من الحرام لتسعد به؛ فكان سبب تعاستك وانتكاستك وشقائك. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع». والْيَمِينُ الفَاجِرَة هِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ، يَقْتَطِعُ الرَّجُلُ بِهَا مَالَ غَيْرِهِ، سُمِّيَتْ غَمُوسًا؛ لأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الإِثْمِ، ثُمَّ فِي النَّارِ. فمعنى الحديث: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُفَرِّقُ شَمْلَ الْحَالِفِ، وَيُغَيِّرُ عَلَيْهِ مَا أَوْلاهُ مِنْ نِعَمِهِ، وَقِيلَ: يَفْتَقِرُ، وَيَذْهَبُ مَا فِي بَيْتِهِ مِنَ الْمَالِ. المال الحرام سبب لمحق البركة: فالغش في البيع والشراء سبب لذهاب بركة المبيع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَذَبا وكَتَما مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِما». ومن أنواع الغش المشهور في البيع: غش اللبن بالماء، وبيع ما انتهت صلاحية استخدامه، وتغيير بيانات المبيع كتغيير بلد الصُّنع مثلًا، ومن ذلك التطفيف في الميزان؛ كبيع الشيء الذي يبلغ وزنه 900 جرام على أنه كيلو جرام مثلًا. وقد توعد الله المطففين في الكيل والميزان، وأنزل فيهم سورة سماها بـ'المطففين' تتلى إلى يوم القيامة، فقال تعالى: ﴿ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ﴾ [المطففين: 1-4]. أكل الحرام سبب من أسباب عذاب القبر: فأكل الحرام سبب من أسباب عذاب القبر، فلا تستهن بأكل المال الحرام، واسمع هذه الواقعة التي تبين لك خطورة الأمر؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول: افتتحنا خيبر، ولم نغنم ذهبًا ولا فضة، إنما غنمنا البقر والإبل، والمتاع والحوائط، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى، ومعه عبد له يقال له: مِدْعَم، أهداه له أحد بني الضِّباب، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر، حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئًا له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارًا»، فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين، فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شراك -أو شراكان- من نار». أكل الحرام سبب للإفلاس يوم القيامة: فمن أخذ حقوق الناس، وظلمهم وغشَّهم، واحتال على أخذ أموالهم لن يفلت يوم القيامة؛ ستؤخذ منه حقوق الناس، ويقضيها من حسناته، فإن عجزت حسناته عن قضاء الحقوق حمل من سيئات من ظلمهم. فعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس» ؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المفلس من أُمَّتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيقعد، فيقتص هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقتص ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم، فطرح عليه، ثم طرح في النار». لذلك على العبد أن يقضي ما عليه في الدنيا قبل فوات الأوان، اذهب إلى من ظلمتهم، وأعطهم حقوقهم، أو اطلب منهم العفو والصفح، فالأمر هنا سهل ميسور. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل ألَّا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه». أرأيتم أيها الإخوة كيف هي خطورة أكل الحرام؟! خطورة شديدة على آكله في الدنيا، وفي القبر، وفي يوم القيامة. أسأل الله أن يطيب مطاعمنا ومشاربنا، وأن يقينا وإياكم شر الحرام، وأسأله سبحانه أن يرزقنا الحلال، وأن يبارك لنا فيه. هذا وأحب أن أنبِّه على بعض صور المال الحرام؛ لنحذرها، ونحذر غيرنا منها، فمن تلك الصور: الرشوة، والسرقة، والنهب، والقمار، وأكل أموال اليتامى ظلمًا، وأكل الميراث، وإنكار الديون، والقمار، والإجارات المحرمة، وبيع الأشياء المحرمة؛ كالخمر والمخدرات والسجائر، ومن أعظم ذلك الربا. فالربا انتشر في زماننا انتشارًا كبيرًا، وصاحبه يقوم يوم القيامة من قبره مصروعًا مجنونًا يتخبطه الشيطان، قال الله تعالى: ﴿ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ﴾ [البقرة: 275]. وهو كبيرة من أكبر الكبائر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات». وأكل اليسير من الربا أعظم من كثير من الزنا، يقول كعب الأحبار: 'لأن أزني ثلاثًا وثلاثين زنية أحب إليَّ من أن آكل درهم ربا، يعلم الله أني أكلته حين أكلته ربا'، وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم». ومن أشهر صور الربا: القرض بالفائدة: لقوله تعالى: ﴿ {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ﴾ [البقرة: 188]؛ ووجه الاستدلال بالآية: أنها نهت عن أكل الأموال بالباطل، والزيادة في القرض من أكل الأموال بالباطل؛ لأنه في غير مقابل. وقد أجمع العلماء على أن كل قرض جَرَّ نفعًا -من حيث الجملة- إذا وقع على سبيل الشرط والمشارطة أنه لا يجوز، وحكى الإجماع على ذلك ابن المنذر، ونقله الإمام ابن قدامة، رحم الله الجميع برحمته الواسعة. وشراء الذهب بالتقسيط، أو مبادلة الذهب القديم بالجديد مع دفع الفارق: وذلك لحديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد». وقال الإمام النووي رحمه الله: 'قال العلماء هذا يتناول جميع أنواع الذهب، والوَرِق من جيد ورديء، وصحيح ومكسور، وحلي وتِبْر، وغير ذلك، وسواء الخالص والمخلوط بغيره، وهذا كله مجمع عليه... وقد أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب أو بالفضة مؤجلًا، وكذلك الحنطة بالحنطة أو بالشعير، وكذلك كل شيئين اشتركا في علة الربا'. والطريق الصحيح في مبادلة الذهب القديم بالجديد: أن يباع القديم بثمنه، ويقبض المشتري الثمن بدون اتفاق على شراء ذهب جديد، وبعد القبض يجوز للمشتري أن يشتري ما يشاء. والدليل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد، يقول: جاء بلال بتمر بَرْنِيٍّ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أين هذا» ؟، فقال بلال: 'تمر كان عندنا رديء، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله عند ذلك: «أَوَّهْ عَيْنُ الربا، لا تفعل؛ ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر، ثم اشترِ به». وفي ذلك حكمة عظيمة قد تخفى على بعضنا، وقد تظهر لآخرين، واليقين أن الله سبحانه وتعالى لا يحرم شيئًا إلا لحكمة. والخلاصة أيها الكرام أن يتحرَّى العبد الرزق الحلال، ويجتنب الحرام، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجنبنا الحرام، ويسر لنا الحلال، إنه ولي ذلك ومولاه، هذا والله أعلى وأعلم، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
أخبار اليوم - إن من أهم الأمور التي على الإنسان أن يعنى بها: مأكله ومشربه؛ قال وُهَيْب بْن الْوَرْدِ رحمه الله: «وَاللهِ لَوْ قُمْتَ مَقَامَ هَذِهِ السَّارِيَةِ مَا نَفَعَكَ حَتَّى تَعْلَمَ مَا يَدْخُلُ بَطْنَكَ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ»، فلو قام العبد في المسجد كقيام هذا العمود مصليًّا راكعًا ساجدًا فلن يُقبل منه حتى ينظر ما يدخل في فمه أحلال هو أم حرام؟ لذلك كانت خطورة الأكل من الحرام خطورة عظيمة؛ فيجب على الإنسان أن يتحرَّى مأكله ومشربه؛ ولهذا كان الحديث عن هذا الموضوع من الأهمية بمكان؛ لتساهل كثير من الناس في هذا الزمان في أكل الحرام، ولقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذا فقال: «يأتي على الناس زمان، لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام» ؟