أخبار اليوم - في الرابع عشر من نيسان/ أبريل الجاري، وبينما كانت آلاء الهسي تأخذ قيلولة بسيطة بعد عناء يومٍ طويل في منزلهم المتواضع في جباليا البلد شمال قطاع غزة، تسلل أبناؤها الثلاثة، وسيم (9 أعوام)، ومهند (7 أعوام)، وخولة (4 أعوام)، وأعدّوا لها مفاجأة صغيرة لم تكن تعلم أنها ستكون وداعهم الأخير.
وبمصروفهم القليل الذي كانوا يجمعونه في علبة صغيرة، اشترى الأطفال بعض البسكويت والسكاكر والحلوى، ورتّبوا المنزل ببراءة وفرح، وحين استيقظت الأم، وجدتهم يستقبلونها بحفلة بسيطة مليئة بالحب والضحك، لم تفهم حينها أنها كانت حفلة وداع، وتركوا لها ورقة كتبوا فيها: "ماما، هاد هدية بسيطة، كل عام وإنتِ بألف خير، أحلى أم في العالم، من مهند ووسيم وخولة."
وتقول الأم المكلومة لـ "فلسطين أون لاين" والدموع تغمر عينيها: "كانت ضحكاتهم مختلفة، كأنهم كانوا يودّعوني بحب."
ولم يكتفِ الأطفال بذلك، ففي اليوم التالي، أصرّوا على إقامة حفلة صغيرة لوالدهم محمد الهسي، بمناسبة عيد ميلاده الأربعين.
وتضيف الأم: "كانوا فرحين جدًا، جلبوا له قطعة شوكولاتة صغيرة وبعض الحلويات، وأشعلوا شمعة، وغنّوا له أغنية عيد الميلاد، وكأنهم كانوا يشعرون أنهم لن يبقوا طويلًا."
وبالفعل، لم يكن والدهم يعلم أن هذا العيد سيكون الأخير، وأنه سيتحوّل من يوم ميلاد إلى ذكرى موت.
انفجار ضخم
وعند الساعة الثانية والنصف من فجر السادس عشر من أبريل الجاري، دوّى انفجار ضخم هزّ أرجاء البيت، فتساقط الركام والحجارة فوق رؤوس العائلة النائمة.
كان الأب، الذي ينام بجانب زوجته، قد استيقظ على لهب ونار تشتعل في قدميه دون أن يشعر بالألم، فقد كان قلبه مشغولًا بأولاده.
ويقول الهسي لـ"فلسطين أون لاين"، وكأنه يستحضر المشهد: "صرخت على آلاء.. آلاء!" محاولًا انتشال نفسه وزوجته من تحت الركام، ثم ركض، رغم إصاباته، يبحث وسط الظلام والدخان عن أبنائه الثلاثة الذين كانوا ينامون في ممر الشقة، ظنًّا منهم أنه المكان الأكثر أمانًا، بعد أن سقطت شظايا على غرفتهم في الأيام السابقة.
وسط صرخات الجيران ومحاولاتهم إزالة الأنقاض، كان "محمد" يهتف بأسماء أولاده، يرفع الحجارة بيديه المحترقتين، يبحث عن أي صوت، أي بقايا حياة.
ويضيف بحزن: "بعد ساعة من البحث وسط الظلام، تم العثور على جثتي وسيم وخولة، على بُعد أمتار من البيت، فقد ألقاهم القصف خارج الجدران. أما مهند، فكان لا يزال تحت الركام، وقد رُفع إصبعه الصغير إلى السماء، في مشهد هزّ قلبي."
ويمضي بالقول، وهو ممدّد على أريكة في بيت مؤقت، وساقاه ملفوفتان بالشاش بسبب الحروق: "أشعر أنهم ما زالوا بجانبي، أصواتهم تملأ رأسي.. خولة، وسيم، مهند.. لا أصدق أنهم ذهبوا وتركونا وحدنا."
وتصف زوجته آلاء، المصابة أيضًا بحروق في قدمها اليمنى، اللحظات الأخيرة لأولادها الثلاثة بعيون غارقة في الحزن، قائلة: "في الليلة الأخيرة، تناولوا عشاءهم المفضل "فلافل"، وكانوا يمازحون بعضهم ويضحكون، كأنهم يحتفلون بالحياة وبآخر لحظاتهم فيها."
وتقول بحزن: "كان وسيم يحلم بأن يصبح طبيبًا، وكان متفوقًا في دراسته رغم انقطاع المدارس بسبب القصف، ومهند كان يتمتع بشجاعة غير عادية، لا يخاف من صوت الطائرات، وكان يقول دائمًا: "ما تخافي يا ماما، إحنا رح نرفع راسك"، أما خولة الصغيرة، فكانت ناعمة كزهرة، تحب التقاط الصور دائمًا، وكأنها كانت تحفظ ذكرياتهم في ألبوم غير مكتمل."
وكانت الأم، وفق قولها، تُدرّس أبناءها حفظ القرآن الكريم في البيت، وتراجع لهم بعض الدروس التعليمية بعد أن تعطلت المدارس ودُمّرت بسبب الحرب.
وتلفت إلى أن زوجها، الذي يعمل في مهنة البلاط، وتوقّف عن العمل بسبب الحرب، كان يجاهد فقط لإطعام أطفاله، ويتنقّل بهم بين أحياء غزة بحثًا عن الأمان، وكان يرفض مغادرة شمال القطاع، لكنه في النهاية، لم يجد لهم ملاذًا من قصف لم يفرّق بين مدني أو طفل.
يقول الأب الحزين، بصوت مكسور: "ما الذنب الذي ارتكبه أطفالي؟! لماذا العالم صامت؟! لماذا لا يُحاسب هذا الاحتلال على المجازر التي يرتكبها بحق سكان القطاع، وخاصة الأطفال؟!"
وفي تلك الليلة، رحل الأطفال الثلاثة، تاركين لوالديهم حفلتين صغيرتين، وبعض الحلويات، ورسالة حب، وصورًا محفورة في القلب لا يمحوها الزمان.
وتختم آلاء حديثها، وهي تتأمل صورهم: "خولة كانت تحب الصور، الآن أعود لألبومها كل يوم، أراهم في كل ركن من البيت.. في الضحكة، في الألعاب، في ظلّ الذاكرة.. كأنهم لم يرحلوا."
فلسطين أون لاين