علي فرج .. طفل يحمل ذاكرة المجزرة بين كفَّيه

mainThumb
علي فرج... طفل يحمل ذاكرة المجزرة بين كفَّيه

28-04-2025 10:17 AM

printIcon

أخبار اليوم - يلوّح الطفل علي فرج (9 سنوات) بيديه، يستغيث بصمت، برجفة قلب من هول ما عاشه، ينادي أمه بملامح يغمرها الغبار وتنزف منها الدماء، بينما يتوسط أشلاء عائلته وركامًا متناثرًا. قُذف جميعهم بفعل شدة الانفجار إلى سطح منزل الجيران؛ يتمدد خلفه والده المسجى، وفي زاوية المشهد المؤلم انفصل جسد شقيقته إلى نصفين بفعل الانفجار، وتلطخت جدران السطح ببقايا دمائها.

كان هذا المشهد جزءًا من مجزرة دموية استُشهد خلالها نحو 16 فردًا من عائلتي شحتّو وفرج، جلّهم من الأطفال، إلى جانب عدد من المصابين، إثر استهداف شقة سكنية بعمارة الصديق في شارع اليرموك بمدينة غزة عند الساعة الثالثة من عصر الخميس الماضي. أحدث القصف انفجارين هائلين، هزا مناطق واسعة من المدينة، ووصلت شظايا الصواريخ إلى مسافات بعيدة عن العمارة المستهدفة.

قبل القصف، كان بيت الحاج محمود شحتّو، المُكنى "أبو حمزة" ــ وهو جد علي من جهة الأم ــ يعج بالحياة، يستضيف بناته النازحات مع أزواجهن وأطفالهن. كان الأطفال يلهون بلا إدراك لما هو قادم، فيما كان الجميع ينتظر الاجتماع على مائدة غداء أعدت ببقايا ما تملكه العائلة من مواد غذائية قليلة، محاولين اقتناص فسحة فرح بين واقع مرير. لم يدركوا أنهم يعيشون لحظاتهم الأخيرة.

في إحدى الخيام الطبية بمستشفى "الكويتي" بساحة السرايا وسط المدينة، كان الطفل علي ممددًا على السرير الطبي، تلف الجبيرة قدمه، وتغطي لاصقات طبية جروح جبينه. تنتشر الندوب على وجهه ويديه، وتظهر آثار عملية جراحية أجريت لإزالة شظايا من بطنه.

الناجي الوحيد

يتوجع الطفل من الألم ويتقلب، ينظر حوله إلى وجوه أعمامه وبعض الأقارب الملتفين حوله، بنظرات صامتة لا يتحدث فيها إلا حينما يشتد ألمه، وكأنه يبحث عن ملامح والده الشهيد فرج فرج، الذي كان بجانبه قبل المجزرة، يمسكان بهاتف واحد، ليتفرقا بعد الانفجار، ويجد الطفل نفسه محاطًا بجثة والده وأشلاء شقيقاته الشهداء الخمس: زينة (14 سنة)، لين (13 سنة)، رزان (11 سنة)، سعاد (6 سنوات)، وجوري (سنتان).

بمجرد وصول أمه المصابة الناجية من المجزرة، نهى شحتّو، التي فقدت أطفالها ووالديها وإخوتها وأطفالهم، وضعت يدها الحانية على وجه علي، فغفا بارتياح على يدها وأغلق عينيه، وكأنما وجد فيها ملاذه الأخير. كانت تهمس له والدموع تغالبها: "أنا جنبك.. تخافش، يا حبيبي".

تحكي نهى تفاصيل المجزرة لصحيفة "فلسطين"، بينما تجلس أمام طفلها: "في اللحظات الأخيرة، كان زوجي يشاهد اليوتيوب مع علي، بينما كانت بناتي يلعبن مع أولاد إخوتي بألعاب أطفال داخل الشقة. كان أبي وأخي حمزة ومحمد ابن عمي يجلسون في غرفة الضيوف يتحدثون ويضحكون بعدما أنهوا الصلاة. كنت أعد الغداء، وفجأة وأثناء سكب القهوة، حدث الانفجار".