، فكثير من الناس يظن أن كل ما حل في يده من المال فهو حلال، ولا يتحرَّى مأكله ومشربه. ومما يبين خطورة هذا الموضوع كذلك أن الإنسان مجبول على حب المال؛ فقد يحمله حبه للمال على أن يجمعه، ولو من الحرام ولا يبالي، قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿ {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} ﴾ [الفجر: 20]، ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر فيقول: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب؛ لأحَبَّ أن يكون له ثالث، ولا يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» . ولما كان المال فتنة عظيمة قد يُفتن به الإنسان، فيبيع دينه من أجل الحصول على المال؛ أصبح من أوجب الواجبات على الإنسان الحذر من فتنته، فلقد سمعنا عن بعض من كان يظهر عليهم الصلاح قد فُتنوا بالمال حتى طمعوا فيه، ونصبوا على الناس، ونهبوا أموالهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال» . فقد يكون الإنسان موظفًا بسيطًا، فتُعرض عليه رشوة كبيرة -وهذه الفتنة بعينها- فإن لم يكن عنده ورع وخوف من الله قبلها، فعلى العبد أن يستعيذ بالله من فتنة المال، أعاذنا الله وإياكم منها. وأموال المسلمين حرمتها عظيمة، فلا يحل التعدي عليها بأي وجه من وجوه التعدي، ولعظيم حرمتها بيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع في البلد الحرام، في الشهر الحرام، في يوم حرام؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما، 'أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: «يا أيها الناس، أي يوم هذا» ؟، قالوا: يوم حرام، قال: «فأي بلد هذا» ؟، قالوا: بلد حرام، قال: «فأي شهر هذا» ؟، قالوا: شهر حرام، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا»، فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه فقال: «اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت»، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فو الذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته، فليبلغ الشاهد الغائب'. خطورة أكل الحرام: عدم قبول عمل آكل المال الحرام: فآكل الحرام لا يقبل منه فرض ولا نفل، فكيف يتصدَّق الإنسان من حرام ويرجو القبول؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غُلُولٍ»، فمن حج أو اعتمر بمال حرام لا يقبل منه، ومن تصَدَّق بحرام لا يقبل منه؛ بل هو مأزور غير مأجور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من جمع مالًا حرامًا، ثم تصَدَّق به، لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه». الأكل من الحرام كبيرة، ومنه ما لا يغفر: فأكل المال الحرام بجميع أنواعه كبيرة من الكبائر؛ فليحذر العبد منها؛ فعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياك والذنوب التي لا تغفر؛ الغلول، فمن غل شيئًّا أتى به يوم القيامة، وأكل الربا، فمن أكل الربا بُعِث يوم القيامة مجنونًا يتخبط» ، ثم قرأ: ﴿ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} ﴾ [البقرة: 275]'. لا يستجاب دعاء آكل الحرام: فالبعض يقول: دعوت، ودعوت ولم يُستجب لي، فيقال لهذا: فتش عن مأكلك ومشربك، وراجع حساباتك، فقد تكونُ أغلقت على نفسك أبواب الإجابة بيديك وأنت لا تدري. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين» ، فقال: ﴿ {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك» ؟!'. فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، سواء من العبادات أو المعاملات أو الدعوات. آكل الحرام مطرود من رحمة الله: فآكل الحرام ملعون ومطرود من رحمة الله –أعاذنا الله وإياكم من غضبه وسخطه– فلقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الأخبار المشتملة على أن آكل الحرام ملعون، فمن تلك الأخبار: • قوله صلى الله عليه وسلم: «... لعن الله من غير منار الأرض». • وقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» • عن جابر قال: 'لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه'، وقال: 'هم سواء' • قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الخمر، ولعن شاربها، وساقيها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها». • فكل من تلطخ بالحرام، وعاون فيه؛ فهو ملعون بلعنة الله، واللعن كما ذكرت هو الطرد من رحمة الله، فمن يقدر على ذلك أو يصبر عليه؟! عافنا الله وإياكم. آكل الحرام متوعَّد بالنار: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير