بقلم: نقيب الصحفيين الأردنيين راكان السعايدة
يقرأ الأردن ويدقق جيدًا في تفاصيل الإجرام الإسرائيلي في قطاع غزة، ويبني موقفه المتدرج وفقًا لسير العدوان والمآلات المرتبطة به، ليس على القطاع فقط، وإنما أيضًا على القضية الفلسطينية برمتها والمنطقة.
هذه قراءة مطلوبة، وبشكل ملحّ، وكي تكون استنتاجاتها وخلاصاتها صحيحة دقيقة لابد وأن توضع في سياقات أوسع وأشمل، أيْ قراءة تستحضر مكانة الأردن في الذهنية الإسرائيلية الكلية، والذهنية اليمينية المتطرفة وأدبياتها بخاصة، والتي في ظني تقوم على تصورين:
الأول: الأردن وطن بديل، يهجّر إليه فلسطينيو الضفة الغربية (يهودا والسامرة بالتعبير الصهيوني) تهجيرًا قسريًا أو طوعيًا، وهذا المنحى في أساسه أن 'إسرائيل' لن تقبل بدولة فلسطينية، وليس بواردها خيار الدولة ثنائية القومية.
الآخر: الأردن في ذات الذهنية اليمينية المتطرفة جزء من 'إسرائيل الكبرى' الممتدة من النيل إلى الفرات، وفقًا للتحريفات التوراتية، ووفقًا لتصور 'إسرائيل' لنفسها كقلعة أميركية وأوروبية متقدمة في المنطقة يفترض أن تتوسع فيها وتهيمن عليها.
التصوران السابقان تحتهما تفاصيل وحيثيات لا مجال للتوسع في شرحها، لكن ما يجب تذكره هنا أن الكيان الصهيوني لا يؤتمن جانبه، فهو لا يقيم وزنًا للمعاهدات والاتفاقيات، ولا يلتزم بأي قيم وأخلاقيات، هو فقط يخطط ويتحرك من وحي مشروعه الذاتي دون أي اعتبار لمصالح غيره ومهما كانت صلاته وعلاقاته به.
وكي نفهم ونتعمق بالمشهد الراهن ومآلاته، أردنيًا، علينا أن نطرح سؤالًا ضروريًا ومهمًا وتأسيسا: لماذا تحركت حماس بذراعها العسكرية في 7 تشرين أول؟
بالقراءة الأولى، جاء تحرك 'حماس'، بوصفها تنظيمًا مقاومًا، وفقًا لحسابات فلسطينية خالصة؛ القضية الفلسطينية رُكِنت على الرف وتجاوزها العالم، الضفة الغربية مستباحة، والأقصى كذلك، التطبيع العربي الإسرائيلي يتوسع عبر الاتفاقيات الإبراهيمية.
بمعنى أن ما حدث في 7 تشرين أول لم يكن ترفًا أو استعراضًا أو مغامرة، بل حاجة فلسطينية، وحاجة ملحة لاستعادة الاهتمام بالقضية الفلسطينية ووضعها موضع الصدارة عالميًا ومنع تصفيتها.. وهو كذلك حاجة لحماس ذاتها التي استشعرت أن رأسها مطلوب في سياق تسويات تتم بين 'إسرائيل' وقوى دولية وعربية.
هذه التسويات، في بعدها الإقليمي والدولي وأطرافها، لا يمكنها استيعاب بقاء حماس كقوة مهيمنة ومناوئة لها في قطاع غزة، وحائط صد يحمي القطاع وبحره المتخم بالغاز، وشماله الذي هو جزء من مشروع الممر الهندي الأوروبي عبر الكيان الصهيوني الذي أعلن في قمة العشرين الأخيرة.
وإذا ما وضعنا ذلك كله في سياق أردني، سندرك، بموضوعية تامة، أن أسباب تحرك حماس عسكريًا، هي ذاتها أسباب قلق أردني تعاظَم في السنوات الأخيرة جراء جملة عوامل من بينها:
أولًا: انسداد الأفق لأي حل للقضية الفلسطينية، وعدم جدية 'إسرائيل' بعقد تسوية تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية، وتراجع اهتمام العالم وعدم انخراطه عمليا في فرض حل يحقق طموحات الفلسطينيين.