تمردت دموعها على محاولاتها للتماسك، وهي تستجمع بقية التفاصيل: "اعتقدت في البداية أن اسطوانة غاز انفجرت بالمطبخ. ارتطم شيء برأسي فدفعته عني، ثم انهار الركام فوق جسدي، وعندها أدركت أن قصفًا قد وقع. شعرت أنني أستطيع النهوض وبدأت برفع الركام عني".

يتحشرج صوتها بالبكاء وهي تواصل: "نظرت حولي فلم أجد شيئًا.. لا جدران ولا أثاث ولا أشخاص. نزلت عبر الدرج ورأيت ابني علي يلوّح لي من سطح منزل الجيران، تبادلنا الإشارات وكأنه يستنجد بي. طلبت من ثلاثة شبان الذهاب لإسعافه، ونقلت بعدها إلى مستشفى الشفاء إثر إصابتي بحروق في يدي وظهري".

وهي تمسح على رأس طفلها الذي خرجت به من المجزرة لتواجه قسوة الحياة، تلسعها حرقة الفقد: "كان البيت مليئًا بالأطفال.. رحلت أمي الحنونة، ووالدي الغالي، وأختي توأم روحي ندى وأطفالها عصام وشهد وعبد، وأخي حمزة وأطفاله. استشهد زوجي فرج الذي تعلقت روحي به، وبناتي زينة، ولين، ورزان، وسعاد، وجوري. وهذه الطفلة جوري، ما ذنبها أن تُقتل وهي لم تتجاوز العامين؟".

الموت يلاحقهم

نزحت أم علي وزوجها وأطفالها إلى منزل عائلتها وسط مدينة غزة، هربًا من القصف الدامي الذي اجتاح حي الشجاعية، بعد أوامر إخلاء تبعها قصف عنيف وتوغل بري. غير أن الموت لاحقهم داخل المدينة، ففقدت أطفالها وعائلتها، ونجت وحيدة مع ابنها علي، ليصبح زهرة الأمل التي تتفتح وسط ركام الأحزان.

من زاوية أخرى للمشهد، كان عم الطفل، حمزة فرج، يسير مع شقيقه فرج قبل المجزرة بساعة واحدة، قبل أن يتفرق كل منهما في مكان نزوح مختلف.

يروي حمزة لصحيفة "فلسطين": "تلقينا اتصالًا من أحد الأقارب يخبرنا باستشهاد شقيقي وعائلته.. لم أصدق. هرعت إلى المستشفى، فوجدت بقايا أجسادهم في الساحة.. كانت فاجعة لا توصف".

داخل الخيمة الطبية، يلازم حمزة ابن أخيه علي، ويرعاه بحب وقلب يعتصره الألم، ويضيف: "مشهد رؤية أشلاء الأطفال كان مفجعًا. يمزق القلب، ويكشف قمة الإجرام الإسرائيلي بحق الأطفال والنساء. كنت أتأمل جثمان أخي وأتذكر آخر لحظاتنا معًا، حين تحدثنا عن معاناة النزوح والخوف والجوع. همست له: كيف تتركني وترحل هكذا؟".

أزال الأطباء الشظايا من جسد الطفل علي، واستقرت حالته الصحية، لكنه لا يزال تحت المتابعة الطبية الدقيقة.

يصف حمزة شقيقه الشهيد قائلًا: "كان حنونًا على أولاده وإخوته، دائم التواصل مع العائلة، لا يتوانى عن تقديم المساعدة لأي محتاج".

لم تكن يد علي الصغيرة التي رفعها للاستغاثة مجرد لحظة عابرة؛ بل كانت صرخة في وجه عالم صامت أمام حرب التهمت حتى الآن نحو 18 ألف طفل، تركوا للنزوح والتشرد والموت وحدهم.

نجا علي من المجزرة، لكنه لم ينجُ من الفقد، ولا من قسوة الحرب التي حصدت عائلته. يدا علي، اللتان ارتفعتا طلبًا للنجدة، تختصران وجع غزة بأكملها، صرخة طفل يحلم بأن تعود له عائلته.. ولكن لا عزاء سوى في العيون التي تبحث عبثًا عن وجوه من رحلوا إلى الأبد.

المصدر / فلسطين أون لاين