مرت السنوات..و السنوات... وفي الثمانينات والتسعينات ظَلَّت المُنخفضات عميقة وأمطارها غزيرة.. وخَيْراتها وفيرة، سالَ وادي بيرين في تلك الفترة أكثر من مرة، وعَلَتْ مِياههُ جوانب الوادي - فِيما يُعرف (بالمَدَّة) من شدة الهُطول. كان المُنخفض الجوي طويل الأمد ويستمرُ أياماً، وترى الثلوجَ مُتَوسِدةً على الطرقاتِ وفوقَ الجبالِ والتلالِ والسفوحِ. كانت النَّشرة الجوية في (أخبار الثامنة) هي الوكيل الحصري والوحيد لمعرفة أحوال الطقس.
عندما كُنّا صِغاراً.. كُنّا ننكمِشُ جميعاً في غرفة واحدة من أجل مبدأ تكافؤ الفرص في الحصولِ على الدِّفْءِ وتوزيعِ الأرزاقِ والمُكسَّراتِ و(البسكوت بْرَاحَة) والخَدَمات، نَلْتَحِفُ بالحِرامات.. ونَعْتكِفُ جوار الصّوبات، نرتدي ملابس الصّوف الثقيلة مع (جوزين جرابات)، ونحصلُ أيضاً على دِفْئاٍ أَخَرَ من قِصص الأمِّ وحِكايات الأبِّ، (طنجرة العدس) تُطبخ على نار هادئة، يتزامنُ ذلك مع رائحة البطاطا المشوية على الصّوبة والتي تفوحُ في أركانِ الغرفة.
في تلك التَّجَمُّعَات الشتوية كُنّا نتسامرُ ونتركُ الرياح في الخارج مرحبا وهي تتعاركُ مع النوافِذِ المُوصدةِ، غير عابِئينَ بِصريرها وقوتها التي أحياناً ما تخلعُ (لوح زينكو) أو تقذف خزان حديد من شدة سرعتها، أمّا الموسيقى التصويرية لتلك اللَّمَّة فهي صوت قَرقعة المطر على الشبابيك..تستطيع معرفة قوة المنخفض ومعدل هطول الأمطار بمجرد تقدير شدة وتيرة تلك القطرات وسرعتها على النافذة، بإستثناء الثلج.؛!!.. الذي كان ينزلُ مُباغِتاً.. خافِتاً.. ومَحْفُوفَاً بِبَركات الثُّلثِ الأخيرِ من اللّيل.
كان الآباءُ يُعْلِنونَ عن تعليماتٍ قاسيةٍ قبل النَّومِ، ويُطْلِقُونَ قرار حَظْر التَّجول داخل الغُرف والمَطْبخِ وصَالونِ الدَّار، كانوا يُخَبِئونَ عَنَّا (ريموت) التلفاز لِمَنْع استمرار السَّهر، حينها نضطرُ لعمل سَطو على (الراديو) حتى نُتابع مُستجدات الأحوال الجوية، يستغلُ الأخ الأكبر هذا الفراغ السياسي ويَقومُ بمحاولة انقلاب.. ويفرضُ سيطرته على الراديو طوال الليل، كانت أحلى عِبَارة نَسمَعُها من ذلكَ المِذياع : (طريق بيرين مغلقة بسبب تراكم الثلوج).
تنقطعُ الكهرباء كعادة كل منخفض، وقتها يتم تعين مُراسل في الدَّار يتطوعُ لمراقبة حالة الطقس من جميع شبابيك الغُرف، ويُعطي تقرير عن بداية سقوط الثلج وتقدير سماكتهِ لحظةً بلحظة، كان من يذهب لِتلكَ المَهَمَّةِ بِمثابة السفر إلى الأسكيمو أو إلى جبال الهِملايا، بعد كل ذلك نستسلمُ لنومٍ عميق- بعد ما يقول المُراسل عِبارتهُ الأخيرة : (الدنيا برة... طاسة بيضاء)، نَنامُ ورؤوسنا مُنْدَسةٌ تحت الغِطاء ورُكَبُنَا عند بُطونِنَا .. نَنامُ وتبقى جُمْلة (طريق بيرين مغلقة بسبب تراكم الثلوج) عَالقةً في أذهانِنَا.
ما أنْ نستيقظَ في الصباح.. حتى نَفزعَ من فراشنا كالمذعورينَ.. نرتدي الجاكيتات و(جزمات القدم) التي تصل إلى مُنتصف السَّاق مع طاقيات الصوف للرأس، وصوت (فيروز) يَصدحُ بين فواصل تقارير التلفزيون الأردني وهي تُغنِّي: (تلج.. تلج.. عم بتشي الدنيا تلج..) وقبلَ أنْ تقول: (والنّجمات حيرانين.. وزهور الطرقات بردانين) نكونُ قد أصبحنا في الخارجِ على الطُرقات.
نركضُ إلى شوارع بيرين مع ابناء الجيران، نصولُ ونجولُ مع الحارات الأُخرى، نتعاركُ بالثلج..نعلنُ حَرباً.. ونَشنُّ هُجومَاً.. يَقعُ أسرى .. ويَسقطُ مُصابين.. كُل ذلك بالثلج..تبتلُ ملابسنا الداخلية والخارجية.. وتصطكُ أسناننا ونفقد الإحساس بِأصابِعنا وأطرافنا من شدة الإنجماد، رغمَ ذلك كُنّا فَرِحينَ.. كان فرحُنا أصفى من الثلج الذي ندوسُ عليهِ، وكانت الفَتياتُ يصنعنَ أشكالً ومُجَسّماتٍ بالثلج، أو يُدَحرِجنَ كرة ثلجٍ ضخمةٍ بمساعدة آبائهنَّ.
حينما تنتهي معاركنا نعودُ إلى البيوت قبل الظهيرة.. توبِّخُنا أُمَّهاتنا على ملابسنا المُبللة، لكنَّنا لا نُبالي بذلك، نعانقُ الصّوبات.. ونَلْتهِمُ الغَداء (طاسة الرُّشُوف مع الفَتَّة)، أو نتناولُ (البِشِيْلة) التي يُعِدُّهَا الآباءُ على الصّوبة.. كانت لذيدة ودافئة.. وتُعطينا طاقة حرارية وكأنَّنا تناولنا ٣٠ درجة مئوية دفعةً واحدة، نجلسُ بعدها حول التلفاز نتابعُ التَّغطية عن كل مناطق المملكة، نتحمسُ.. ثمَّ نتفقُ سِراً على جولة ثانية في المساء شَرِيْطَةَ أنْ يَعِدُنا الثلج بأنْ لايذوب.
ربما هذه الأيام.. لم تَعُدْ المنخفضات أصيلة مثل قبل، ولم يَعُدْ يهِمُّها مصلحة البلد.. وصار المنخفض الجوي يأتي لكي يرجع، وأصبحت الرياح المُثقلة بالخيرات تَهبُّ ولا تعود.. تماما مثل النصيحة في رأس شخص أخرق.. تدخل في أُذن وتخرج من الأُذن الأُخرى، حتى حَبّات الثلج صارت متواطئة مع قسوة الزمن.. وصارت تلك الحبّات باهتة.. وتموتُ بمجرد ولادتها، وأصبحَ المرءُ يتمنّى أنْ تتغيرَ الجُمْلة التي سئمناها من سنواتٍ_ وهي: (طريق بيرين سالكة ولا تراكم للثلوج).!!.
الاثنين ٢٠٢٣/٢/٦
عَشِيَّةَ مُنخفض جوي..
مرت السنوات..و السنوات... وفي الثمانينات والتسعينات ظَلَّت المُنخفضات عميقة وأمطارها غزيرة.. وخَيْراتها وفيرة، سالَ وادي بيرين في تلك الفترة أكثر من مرة، وعَلَتْ مِياههُ جوانب الوادي - فِيما يُعرف (بالمَدَّة) من شدة الهُطول. كان المُنخفض الجوي طويل الأمد ويستمرُ أياماً، وترى الثلوجَ مُتَوسِدةً على الطرقاتِ وفوقَ الجبالِ والتلالِ والسفوحِ. كانت النَّشرة الجوية في (أخبار الثامنة) هي الوكيل الحصري والوحيد لمعرفة أحوال الطقس.
عندما كُنّا صِغاراً.. كُنّا ننكمِشُ جميعاً في غرفة واحدة من أجل مبدأ تكافؤ الفرص في الحصولِ على الدِّفْءِ وتوزيعِ الأرزاقِ والمُكسَّراتِ و(البسكوت بْرَاحَة) والخَدَمات، نَلْتَحِفُ بالحِرامات.. ونَعْتكِفُ جوار الصّوبات، نرتدي ملابس الصّوف الثقيلة مع (جوزين جرابات)، ونحصلُ أيضاً على دِفْئاٍ أَخَرَ من قِصص الأمِّ وحِكايات الأبِّ، (طنجرة العدس) تُطبخ على نار هادئة، يتزامنُ ذلك مع رائحة البطاطا المشوية على الصّوبة والتي تفوحُ في أركانِ الغرفة.
في تلك التَّجَمُّعَات الشتوية كُنّا نتسامرُ ونتركُ الرياح في الخارج مرحبا وهي تتعاركُ مع النوافِذِ المُوصدةِ، غير عابِئينَ بِصريرها وقوتها التي أحياناً ما تخلعُ (لوح زينكو) أو تقذف خزان حديد من شدة سرعتها، أمّا الموسيقى التصويرية لتلك اللَّمَّة فهي صوت قَرقعة المطر على الشبابيك..تستطيع معرفة قوة المنخفض ومعدل هطول الأمطار بمجرد تقدير شدة وتيرة تلك القطرات وسرعتها على النافذة، بإستثناء الثلج.؛!!.. الذي كان ينزلُ مُباغِتاً.. خافِتاً.. ومَحْفُوفَاً بِبَركات الثُّلثِ الأخيرِ من اللّيل.
كان الآباءُ يُعْلِنونَ عن تعليماتٍ قاسيةٍ قبل النَّومِ، ويُطْلِقُونَ قرار حَظْر التَّجول داخل الغُرف والمَطْبخِ وصَالونِ الدَّار، كانوا يُخَبِئونَ عَنَّا (ريموت) التلفاز لِمَنْع استمرار السَّهر، حينها نضطرُ لعمل سَطو على (الراديو) حتى نُتابع مُستجدات الأحوال الجوية، يستغلُ الأخ الأكبر هذا الفراغ السياسي ويَقومُ بمحاولة انقلاب.. ويفرضُ سيطرته على الراديو طوال الليل، كانت أحلى عِبَارة نَسمَعُها من ذلكَ المِذياع : (طريق بيرين مغلقة بسبب تراكم الثلوج).
تنقطعُ الكهرباء كعادة كل منخفض، وقتها يتم تعين مُراسل في الدَّار يتطوعُ لمراقبة حالة الطقس من جميع شبابيك الغُرف، ويُعطي تقرير عن بداية سقوط الثلج وتقدير سماكتهِ لحظةً بلحظة، كان من يذهب لِتلكَ المَهَمَّةِ بِمثابة السفر إلى الأسكيمو أو إلى جبال الهِملايا، بعد كل ذلك نستسلمُ لنومٍ عميق- بعد ما يقول المُراسل عِبارتهُ الأخيرة : (الدنيا برة... طاسة بيضاء)، نَنامُ ورؤوسنا مُنْدَسةٌ تحت الغِطاء ورُكَبُنَا عند بُطونِنَا .. نَنامُ وتبقى جُمْلة (طريق بيرين مغلقة بسبب تراكم الثلوج) عَالقةً في أذهانِنَا.
ما أنْ نستيقظَ في الصباح.. حتى نَفزعَ من فراشنا كالمذعورينَ.. نرتدي الجاكيتات و(جزمات القدم) التي تصل إلى مُنتصف السَّاق مع طاقيات الصوف للرأس، وصوت (فيروز) يَصدحُ بين فواصل تقارير التلفزيون الأردني وهي تُغنِّي: (تلج.. تلج.. عم بتشي الدنيا تلج..) وقبلَ أنْ تقول: (والنّجمات حيرانين.. وزهور الطرقات بردانين) نكونُ قد أصبحنا في الخارجِ على الطُرقات.
نركضُ إلى شوارع بيرين مع ابناء الجيران، نصولُ ونجولُ مع الحارات الأُخرى، نتعاركُ بالثلج..نعلنُ حَرباً.. ونَشنُّ هُجومَاً.. يَقعُ أسرى .. ويَسقطُ مُصابين.. كُل ذلك بالثلج..تبتلُ ملابسنا الداخلية والخارجية.. وتصطكُ أسناننا ونفقد الإحساس بِأصابِعنا وأطرافنا من شدة الإنجماد، رغمَ ذلك كُنّا فَرِحينَ.. كان فرحُنا أصفى من الثلج الذي ندوسُ عليهِ، وكانت الفَتياتُ يصنعنَ أشكالً ومُجَسّماتٍ بالثلج، أو يُدَحرِجنَ كرة ثلجٍ ضخمةٍ بمساعدة آبائهنَّ.
حينما تنتهي معاركنا نعودُ إلى البيوت قبل الظهيرة.. توبِّخُنا أُمَّهاتنا على ملابسنا المُبللة، لكنَّنا لا نُبالي بذلك، نعانقُ الصّوبات.. ونَلْتهِمُ الغَداء (طاسة الرُّشُوف مع الفَتَّة)، أو نتناولُ (البِشِيْلة) التي يُعِدُّهَا الآباءُ على الصّوبة.. كانت لذيدة ودافئة.. وتُعطينا طاقة حرارية وكأنَّنا تناولنا ٣٠ درجة مئوية دفعةً واحدة، نجلسُ بعدها حول التلفاز نتابعُ التَّغطية عن كل مناطق المملكة، نتحمسُ.. ثمَّ نتفقُ سِراً على جولة ثانية في المساء شَرِيْطَةَ أنْ يَعِدُنا الثلج بأنْ لايذوب.
ربما هذه الأيام.. لم تَعُدْ المنخفضات أصيلة مثل قبل، ولم يَعُدْ يهِمُّها مصلحة البلد.. وصار المنخفض الجوي يأتي لكي يرجع، وأصبحت الرياح المُثقلة بالخيرات تَهبُّ ولا تعود.. تماما مثل النصيحة في رأس شخص أخرق.. تدخل في أُذن وتخرج من الأُذن الأُخرى، حتى حَبّات الثلج صارت متواطئة مع قسوة الزمن.. وصارت تلك الحبّات باهتة.. وتموتُ بمجرد ولادتها، وأصبحَ المرءُ يتمنّى أنْ تتغيرَ الجُمْلة التي سئمناها من سنواتٍ_ وهي: (طريق بيرين سالكة ولا تراكم للثلوج).!!.
الاثنين ٢٠٢٣/٢/٦
عَشِيَّةَ مُنخفض جوي..
مرت السنوات..و السنوات... وفي الثمانينات والتسعينات ظَلَّت المُنخفضات عميقة وأمطارها غزيرة.. وخَيْراتها وفيرة، سالَ وادي بيرين في تلك الفترة أكثر من مرة، وعَلَتْ مِياههُ جوانب الوادي - فِيما يُعرف (بالمَدَّة) من شدة الهُطول. كان المُنخفض الجوي طويل الأمد ويستمرُ أياماً، وترى الثلوجَ مُتَوسِدةً على الطرقاتِ وفوقَ الجبالِ والتلالِ والسفوحِ. كانت النَّشرة الجوية في (أخبار الثامنة) هي الوكيل الحصري والوحيد لمعرفة أحوال الطقس.
عندما كُنّا صِغاراً.. كُنّا ننكمِشُ جميعاً في غرفة واحدة من أجل مبدأ تكافؤ الفرص في الحصولِ على الدِّفْءِ وتوزيعِ الأرزاقِ والمُكسَّراتِ و(البسكوت بْرَاحَة) والخَدَمات، نَلْتَحِفُ بالحِرامات.. ونَعْتكِفُ جوار الصّوبات، نرتدي ملابس الصّوف الثقيلة مع (جوزين جرابات)، ونحصلُ أيضاً على دِفْئاٍ أَخَرَ من قِصص الأمِّ وحِكايات الأبِّ، (طنجرة العدس) تُطبخ على نار هادئة، يتزامنُ ذلك مع رائحة البطاطا المشوية على الصّوبة والتي تفوحُ في أركانِ الغرفة.
في تلك التَّجَمُّعَات الشتوية كُنّا نتسامرُ ونتركُ الرياح في الخارج مرحبا وهي تتعاركُ مع النوافِذِ المُوصدةِ، غير عابِئينَ بِصريرها وقوتها التي أحياناً ما تخلعُ (لوح زينكو) أو تقذف خزان حديد من شدة سرعتها، أمّا الموسيقى التصويرية لتلك اللَّمَّة فهي صوت قَرقعة المطر على الشبابيك..تستطيع معرفة قوة المنخفض ومعدل هطول الأمطار بمجرد تقدير شدة وتيرة تلك القطرات وسرعتها على النافذة، بإستثناء الثلج.؛!!.. الذي كان ينزلُ مُباغِتاً.. خافِتاً.. ومَحْفُوفَاً بِبَركات الثُّلثِ الأخيرِ من اللّيل.
كان الآباءُ يُعْلِنونَ عن تعليماتٍ قاسيةٍ قبل النَّومِ، ويُطْلِقُونَ قرار حَظْر التَّجول داخل الغُرف والمَطْبخِ وصَالونِ الدَّار، كانوا يُخَبِئونَ عَنَّا (ريموت) التلفاز لِمَنْع استمرار السَّهر، حينها نضطرُ لعمل سَطو على (الراديو) حتى نُتابع مُستجدات الأحوال الجوية، يستغلُ الأخ الأكبر هذا الفراغ السياسي ويَقومُ بمحاولة انقلاب.. ويفرضُ سيطرته على الراديو طوال الليل، كانت أحلى عِبَارة نَسمَعُها من ذلكَ المِذياع : (طريق بيرين مغلقة بسبب تراكم الثلوج).