ثانيًا: التهديد المستمر للمسجد الأقصى وتخطيط 'إسرائيل' لتقسيمه زمانيًا ومكانيًا، وتوسع اقتحامات المستوطنين والمسؤولين المتطرفين لباحاته، فضلا عن أفعالها في الضفة الغربية من اقتحامات وإمعان في تقطيع أوصالها بالحواجز والمستوطنات والبؤر الاستيطانية.
ثالثًا: العلاقات الأردنية الإسرائيلية المتوترة منذ عدة سنوات جراء صعود اليمين المتطرف والمحمول على مشاريع تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن ومصر، وتهيئته لكل أسباب التصفية بخلق المزيد من الوقائع على الأرض.
رابعا: الاتفاقيات الإبراهيمية التي قفزت من فوق الأردن ومن فوق القضية الفلسطينية، وهذه الاتفاقات لا تجعل 'إسرائيل' ملزمة بأي تنازلات لصالح الفلسطينيين، بل يمكن أن تساوم على مصالح الأردن في القدس والضفة الغربية.
هذه العوامل، وغيرها، تجعل القلق الأردني من سياسات ومشاريع 'إسرائيل' قلقًا منطقيًا ومشروعًا، وأي تجاوز أو تجاهل لما يفكر فيه الكيان غير مقبول، ولا يمكن التساهل معه، لا بل يستلزم سياسات وإجراءات عملية وقوية تلجمه.
إذن، وهذا الحال، هل يمكن البناء على ما فعلته حماس..؟
تحب حماس أم تكرهها، ليس هذا المهم، وحتى لو شكلت لك قلقًا من نوع ما، فـ'إسرائيل' الخطر الأكبر والحقيقي والوجودي الذي يستدعي كل أنواع القلق وأشكاله.. وما فعلته حماس وهو لم يكن متخيلًا وخارج الحسابات؛ قلَب الطاولة، وغير في جوهر المقاربات، وأعاد صياغة المعادلات، وأربك كل التسويات الإقليمية والمشاريع التصفوية.
إذ استعادت القضية الفلسطينية مكانها، بقدسها ومقدساتها وضفتها الغربية وقطاعها، وباتت قضية العالم، رسميا وشعبيا، وتعطل قطار التطبيع، والأهم؛ تلقت 'إسرائيل' ضربة في مقتل، وانكشف عمق أزمتها الداخلية، وظهرت هشاشتها بأوضح صورها، وتحطمت أسطورة القوة التي لا تقهر، وأوهامنا حيالها.
أيضا، خسرت 'إسرائيل' روايتها وسرديتها، وبرزت، عالميًا، ككيان إجرامي دموي بشع لا يحمل أي قيمة أخلاقية أو إنسانية، وككيان إحلالي وظيفي مصطنع سيتحول مع الوقت ونتيجة لانهيار صورته إلى عبء على صنَاعه ورعاته.
هذه كلها أسباب أضعفت الكيان، وتفتح الباب للأردن أكثر من أي دولة عربية أو مسلمة، وبما يملكه من قوة تأثير، إقليميًا وعالميًا، لاقتناص اللحظة وبناء موقف يحرج الجميع، عربًا ومسلمين، ويدفعهم إلى تبني ما يلجم كل المخططات الإسرائيلية، بل ويدفع الكيان إلى تسويات تعطي الفلسطينيين حقهم، وتحمي الأردن.
بالنتيجة من الطبيعي هنا أن نسأل أنفسنا السؤال التالي: هل انتصار المقاومة مصلحة أردنية..؟
من غير أي التباس أو مواربة، نعم، انتصار المقاومة مصلحة أردنية استراتيجية وكبرى، لأن هذا الانتصار معناه الوحيد أن مشاريع 'إسرائيل' تعطلت إن لم تكن سلكت طريقها إلى مزبلة التاريخ، وإذا 'لا سمح الله' كسرت المقاومة فالقادم أسوأ، فـ'إسرائيل' لن تفوّت الفرصة لتحقيق مشاريعها على نحو تراكمي ومتسارع.
وكي تتعطل مشاريعها لا بد وأن يكسر الكيان أمام المقاومة بتمكينها من رفع الكلفة على الاحتلال وتحويل رمال غزة إلى مستنقع تغرق فيه، ويستنزفها، ومن الضرورات القصوى أيضا تعزيز صمود أبناء القطاع وتوفير ما يلزم من مقومات الحياة في كل القطاع ورغم إرادة الاحتلال، وإنفاذا لقرار القمة العربية والإسلامية.
والأردن ومصر بوصفهما الأكثر تضررا من أفعال 'إسرائيل' بإمكانهما أن يشكلا معا قاطرة لموقف عربي وإسلامي ضاغط على أميركا وأوروبا، وتاليا الكيان لوقف عدوانه ومنع إحداث أي تغييرات عميقة في بنية القطاع.
أي هناك حاجة لاستراتيجية عمل محكمة منسقة، ومتسلسلة متصاعدة، ولقد أسس لها، أردنيا، بمواقف وخطوات شعبية ورسمية، بتعبيرات سياسية قوية وصلبة، وخطوات عملية من وزن استدعاء سفيرنا من الكيان، ومن ثم الإعلان عن عدم توقيع اتفاقية الطاقة والمياه، وهي كلها ذات تأثير.
وفي جعبة الأردن، بلا أدنى شك، خطوات أخرى، أكثر قوة وأعمق تأثيرا، قد يلجأ إليها حال استمر العدوان على القطاع وتعاظمت المخاطر.
في المحصلة، ما حدث في 7 تشرين أول كان خطوة استباقية لجأت إليها حماس ومنحت الجميع فرصة لعكس المسارات، وتغيير نتائجها.. والمهم ألا تضيع هذه الفرصة.
بقلم: نقيب الصحفيين الأردنيين راكان السعايدة
يقرأ الأردن ويدقق جيدًا في تفاصيل الإجرام الإسرائيلي في قطاع غزة، ويبني موقفه المتدرج وفقًا لسير العدوان والمآلات المرتبطة به، ليس على القطاع فقط، وإنما أيضًا على القضية الفلسطينية برمتها والمنطقة.
هذه قراءة مطلوبة، وبشكل ملحّ، وكي تكون استنتاجاتها وخلاصاتها صحيحة دقيقة لابد وأن توضع في سياقات أوسع وأشمل، أيْ قراءة تستحضر مكانة الأردن في الذهنية الإسرائيلية الكلية، والذهنية اليمينية المتطرفة وأدبياتها بخاصة، والتي في ظني تقوم على تصورين:
الأول: الأردن وطن بديل، يهجّر إليه فلسطينيو الضفة الغربية (يهودا والسامرة بالتعبير الصهيوني) تهجيرًا قسريًا أو طوعيًا، وهذا المنحى في أساسه أن 'إسرائيل' لن تقبل بدولة فلسطينية، وليس بواردها خيار الدولة ثنائية القومية.
الآخر: الأردن في ذات الذهنية اليمينية المتطرفة جزء من 'إسرائيل الكبرى' الممتدة من النيل إلى الفرات، وفقًا للتحريفات التوراتية، ووفقًا لتصور 'إسرائيل' لنفسها كقلعة أميركية وأوروبية متقدمة في المنطقة يفترض أن تتوسع فيها وتهيمن عليها.
التصوران السابقان تحتهما تفاصيل وحيثيات لا مجال للتوسع في شرحها، لكن ما يجب تذكره هنا أن الكيان الصهيوني لا يؤتمن جانبه، فهو لا يقيم وزنًا للمعاهدات والاتفاقيات، ولا يلتزم بأي قيم وأخلاقيات، هو فقط يخطط ويتحرك من وحي مشروعه الذاتي دون أي اعتبار لمصالح غيره ومهما كانت صلاته وعلاقاته به.
وكي نفهم ونتعمق بالمشهد الراهن ومآلاته، أردنيًا، علينا أن نطرح سؤالًا ضروريًا ومهمًا وتأسيسا: لماذا تحركت حماس بذراعها العسكرية في 7 تشرين أول؟
بالقراءة الأولى، جاء تحرك 'حماس'، بوصفها تنظيمًا مقاومًا، وفقًا لحسابات فلسطينية خالصة؛ القضية الفلسطينية رُكِنت على الرف وتجاوزها العالم، الضفة الغربية مستباحة، والأقصى كذلك، التطبيع العربي الإسرائيلي يتوسع عبر الاتفاقيات الإبراهيمية.
بمعنى أن ما حدث في 7 تشرين أول لم يكن ترفًا أو استعراضًا أو مغامرة، بل حاجة فلسطينية، وحاجة ملحة لاستعادة الاهتمام بالقضية الفلسطينية ووضعها موضع الصدارة عالميًا ومنع تصفيتها.. وهو كذلك حاجة لحماس ذاتها التي استشعرت أن رأسها مطلوب في سياق تسويات تتم بين 'إسرائيل' وقوى دولية وعربية.
هذه التسويات، في بعدها الإقليمي والدولي وأطرافها، لا يمكنها استيعاب بقاء حماس كقوة مهيمنة ومناوئة لها في قطاع غزة، وحائط صد يحمي القطاع وبحره المتخم بالغاز، وشماله الذي هو جزء من مشروع الممر الهندي الأوروبي عبر الكيان الصهيوني الذي أعلن في قمة العشرين الأخيرة.
وإذا ما وضعنا ذلك كله في سياق أردني، سندرك، بموضوعية تامة، أن أسباب تحرك حماس عسكريًا، هي ذاتها أسباب قلق أردني تعاظَم في السنوات الأخيرة جراء جملة عوامل من بينها:
أولًا: انسداد الأفق لأي حل للقضية الفلسطينية، وعدم جدية 'إسرائيل' بعقد تسوية تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية، وتراجع اهتمام العالم وعدم انخراطه عمليا في فرض حل يحقق طموحات الفلسطينيين.
ثانيًا: التهديد المستمر للمسجد الأقصى وتخطيط 'إسرائيل' لتقسيمه زمانيًا ومكانيًا، وتوسع اقتحامات المستوطنين والمسؤولين المتطرفين لباحاته، فضلا عن أفعالها في الضفة الغربية من اقتحامات وإمعان في تقطيع أوصالها بالحواجز والمستوطنات والبؤر الاستيطانية.
ثالثًا: العلاقات الأردنية الإسرائيلية المتوترة منذ عدة سنوات جراء صعود اليمين المتطرف والمحمول على مشاريع تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن ومصر، وتهيئته لكل أسباب التصفية بخلق المزيد من الوقائع على الأرض.
رابعا: الاتفاقيات الإبراهيمية التي قفزت من فوق الأردن ومن فوق القضية الفلسطينية، وهذه الاتفاقات لا تجعل 'إسرائيل' ملزمة بأي تنازلات لصالح الفلسطينيين، بل يمكن أن تساوم على مصالح الأردن في القدس والضفة الغربية.
هذه العوامل، وغيرها، تجعل القلق الأردني من سياسات ومشاريع 'إسرائيل' قلقًا منطقيًا ومشروعًا، وأي تجاوز أو تجاهل لما يفكر فيه الكيان غير مقبول، ولا يمكن التساهل معه، لا بل يستلزم سياسات وإجراءات عملية وقوية تلجمه.
إذن، وهذا الحال، هل يمكن البناء على ما فعلته حماس..؟
تحب حماس أم تكرهها، ليس هذا المهم، وحتى لو شكلت لك قلقًا من نوع ما، فـ'إسرائيل' الخطر الأكبر والحقيقي والوجودي الذي يستدعي كل أنواع القلق وأشكاله.. وما فعلته حماس وهو لم يكن متخيلًا وخارج الحسابات؛ قلَب الطاولة، وغير في جوهر المقاربات، وأعاد صياغة المعادلات، وأربك كل التسويات الإقليمية والمشاريع التصفوية.
إذ استعادت القضية الفلسطينية مكانها، بقدسها ومقدساتها وضفتها الغربية وقطاعها، وباتت قضية العالم، رسميا وشعبيا، وتعطل قطار التطبيع، والأهم؛ تلقت 'إسرائيل' ضربة في مقتل، وانكشف عمق أزمتها الداخلية، وظهرت هشاشتها بأوضح صورها، وتحطمت أسطورة القوة التي لا تقهر، وأوهامنا حيالها.
أيضا، خسرت 'إسرائيل' روايتها وسرديتها، وبرزت، عالميًا، ككيان إجرامي دموي بشع لا يحمل أي قيمة أخلاقية أو إنسانية، وككيان إحلالي وظيفي مصطنع سيتحول مع الوقت ونتيجة لانهيار صورته إلى عبء على صنَاعه ورعاته.
