أمُّ صلاة الجنازة على أبنائه السِّتَّة وعاد لبيته وحيدًا

mainThumb
أمُّ صلاة الجنازة على أبنائه السِّتَّة وعاد لبيته وحيدًا

26-04-2025 11:03 AM

printIcon

أخبار اليوم - يقفُ الأبُ المكلوم أمام جثامين أبنائه الستة وهي مسجاة أمامه بأكفانٍ بيضاء ممددةً ومتراصة بعضها بجانب بعض بساحة المشفى، يقفُ أمام رحيلهم الجماعي صابرًا محتسبًا مكلومًا، يحمل ثقل الرحيل وحده بمرارته وقسوته وحزنه الدفين، بوجعه وانكساره وإن بدا ثابتًا، يؤم الحاج إبراهيم أبو مهادي (58 سنة) صلاة الجنازة يحاول التماسك أمام فاجعة رحيل "العزوة والسند" دفعة واحدة، وهو الذي كان قلبه يتفطر حزنا على جثمان أي شهيد.

لم يكن ينظر لأشلاء أبنائه داخل الأكفان بل لصورهم التي تحركت أمامه، لضحكاتهم ولصوت خطواتهم وهم يعودون من العمل، لأناقتهم في الصورة التذكارية الجماعية التي التقطتها معهم في عيد الفطر وقد اشتد عودهم وأصبحوا سندًا يتكئ عليهم توسطهم في تلك الصورة وبين صورة العيد والرحيل ملأ الفراغ حياته، ينظر لصوتهم القادم من الذاكرة، مشاهد ولادتهم، مشيهم، ركضهم في طفولتهم، ذهابهم للمدرسة وانتظاره لكل واحد فيهم حينما يعود، سهره معهم، طموحهم وأحلامهم، كلها رحلت الآن، في لحظة تمردت فيها دموعه على كل محاولاته للتماسك وأعلنت العصيان وهي تنهال من حواف عينيه.

صباح 13 إبريل/ نيسان 2025، وكالعادة تجمع الحاج المُكنى "أبو محمد" على مائدةِ فطور صباحي مع أبنائه قبل ذهابهم لعملهم الإغاثي في مطبخ لإعداد وجبات للنازحين بمحافظة خان يونس، ويعودون مع ساعات المساء لمنزلهم الواقع بمدينة دير البلح وسط القطاع وهذا حالهم منذ سنة، يكرسون كل وقتهم لأجل تخفيف ويلات الحرب، وانطلقوا إلى أعمالهم مع دعوات والده لهم.

بعد نصف ساعة من مغادرتهم وبدأت الساعة تطرق الثامنة صباحًا، كان الحاج يجلس على سريره عندما كسر صوت رنين هاتفه فضاء الغرفة وأنهى حالة السكون السائدة، وظهر له اسم خال أبنائه، فلفت اتصاله بهذا التوقيت مخاوف الحاج وزوجته وبعض بناته، الذين ذهب اعتقادهم بوجودِ أمر ما يخص الخال، لكن لم يكن الموضوع كذلك بعد بدء الحوار بينهما "الشباب بالبيت ولا طالعين!؟ - تسهلوا على شغلهم – طيب سمعت أخبار!؟ - لا".

لم يطل صمت الخال كثيرًا، تغلب على توتره، واستجمع قواه وهو يحاول نقل الخبر طالبًا من "أبو محمد" العوض من الله والثبات في هذه اللحظة القاسية "الشباب انقصفت سيارتهم واستشهدوا كلهم"، رغم التسليم بالقضاء، كانت قسوة تلك الكلمات أكبر من قدرة قلبه وقلب زوجته التي تاهت في صدمة على تحمله أو استيعابه، وهم يتجرعون صدمة الرحيل الجماعي دفعة واحدة، وعلى مرةٍ واحدة، بنفس الخبر والتوقيت واليوم، لم ينجُ أحد في تلك المجزرة.

ولد أبو مهادي الأب، سنة 1967 وتعود أصوله لبلدة "الجورة" وسكن في دير البلح وسط قطاع غزة، ونشأ وحيدًا بلا أخوة، وحتى الثانوية العامة كان يساعد والده في مهنة الصيد الذي بدوره لم يكن لديه سوى أخ، فانشغل بمساعدة عمه ووالده.

وأكمل تعليمه ودرس المحاسبة، وتنقل في العمل بالداخل المحتل وشركات محاسبة فلسطينية خاصة، وانتهت بتوظفه في ضريبة الدخل بوزارة المالية بعهد السلطة، وكرس حياته في تعليم أبنائه تخصصات مرموقة، وأنشأ لهم بيتًا مكونًا من ستة طوابق، ليعيش معهم في بيتٍ واحد، حتى أصغر أبنائه "عبد الله" كانت شقته جاهزة وبانتظاره مستقبل بين أحضان والده، لولا غدر الاحتلال بالعائلة.

وورّث الأب الطموح والإقبال على العلم لأبنائه، فدرس أكبر أبنائه محمد (36 سنة) الهندسة البحرية ومع عدم وجود ميناء بغزة، درس الرياضيات وهو متزوج وله ثلاثة أطفال (ذكران وبنت) سافروا مع أمهم في رحلة علاجية منذ عام وكان في غاية الشوق لهم، وأحمد (34 سنة) حاصل على دكتوراه بالهندسة المدنية بتركيا ومتزوج ولديه طفلان ذكران، فيما درس محمود (30 سنة) ماجستير محاسبة وهو متزوج ولديه طفلان (ذكران)، ودرس زكي (25 سنة) بكالوريوس محاسبة، ومصطفى (23 سنة) بكالوريوس هندسة حاسوب، فيما كان شقيهم الطفل عبد الله (13 سنة) يحلم أن يصبح طبيبًا، وإضافة للذكور لديه أربع بنات اثنتان منهن متزوجات.

رحيل جماعي

"يعمل أبنائي بتكية الطعام منذ عام، رافقهم شقيقهم الأصغر "عبد الله" وكان سعيدًا ويحب مساعدة أخوته، وهم يقومون بعمل إنساني إغاثي بتقديم وجبات طعام على خيام النازحين بخان يونس، يحاولون سد رمق الأهالي وتخفيف حدة الحرب والتجويع" يتكئ صوته على عكاكيز الصبر ويمتلئ قلبه بإيمان كبير وهو يعيد فتح جرحه الغائر، يروي عن آخر اللحظات لصحيفة "فلسطين".

كما أثارت قسوة الفاجعة لوداع أب جميع أبنائه في مشهد واحد العالم في تجسيد حقيقي لما تسببه الإبادة الجماعية من ويلات، أثارهم ثبات وإيمان "أبو محمد" في تلك اللحظة القاسية، هو نفسه لم يعرف سر تلك السكنية التي نزلت على قلبه وهو الذي دمعته ترقد على حواف عينيه: "في الأيام العادية عندما اسمع خبر استشهاد أحدهم فأبكي عليهم، وقبل استشهادهم كنت أبكي على حرق خيام النازحين بالمواصي، لكن الحمد لله في مشهد وداعهم أنزل الله السكنية علي، وختمت عهدي معهم بالصلاة عليهم كما كنت أؤمهم بصلاة الجماعة".

منذ استشهادهم، يملأ الفراغ العمارة، اختفت صوتهم وضحكاتهم، صوت خطواتهم وهم يعودون من العمل، جلستهم معًا صباح ومساء كل يومٍ، وكانت هذه الأوقات الفسحة الوحيدة لاجتماع العائلة في الحرب التي سرقت كل شيءٍ وأشغلت أبنائه في إغاثة الفقراء.

تلسعه حرقة القلب وهو يحكي عن قسوة الفراغ على حياته "تربيت وحيدًا، وزوجني والدي مبكرًا حتى يكون لدي أولاد، فكافحت كثيرًا، في حياتي وبنيتُ عمارة من ستة طوابق حتى نبقى عائلة واحدة مترابطة، حتى ابنائي المتزوجين يفطرون معي على مائدة واحدة، ويجلسون معي في المساء، ثم تجد نفسك لوحدك، كنت أضع طاولتين على المائدة والآن أجلس أمام طبق، لا يتركوني أفعل أو أحمل أشيء، حملوا عني المسؤولية والآن عدت لأحملها لوحدي".

لم يتوقع أبو مهادي أن يستهدف أبنائه لأجل عملهم الإنساني والإغاثي، يقف القهر على صدره قائلا: "لم يحدث على مدار التاريخ أن يقوم جيش باستهداف المدنيين بهذا الشكل. ابنائي حصلوا على شهادات مرموقة، ومع تعطل الأعمال في الحرب اتفقوا بإنشاء مشروع إطعام النازحين والفقراء وكان ممولا من مؤسسة بريطانية، والجميع يشهد لهم بالخير وكانوا حريصين أن يبقى الناس صامدين".

ويتساءل: "كيف يتم استهدافهم بهذه السهولة، وعقابهم على عملهم الإنسان!؟".

رفض أبناؤه فكرة اصطفاف طوابير النازحين والفقراء أمام أبواب تكية الطعام، فكانوا يذهبون بأنفسهم لإيصال الوجبات للفقراء، ويتشاركون بمساعدة عمال آخرين في إعداد الطعام، رافقهم والدهم مرتين ليتعرف على طبيعة عملهم، يقول وفي نبرة صوته فخر كبير: "كانوا يلفون السوق أربع مرات كي يشتروا سلعا بأقل الأسعار، حتى يستطيعوا تقديم وجبات لأكبر عدد من الناس، وكانت تصل بالعادة إلى خمسة أو تسعة آلاف وجبة".