تنقطعُ الكهرباء كعادة كل منخفض، وقتها يتم تعين مُراسل في الدَّار يتطوعُ لمراقبة حالة الطقس من جميع شبابيك الغُرف، ويُعطي تقرير عن بداية سقوط الثلج وتقدير سماكتهِ لحظةً بلحظة، كان من يذهب لِتلكَ المَهَمَّةِ بِمثابة السفر إلى الأسكيمو أو إلى جبال الهِملايا، بعد كل ذلك نستسلمُ لنومٍ عميق- بعد ما يقول المُراسل عِبارتهُ الأخيرة : (الدنيا برة... طاسة بيضاء)، نَنامُ ورؤوسنا مُنْدَسةٌ تحت الغِطاء ورُكَبُنَا عند بُطونِنَا .. نَنامُ وتبقى جُمْلة (طريق بيرين مغلقة بسبب تراكم الثلوج) عَالقةً في أذهانِنَا.
ما أنْ نستيقظَ في الصباح.. حتى نَفزعَ من فراشنا كالمذعورينَ.. نرتدي الجاكيتات و(جزمات القدم) التي تصل إلى مُنتصف السَّاق مع طاقيات الصوف للرأس، وصوت (فيروز) يَصدحُ بين فواصل تقارير التلفزيون الأردني وهي تُغنِّي: (تلج.. تلج.. عم بتشي الدنيا تلج..) وقبلَ أنْ تقول: (والنّجمات حيرانين.. وزهور الطرقات بردانين) نكونُ قد أصبحنا في الخارجِ على الطُرقات.
نركضُ إلى شوارع بيرين مع ابناء الجيران، نصولُ ونجولُ مع الحارات الأُخرى، نتعاركُ بالثلج..نعلنُ حَرباً.. ونَشنُّ هُجومَاً.. يَقعُ أسرى .. ويَسقطُ مُصابين.. كُل ذلك بالثلج..تبتلُ ملابسنا الداخلية والخارجية.. وتصطكُ أسناننا ونفقد الإحساس بِأصابِعنا وأطرافنا من شدة الإنجماد، رغمَ ذلك كُنّا فَرِحينَ.. كان فرحُنا أصفى من الثلج الذي ندوسُ عليهِ، وكانت الفَتياتُ يصنعنَ أشكالً ومُجَسّماتٍ بالثلج، أو يُدَحرِجنَ كرة ثلجٍ ضخمةٍ بمساعدة آبائهنَّ.
حينما تنتهي معاركنا نعودُ إلى البيوت قبل الظهيرة.. توبِّخُنا أُمَّهاتنا على ملابسنا المُبللة، لكنَّنا لا نُبالي بذلك، نعانقُ الصّوبات.. ونَلْتهِمُ الغَداء (طاسة الرُّشُوف مع الفَتَّة)، أو نتناولُ (البِشِيْلة) التي يُعِدُّهَا الآباءُ على الصّوبة.. كانت لذيدة ودافئة.. وتُعطينا طاقة حرارية وكأنَّنا تناولنا ٣٠ درجة مئوية دفعةً واحدة، نجلسُ بعدها حول التلفاز نتابعُ التَّغطية عن كل مناطق المملكة، نتحمسُ.. ثمَّ نتفقُ سِراً على جولة ثانية في المساء شَرِيْطَةَ أنْ يَعِدُنا الثلج بأنْ لايذوب.
ربما هذه الأيام.. لم تَعُدْ المنخفضات أصيلة مثل قبل، ولم يَعُدْ يهِمُّها مصلحة البلد.. وصار المنخفض الجوي يأتي لكي يرجع، وأصبحت الرياح المُثقلة بالخيرات تَهبُّ ولا تعود.. تماما مثل النصيحة في رأس شخص أخرق.. تدخل في أُذن وتخرج من الأُذن الأُخرى، حتى حَبّات الثلج صارت متواطئة مع قسوة الزمن.. وصارت تلك الحبّات باهتة.. وتموتُ بمجرد ولادتها، وأصبحَ المرءُ يتمنّى أنْ تتغيرَ الجُمْلة التي سئمناها من سنواتٍ_ وهي: (طريق بيرين سالكة ولا تراكم للثلوج).!!.
الاثنين ٢٠٢٣/٢/٦
عَشِيَّةَ مُنخفض جوي..
التعليقات