هذه كلها أسباب أضعفت الكيان، وتفتح الباب للأردن أكثر من أي دولة عربية أو مسلمة، وبما يملكه من قوة تأثير، إقليميًا وعالميًا، لاقتناص اللحظة وبناء موقف يحرج الجميع، عربًا ومسلمين، ويدفعهم إلى تبني ما يلجم كل المخططات الإسرائيلية، بل ويدفع الكيان إلى تسويات تعطي الفلسطينيين حقهم، وتحمي الأردن.
بالنتيجة من الطبيعي هنا أن نسأل أنفسنا السؤال التالي: هل انتصار المقاومة مصلحة أردنية..؟
من غير أي التباس أو مواربة، نعم، انتصار المقاومة مصلحة أردنية استراتيجية وكبرى، لأن هذا الانتصار معناه الوحيد أن مشاريع 'إسرائيل' تعطلت إن لم تكن سلكت طريقها إلى مزبلة التاريخ، وإذا 'لا سمح الله' كسرت المقاومة فالقادم أسوأ، فـ'إسرائيل' لن تفوّت الفرصة لتحقيق مشاريعها على نحو تراكمي ومتسارع.
وكي تتعطل مشاريعها لا بد وأن يكسر الكيان أمام المقاومة بتمكينها من رفع الكلفة على الاحتلال وتحويل رمال غزة إلى مستنقع تغرق فيه، ويستنزفها، ومن الضرورات القصوى أيضا تعزيز صمود أبناء القطاع وتوفير ما يلزم من مقومات الحياة في كل القطاع ورغم إرادة الاحتلال، وإنفاذا لقرار القمة العربية والإسلامية.
والأردن ومصر بوصفهما الأكثر تضررا من أفعال 'إسرائيل' بإمكانهما أن يشكلا معا قاطرة لموقف عربي وإسلامي ضاغط على أميركا وأوروبا، وتاليا الكيان لوقف عدوانه ومنع إحداث أي تغييرات عميقة في بنية القطاع.
أي هناك حاجة لاستراتيجية عمل محكمة منسقة، ومتسلسلة متصاعدة، ولقد أسس لها، أردنيا، بمواقف وخطوات شعبية ورسمية، بتعبيرات سياسية قوية وصلبة، وخطوات عملية من وزن استدعاء سفيرنا من الكيان، ومن ثم الإعلان عن عدم توقيع اتفاقية الطاقة والمياه، وهي كلها ذات تأثير.
وفي جعبة الأردن، بلا أدنى شك، خطوات أخرى، أكثر قوة وأعمق تأثيرا، قد يلجأ إليها حال استمر العدوان على القطاع وتعاظمت المخاطر.
في المحصلة، ما حدث في 7 تشرين أول كان خطوة استباقية لجأت إليها حماس ومنحت الجميع فرصة لعكس المسارات، وتغيير نتائجها.. والمهم ألا تضيع هذه الفرصة.
بقلم: نقيب الصحفيين الأردنيين راكان السعايدة
يقرأ الأردن ويدقق جيدًا في تفاصيل الإجرام الإسرائيلي في قطاع غزة، ويبني موقفه المتدرج وفقًا لسير العدوان والمآلات المرتبطة به، ليس على القطاع فقط، وإنما أيضًا على القضية الفلسطينية برمتها والمنطقة.
هذه قراءة مطلوبة، وبشكل ملحّ، وكي تكون استنتاجاتها وخلاصاتها صحيحة دقيقة لابد وأن توضع في سياقات أوسع وأشمل، أيْ قراءة تستحضر مكانة الأردن في الذهنية الإسرائيلية الكلية، والذهنية اليمينية المتطرفة وأدبياتها بخاصة، والتي في ظني تقوم على تصورين:
الأول: الأردن وطن بديل، يهجّر إليه فلسطينيو الضفة الغربية (يهودا والسامرة بالتعبير الصهيوني) تهجيرًا قسريًا أو طوعيًا، وهذا المنحى في أساسه أن 'إسرائيل' لن تقبل بدولة فلسطينية، وليس بواردها خيار الدولة ثنائية القومية.
الآخر: الأردن في ذات الذهنية اليمينية المتطرفة جزء من 'إسرائيل الكبرى' الممتدة من النيل إلى الفرات، وفقًا للتحريفات التوراتية، ووفقًا لتصور 'إسرائيل' لنفسها كقلعة أميركية وأوروبية متقدمة في المنطقة يفترض أن تتوسع فيها وتهيمن عليها.