حق؛ فلهم النار يوم القيامة»، والخوض هو التخليط في المال، وتحصيله من غير وجهه كيفما أمكن. وقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: «يا كعب بن عجرة، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به»، فالمال العام حق لجميع المسلمين، فمن يعمل في الوظائف العامة عليه أمانة عظيمة، وحمل ثقيل، فمن خان عمله، وقصر فيه، وضيعه؛ فقد تعرض للوعيد الشديد –أعاذنا الله وإياكم-. آكل الحرام متوعَّد بغضب من الله: فمن الناس من يتهاون بالحلف بالله كاذبًا، فإذا رأى أنه لا بينة مع خصمه، ولا شهود عليه، حلف كذبًا ليبرئ نفسه، وهو يظن أنه بذلك قد نجا! يا مسكين على من تكذب؟! إن الذي رآك وأنت تسرق، ورآك وأنت تحلف به كاذبًا هو الذي سيحاسبك، فأعِدَّ للسؤال جوابًا. عن عبدالله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم؛ لقي الله وهو عليه غضبان»، قال: فقال الأشعث بن قيس: فيَّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألك بينة»، قال: قلت: لا، قال: فقال لليهودي: «احلف»، قال: قلت: يا رسول الله، إذًا يحلف ويذهب بمالي، قال: فأنزل الله تعالى: ﴿ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} ﴾ [آل عمران: 77] إلى آخر الآية. أكل الحرام سبب للخراب والدمار: فيا من تأكل الحرام أبشر بالخراب والدمار الذي سيحل بك، جمعتَ المال من الحرام لتسعد به؛ فكان سبب تعاستك وانتكاستك وشقائك. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع». والْيَمِينُ الفَاجِرَة هِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ، يَقْتَطِعُ الرَّجُلُ بِهَا مَالَ غَيْرِهِ، سُمِّيَتْ غَمُوسًا؛ لأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الإِثْمِ، ثُمَّ فِي النَّارِ. فمعنى الحديث: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُفَرِّقُ شَمْلَ الْحَالِفِ، وَيُغَيِّرُ عَلَيْهِ مَا أَوْلاهُ مِنْ نِعَمِهِ، وَقِيلَ: يَفْتَقِرُ، وَيَذْهَبُ مَا فِي بَيْتِهِ مِنَ الْمَالِ. المال الحرام سبب لمحق البركة: فالغش في البيع والشراء سبب لذهاب بركة المبيع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَذَبا وكَتَما مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِما». ومن أنواع الغش المشهور في البيع: غش اللبن بالماء، وبيع ما انتهت صلاحية استخدامه، وتغيير بيانات المبيع كتغيير بلد الصُّنع مثلًا، ومن ذلك التطفيف في الميزان؛ كبيع الشيء الذي يبلغ وزنه 900 جرام على أنه كيلو جرام مثلًا. وقد توعد الله المطففين في الكيل والميزان، وأنزل فيهم سورة سماها بـ'المطففين' تتلى إلى يوم القيامة، فقال تعالى: ﴿ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ﴾ [المطففين: 1-4]. أكل الحرام سبب من أسباب عذاب القبر: فأكل الحرام سبب من أسباب عذاب القبر، فلا تستهن بأكل المال الحرام، واسمع هذه الواقعة التي تبين لك خطورة الأمر؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول: افتتحنا خيبر، ولم نغنم ذهبًا ولا فضة، إنما غنمنا البقر والإبل، والمتاع والحوائط، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى، ومعه عبد له يقال له: مِدْعَم، أهداه له أحد بني الضِّباب، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر، حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئًا له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارًا»، فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين، فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شراك -أو شراكان- من نار». أكل الحرام سبب للإفلاس يوم القيامة: فمن أخذ حقوق الناس، وظلمهم وغشَّهم، واحتال على أخذ أموالهم لن يفلت يوم القيامة؛ ستؤخذ منه حقوق الناس، ويقضيها من حسناته، فإن عجزت حسناته عن قضاء الحقوق حمل من سيئات من ظلمهم. فعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس» ؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المفلس من أُمَّتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيقعد، فيقتص هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقتص ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم، فطرح عليه، ثم طرح في النار». لذلك على العبد أن يقضي ما عليه في الدنيا قبل فوات الأوان، اذهب إلى من ظلمتهم، وأعطهم حقوقهم، أو اطلب منهم العفو والصفح، فالأمر هنا سهل ميسور. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل ألَّا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه». أرأيتم أيها الإخوة كيف هي خطورة أكل الحرام؟! خطورة شديدة على آكله في الدنيا، وفي القبر، وفي يوم القيامة. أسأل الله أن يطيب مطاعمنا ومشاربنا، وأن يقينا وإياكم شر الحرام، وأسأله سبحانه أن يرزقنا الحلال، وأن يبارك لنا فيه. هذا وأحب أن أنبِّه على بعض صور المال الحرام؛ لنحذرها، ونحذر غيرنا منها، فمن تلك الصور: الرشوة، والسرقة، والنهب، والقمار، وأكل أموال اليتامى ظلمًا، وأكل الميراث، وإنكار الديون، والقمار، والإجارات المحرمة، وبيع الأشياء المحرمة؛ كالخمر والمخدرات والسجائر، ومن أعظم ذلك الربا. فالربا انتشر في زماننا انتشارًا كبيرًا، وصاحبه يقوم يوم القيامة من قبره مصروعًا مجنونًا يتخبطه الشيطان، قال الله تعالى: ﴿ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ﴾ [البقرة: 275]. وهو كبيرة من أكبر الكبائر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات». وأكل اليسير من الربا أعظم من كثير من الزنا، يقول كعب الأحبار: 'لأن أزني ثلاثًا وثلاثين زنية أحب إليَّ من أن آكل درهم ربا، يعلم الله أني أكلته حين أكلته ربا'، وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم». ومن أشهر صور الربا: القرض بالفائدة: لقوله تعالى: ﴿ {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ﴾ [البقرة: 188]؛ ووجه الاستدلال بالآية: أنها نهت عن أكل الأموال بالباطل، والزيادة في القرض من أكل الأموال بالباطل؛ لأنه في غير مقابل. وقد أجمع العلماء على أن كل قرض جَرَّ نفعًا -من حيث الجملة- إذا وقع على سبيل الشرط والمشارطة أنه لا يجوز، وحكى الإجماع على ذلك ابن المنذر، ونقله الإمام ابن قدامة، رحم الله الجميع برحمته الواسعة. وشراء الذهب بالتقسيط، أو مبادلة الذهب القديم بالجديد مع دفع الفارق: وذلك لحديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد». وقال الإمام النووي رحمه الله: 'قال العلماء هذا يتناول جميع أنواع الذهب، والوَرِق من جيد ورديء، وصحيح ومكسور، وحلي وتِبْر، وغير ذلك، وسواء الخالص والمخلوط بغيره، وهذا كله مجمع عليه... وقد أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب أو بالفضة مؤجلًا، وكذلك الحنطة بالحنطة أو بالشعير، وكذلك كل شيئين اشتركا في علة الربا'. والطريق الصحيح في مبادلة الذهب القديم بالجديد: أن يباع القديم بثمنه، ويقبض المشتري الثمن بدون اتفاق على شراء ذهب جديد، وبعد القبض يجوز للمشتري أن يشتري ما يشاء. والدليل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد، يقول: جاء بلال بتمر بَرْنِيٍّ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أين هذا» ؟، فقال بلال: 'تمر كان عندنا رديء، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله عند ذلك: «أَوَّهْ عَيْنُ الربا، لا تفعل؛ ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر، ثم اشترِ به». وفي ذلك حكمة عظيمة قد تخفى على بعضنا، وقد تظهر لآخرين، واليقين أن الله سبحانه وتعالى لا يحرم شيئًا إلا لحكمة. والخلاصة أيها الكرام أن يتحرَّى العبد الرزق الحلال، ويجتنب الحرام، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجنبنا الحرام، ويسر لنا الحلال، إنه ولي ذلك ومولاه، هذا والله أعلى وأعلم، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات