أخبار اليوم - في مركز إيواء غرب مدينة غزة، جلس عاصم صلاح، والد الطفلة تالا، يحدّق في السماء بصمتٍ طويل؛ لا يبحث عن طائرة جديدة في الأفق، بل عن ظلّ ابنته الصغيرة، التي غادرت إثر صاروخ من طائرة استطلاع إسرائيلية استهدفها بينما كانت تحاول جمع الحطب مع صديقاتها.
تالا، ذات الأحد عشر ربيعًا، كانت روح البيت، كما يقول والدها لصحيفة "فلسطين". "ربّيتها من حبات عيني، كانت الدينامو الذي يحرّك البيت رغم صغرها". لم تكن مجرد طفلة؛ كانت كتف أمّها، وسند إخوتها، وبهجة والدها. تقوم بأعمال تتجاوز سنها بكثير، وتحمل عبء حياة أنهكت الكبار.
في ظلّ حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال على غزة، لم تعد الطفولة هنا تشبه ما يعرفه العالم. لم تعد المدرسة وجهة يومية، ولا الدمى رفيقات اللعب. تالا، مثل آلاف الأطفال الغزيين، تحوّلت إلى ناقلة ماء، وباحثة عن الحطب، ومساعدة في كل تفاصيل البيت. كانت تصطفّ في طوابير التكيات، وتحمل جالونات الماء، وتنتظر ساعات لتجلب لعائلتها ما يسدّ الرمق. رغم كل هذا، كانت تحلم، وتحمل في قلبها أمنياتٍ أكبر من ركام الحرب.
كان حلمها أن تصبح طبيبة. أحبّت قريبًا لها يعمل في مستشفى كطبيب، وسمّت نفسها "الدكتورة سعيدة"، نسبةً إليه. كل من ناداها بهذا الاسم كان يُدخل فرحةً إلى قلبها، كأنها كانت تسبق الزمن لتحقّق حلمها، رغم أن الواقع كان يخذلها في كل لحظة.
لم تكن الحرب وحدها من سرقت من تالا طفولتها، بل سرقتها أيضًا النظرات التي كانت توزّعها على الوجوه في مستشفى كمال عدوان، حيث كانت تتردّد كثيرًا. كانت تتأمل الشهداء بعفوية بريئة، تسأل وتندهش وتُخزّن الصور في قلبها. قالت ذات يوم لوالدتها: "إذا استُشهدت، نفسي جسمي ما يتقطّع". لم تكن تعلم أن كلماتها تلك ستكون نبوءة مؤلمة.
قبل استشهادها بلحظات، صعدت تالا إلى سطح منزل عمتها المجاور للمدرسة التي باتت تؤوي عائلتها. وزّعت نظراتٍ طويلة على من حولها، من أقارب وجيران ورفاق الطفولة. كانت نظرات صامتة، لكنها امتلأت بكثير من الحنين. "كأنها كانت تودّعهم"، تقول أمها وهي تغالب الدموع، ثم ذهبت لجمع الحطب مع صديقاتها. "رايحة أجيب شوية خشب يا بابا"، قالت لوالدها وهي تغادر. لم تكن تعلم أن ذلك الخروج سيكون الأخير.
طائرة استطلاع إسرائيلية كانت تراقب المكان. لم يكن هناك مسلحون، ولا أهداف عسكرية. فقط طفلات يبحثن عن الحطب لطهو طعام يومي بالكاد يكفي العائلة. لكن الصاروخ لم يُفرّق. أصاب المكان، وتناثرت الشظايا. استُشهدت تالا، ومعها بعض صديقاتها. لكن جسدها، كما تمنت، بقي سليمًا. "مددناها وكأنها نائمة، كأنها تشتكي لله من ظلم المتجبرين"، قال والدها بصوت مختنق.
تالا لم تكن رقمًا جديدًا في إحصائيات الحرب؛ كانت عالمًا صغيرًا مليئًا بالحياة. كانت طفلة تحبّ إخوتها لحدّ الأمومة. كانت تدافع عنهم إذا عاقبهم والدهم، وتحتضنهم عندما يخافون من صوت القصف. كانت تحلم... وفي غزة، الأحلام تُقتل، لكنها لا تموت.
"كان نفسي ألبسها بلوزة الطبيب، وأشوفها تضحك بعد ما تحقق حلمها"، قال والدها. لكنه الآن يحتضن صورتها الصغيرة، ويتأمل ملامحها التي لم تتغير في استشهادها، كما لو أن الله استجاب دعاءها الأخير.
تالا لم ترَ العالم كما يراه الآخرون، لكنها كانت تعرفه جيدًا. كانت تفهم معنى الظلم، وتشعر بالقهر، وتحلم بالحرية. كانت تعرف أن طفولتها سُرقت، لكنها لم تتوقف عن الحب والعطاء.
واليوم، وقد غابت تالا، بقيت صورتها، وحكايتها، ووصيتها الصغيرة شاهدةً على جريمة لا تُغتفر.
فلتسمع الدنيا صوت والدها: "فليسمع العالم كيف تحوّلت أمنيات أطفال غزة؛ بدل أن يحلموا باللعب أو السفر، باتوا يتمنون ألّا يتقطّع جسدهم إذا استُشهدوا."
المصدر / فلسطين أون لاين