التصوران السابقان تحتهما تفاصيل وحيثيات لا مجال للتوسع في شرحها، لكن ما يجب تذكره هنا أن الكيان الصهيوني لا يؤتمن جانبه، فهو لا يقيم وزنًا للمعاهدات والاتفاقيات، ولا يلتزم بأي قيم وأخلاقيات، هو فقط يخطط ويتحرك من وحي مشروعه الذاتي دون أي اعتبار لمصالح غيره ومهما كانت صلاته وعلاقاته به.
وكي نفهم ونتعمق بالمشهد الراهن ومآلاته، أردنيًا، علينا أن نطرح سؤالًا ضروريًا ومهمًا وتأسيسا: لماذا تحركت حماس بذراعها العسكرية في 7 تشرين أول؟
بالقراءة الأولى، جاء تحرك 'حماس'، بوصفها تنظيمًا مقاومًا، وفقًا لحسابات فلسطينية خالصة؛ القضية الفلسطينية رُكِنت على الرف وتجاوزها العالم، الضفة الغربية مستباحة، والأقصى كذلك، التطبيع العربي الإسرائيلي يتوسع عبر الاتفاقيات الإبراهيمية.
بمعنى أن ما حدث في 7 تشرين أول لم يكن ترفًا أو استعراضًا أو مغامرة، بل حاجة فلسطينية، وحاجة ملحة لاستعادة الاهتمام بالقضية الفلسطينية ووضعها موضع الصدارة عالميًا ومنع تصفيتها.. وهو كذلك حاجة لحماس ذاتها التي استشعرت أن رأسها مطلوب في سياق تسويات تتم بين 'إسرائيل' وقوى دولية وعربية.
هذه التسويات، في بعدها الإقليمي والدولي وأطرافها، لا يمكنها استيعاب بقاء حماس كقوة مهيمنة ومناوئة لها في قطاع غزة، وحائط صد يحمي القطاع وبحره المتخم بالغاز، وشماله الذي هو جزء من مشروع الممر الهندي الأوروبي عبر الكيان الصهيوني الذي أعلن في قمة العشرين الأخيرة.
وإذا ما وضعنا ذلك كله في سياق أردني، سندرك، بموضوعية تامة، أن أسباب تحرك حماس عسكريًا، هي ذاتها أسباب قلق أردني تعاظَم في السنوات الأخيرة جراء جملة عوامل من بينها:
أولًا: انسداد الأفق لأي حل للقضية الفلسطينية، وعدم جدية 'إسرائيل' بعقد تسوية تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية، وتراجع اهتمام العالم وعدم انخراطه عمليا في فرض حل يحقق طموحات الفلسطينيين.
ثانيًا: التهديد المستمر للمسجد الأقصى وتخطيط 'إسرائيل' لتقسيمه زمانيًا ومكانيًا، وتوسع اقتحامات المستوطنين والمسؤولين المتطرفين لباحاته، فضلا عن أفعالها في الضفة الغربية من اقتحامات وإمعان في تقطيع أوصالها بالحواجز والمستوطنات والبؤر الاستيطانية.
ثالثًا: العلاقات الأردنية الإسرائيلية المتوترة منذ عدة سنوات جراء صعود اليمين المتطرف والمحمول على مشاريع تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن ومصر، وتهيئته لكل أسباب التصفية بخلق المزيد من الوقائع على الأرض.
رابعا: الاتفاقيات الإبراهيمية التي قفزت من فوق الأردن ومن فوق القضية الفلسطينية، وهذه الاتفاقات لا تجعل 'إسرائيل' ملزمة بأي تنازلات لصالح الفلسطينيين، بل يمكن أن تساوم على مصالح الأردن في القدس والضفة الغربية.
هذه العوامل، وغيرها، تجعل القلق الأردني من سياسات ومشاريع 'إسرائيل' قلقًا منطقيًا ومشروعًا، وأي تجاوز أو تجاهل لما يفكر فيه الكيان غير مقبول، ولا يمكن التساهل معه، لا بل يستلزم سياسات وإجراءات عملية وقوية تلجمه.
