أسوأ وصفة، في هذه المرحلة بالذات، يمكن أن نصرفها لبلدنا ( أقصد من يتصدرون مشهد النقاش العام )، هي وصفة التصنيف أو التقسيم على أي أساس، ديني أو وطني أو ديموغرافي، ليس فقط لأن تجربة غيرنا مع هذه الوصفات قاتلة ومفزعة، وإنما لأن مثل هذه القابلية أصبحت، للأسف، واردة لدينا وموجودة، وخاصة بالمجالين السياسي والديني اللذين يفترض ألا يقع الفاعلون فيهما بهذا «الفخ»، باعتبارهم المعنيين بتحصين المجتمع، وضبط حركته، وضمان استقراره.
بصراحة أكثر، أخشى ما أخشاه أن تنتقل عدوى التكفير الديني لمجالنا السياسي، ( والعكس أيضا) فتتحول السياسة إلى فتوى، والفتوى إلى سياسة، ويتناوب الطرفان وأتباعهم، إصدار أحكامهم فيما بينهم على قاعدة «الوطنية» والدين، يدخلون في ملتهما من أرادوا، ويطردون منهما من شاؤوا، وكأنهم الناطقون الحصريون الموقعون باسم الوطن والدين، عندئذ أخشى ان نجد بلدنا، بهمة هؤلاء الأبطال (!) الذين يقدمون مصالحهم الضيقة على المصالح العليا للدولة والمجتمع، مقسوما لفسطاطين: أحدهما وطني او متدين كامل الدسم، والآخر مشكوك بوطنيته وملته الدينية حتى يثبت العكس.
مع بروز أحكام (اتهامات) التصنيف المتبادلة على قاعدة الدين والوطنية، سنكون أمام مفاصلة خطيرة تفرز من الدولة والمجتمع أسوأ ما فيهما، لأن التقسيم على مستوى النخب سيستدعي بالضرورة اصطفافات اجتماعية قائمة على الهوية والديموغرافيا والدين والمذهب، كما يستدعي اقحام مؤسساتنا الدينية والسياسية بهذه الاصطفافات، وسيطرح أسئلة عديدة، منها: من هو الوطني وغير الوطني، من هو مع الدين او ضد الدين، من هو المؤمن والكافر، وهذه أسئلة مزدحمة بالرمزيات الخطيرة، والأحداث التاريخية الملغومة.
لا أتحدث، فقط، عن بعض أعضاء الطبقة السياسية التي خلطت بين السياسي والديني، وإنما عن طبقات أخرى وظفت الوطنية والدين لأهداف سياسية، وقسمت الأردنيين وفق مقاييسها بين من هو مع الدولة ومن هو ضدها، من هو مع الجماعة المؤمنة ومن هو ضدها، وهذه الطبقات موجودة ببعض المؤسسات العامة، وفي أطر المعارضة بأشكالها المختلفة، وفي المجتمع ايضا، ومن المفارقات أن بعض معايير التوظيف وتوزيع الحظوات والغنائم والولاءات، تخضع، احيانا، لهذه المسطرة، وبسببها تولدت داخل مجتمعنا «خزانات» كبيرة من الإحساس بالمظلومية والقهر، افتقدنا بسببها قيما عزيزة تأسست عليها الدولة في علاقتها مع الأردنيين، كالعدالة والانتماء والأسرة الواحدة.
أعرف، تماما، أننا ما زلنا نعاني من قلق الهوية، ولم نفلح بإطلاق مشروع وطني قادر على استيعاب مشتركاتنا، وتأطير تنوعاتنا، والاستثمار بطاقاتنا، وأعرف،أيضا، أن ثمة من يحاول أن يعبث بنواميسنا الوطنية والدينية، بقصد أو بدون قصد، ومن يتاجر بقضايا الآخرين على حسابنا، ومن وصل به الاستقواء على الدولة إلى تصنيع السلاح ( يا خسارة)، لكن حان الوقت لكي نتوافق جميعا على وقف هذه التصنيفات والدعوات القاتلة، وعلى الاحتكام للقانون وتجريم إصدار الأحكام والاتهامات على قائمة الوطنية والدين، باختلاف مسمياتها، ومن اي طرف كان، فكما أن الوطن ملك للأردنيين الذين يؤمنون به بدون استثناء، فان الوطنية أيضا صفة لهم وسمة من سماتهم، وكما ان الدين شأن يتعلق بعلاقة الناس مع خالقهم، فهو شرف يعتزون به، ولا يقبلون أن يحاكمهم باسمه أحد.