منذ عام، وبشكل يومي يغادر الأخوة الستة الساعة السابعة صباحًا، وفي الأوقات التي كانت اللحوم تتوفر في الأسواق كانوا يخرجون الساعة الواحدة فجرًا، لطهي اللحوم حتى تكون جاهزة في الصباح ثم تجهز أواني الأرز الكبيرة وتقدم ساخنة للفقراء مع ساعات الظهر، يرى الناس تلك الوجبات المغلفة بينما كان الأب يرى حجم التعب لأبنائه في شراء اللحوم والخضار، وإمضاء ساعات في طهي الطعام على الحطب، لسلعتهم حرارة الشمس، "أكثر شيء كان يسعدهم رؤية ابتسامة الأطفال" يقوم أبو مهادي.


عن رمضان والعيد الأخير، تسكن حسرة الفقد ملامحه ونبرة صوته "عشنا حياة بسيطة كحال أهالي القطاع، بعد نصف رمضان كانت الأمور سيئة بخصوص الطعام بعد إغلاق المعابر، كنا نصلي التراويح ونجلس معًا. يوم العيد قبل أن نخرج لصلة الأرحام، طلب أبنائي التقاط صورة تذكارية، قالوا لي: "مش عارفين يمكن تكون آخر صورة"، وأفطرنا "الفسيخ" وجلسنا عند جدتهم، وأفطرنا وكانوا سعداء، وذهبنا في جولة العيد ورجعنا مساءً وبعد خمسة أيام عادوا لعملهم في التكايا الخيرية".

استشهد ابنه الأكبر محمد ولم ير أطفاله الثلاثة وزوجته الذين سافروا لمصر رحلة علاج طفل يعاني من مشكلة صحية، فأثناء ولادة الطفل وخلال نقله للحضانة حدث معه نقص بالأوكسجين أثر على المشي وسافر مع أمه وأخوته في شهر مارس/ آذار الماضي، "كان محمد في غاية الشوق لأطفاله وزوجته، طفله أحمد سافر عندما بدأ بالمناغاة، ومرت عليه أحد عشر شهرا صعبًا وهو ينتظر عودتهم، ورتب نفسه أن رحلة العلاج لن تستمر أكثر من ثلاثة أشهر، وقبل استشهاده قال لزوجته: "لا يوجد علي ديون" وأرسل لها قائمة بما له من ديون على الناس إزاء دروس خصوصية كان يعطيها للطلبة" يملأ الحزن قلب أبو مهادي.

أما نجله أحمد والذي درس الدكتواره في الهندسة المدنية وعاد لغزة في مارس/ آذار 2023، فتغمره تلك الفرحة التي عاشها حينها لكنها مليئة بمرارة الفقد: "يعلم الله وحده كم كنت فرحًا، لأن حلمي كان أن أدرس الدكتواره، فحقق ابني أحمد ما لم أحققه، فجاءتني منح دراسية للماجستير لكني رفضتها لأجل أبنائي، وكان محمود يسير بذات النهج".

في صوته نبرة فخر وكلمات رضا: "كانوا يتسابقون على البر بي، عرفوا كيف ضحيت لأجلهم، فكانوا يفضلونني عن أنفسهم، يحضرون أجمل الهدايا لي بمناسبة أو بدون مناسبة، لا يسمحون لي برفع أي شيء وتجد أيديهم ترفعه عنه، تجدهم بجانبي، فكانوا سندًا للعمر، حرمني إياه الاحتلال، وفي الحرب عندما قصف بيت جيراننا، وتضرر البيت وأصبت أنا وأمهم وأختهم، لا أنسى لهفتهم وخوفهم الذين رأيته علينا، يومها نسيت كل تعب السنوات الماضية".

كان الحاج ابو مهادي يعتبر طفله الصغير عبد الله "عكازه في الكبر" يتكئ عليه، "كان يحلم أن يصبح طبيبًا، وكنت أمازحه وأنا أنظر للمستقبل: بدك تعالجني مع أمك بمصاري ولا بدون كشفية!؟" ومن تلك الأحلام التي رسمها للمستقبل، يعيش حاضره المؤلم بنبرات قاسية تثقل حديثه: "توفي والدي وكان عمري 28 سنة، شقيت حياتي مع أمي بلا سند أو أهلي، فكان أبنائي عائلتي كلها، ولو أريد إخبار العالم عما أعيشه من فراغ أحتاج مجلدات حتى يصلهم حجم الألم والمعاناة، لكن الحمد لله على ما أعطى وما أخذ . الله اختارهم عنده.

فلسطين أون لاين