إذن، وهذا الحال، هل يمكن البناء على ما فعلته حماس..؟
تحب حماس أم تكرهها، ليس هذا المهم، وحتى لو شكلت لك قلقًا من نوع ما، فـ'إسرائيل' الخطر الأكبر والحقيقي والوجودي الذي يستدعي كل أنواع القلق وأشكاله.. وما فعلته حماس وهو لم يكن متخيلًا وخارج الحسابات؛ قلَب الطاولة، وغير في جوهر المقاربات، وأعاد صياغة المعادلات، وأربك كل التسويات الإقليمية والمشاريع التصفوية.
إذ استعادت القضية الفلسطينية مكانها، بقدسها ومقدساتها وضفتها الغربية وقطاعها، وباتت قضية العالم، رسميا وشعبيا، وتعطل قطار التطبيع، والأهم؛ تلقت 'إسرائيل' ضربة في مقتل، وانكشف عمق أزمتها الداخلية، وظهرت هشاشتها بأوضح صورها، وتحطمت أسطورة القوة التي لا تقهر، وأوهامنا حيالها.
أيضا، خسرت 'إسرائيل' روايتها وسرديتها، وبرزت، عالميًا، ككيان إجرامي دموي بشع لا يحمل أي قيمة أخلاقية أو إنسانية، وككيان إحلالي وظيفي مصطنع سيتحول مع الوقت ونتيجة لانهيار صورته إلى عبء على صنَاعه ورعاته.
هذه كلها أسباب أضعفت الكيان، وتفتح الباب للأردن أكثر من أي دولة عربية أو مسلمة، وبما يملكه من قوة تأثير، إقليميًا وعالميًا، لاقتناص اللحظة وبناء موقف يحرج الجميع، عربًا ومسلمين، ويدفعهم إلى تبني ما يلجم كل المخططات الإسرائيلية، بل ويدفع الكيان إلى تسويات تعطي الفلسطينيين حقهم، وتحمي الأردن.
بالنتيجة من الطبيعي هنا أن نسأل أنفسنا السؤال التالي: هل انتصار المقاومة مصلحة أردنية..؟
من غير أي التباس أو مواربة، نعم، انتصار المقاومة مصلحة أردنية استراتيجية وكبرى، لأن هذا الانتصار معناه الوحيد أن مشاريع 'إسرائيل' تعطلت إن لم تكن سلكت طريقها إلى مزبلة التاريخ، وإذا 'لا سمح الله' كسرت المقاومة فالقادم أسوأ، فـ'إسرائيل' لن تفوّت الفرصة لتحقيق مشاريعها على نحو تراكمي ومتسارع.
وكي تتعطل مشاريعها لا بد وأن يكسر الكيان أمام المقاومة بتمكينها من رفع الكلفة على الاحتلال وتحويل رمال غزة إلى مستنقع تغرق فيه، ويستنزفها، ومن الضرورات القصوى أيضا تعزيز صمود أبناء القطاع وتوفير ما يلزم من مقومات الحياة في كل القطاع ورغم إرادة الاحتلال، وإنفاذا لقرار القمة العربية والإسلامية.
والأردن ومصر بوصفهما الأكثر تضررا من أفعال 'إسرائيل' بإمكانهما أن يشكلا معا قاطرة لموقف عربي وإسلامي ضاغط على أميركا وأوروبا، وتاليا الكيان لوقف عدوانه ومنع إحداث أي تغييرات عميقة في بنية القطاع.
أي هناك حاجة لاستراتيجية عمل محكمة منسقة، ومتسلسلة متصاعدة، ولقد أسس لها، أردنيا، بمواقف وخطوات شعبية ورسمية، بتعبيرات سياسية قوية وصلبة، وخطوات عملية من وزن استدعاء سفيرنا من الكيان، ومن ثم الإعلان عن عدم توقيع اتفاقية الطاقة والمياه، وهي كلها ذات تأثير.
وفي جعبة الأردن، بلا أدنى شك، خطوات أخرى، أكثر قوة وأعمق تأثيرا، قد يلجأ إليها حال استمر العدوان على القطاع وتعاظمت المخاطر.
في المحصلة، ما حدث في 7 تشرين أول كان خطوة استباقية لجأت إليها حماس ومنحت الجميع فرصة لعكس المسارات، وتغيير نتائجها.. والمهم ألا تضيع هذه الفرصة.
التعليقات