أرواح تستنزفها الحرب .. مرضى الثِّلاسيميا في غزَّة تحت الحصار والنَّار

mainThumb
أرواح تستنزفها الحرب... مرضى الثِّلاسيميا في غزَّة تحت الحصار والنَّار

20-04-2025 12:14 PM

printIcon

أخبار اليوم - في أحد أركان مستشفى الحلو الدولي بمدينة غزة، يجلس محمد ياسين (30 عامًا) على كرسي حديدي، متصل بجهاز نقل دم، يقضي ساعتين كل أسبوعين على هذه الحال، وهو يُدخل إلى جسده المتعب وحدة دم أصبحت شحيحة مع استمرار الحصار الخانق والحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة.

"محمد" ليس وحده، بل هو واحد من مئات مرضى الثلاسيميا الذين يواجهون خطر الموت البطيء نتيجة غياب العلاج، وتدهور النظام الصحي، وانعدام الأدوية.



اكتُشفت إصابة "محمد" بمرض الثلاسيميا بعد ولادته بشهر، وهو مرض مزمن يتطلب تغذية سليمة، ونقل دم دوري، ورعاية صحية متواصلة، إلى جانب ضرورة الحفاظ على وضع نفسي مستقر. لكن منذ بدء الحرب الضروس على قطاع غزة، في 7 أكتوبر 2023، تبدلت أحوال المرضى رأسًا على عقب، فلم تعد وحدات الدم كافية، ولا الغذاء متوفرًا، ولا الأدوية موجودة، بينما تتهاوى المستشفيات واحدة تلو الأخرى تحت قصف الاحتلال.



رحلة الألم

يقول ياسين، الذي يعيل أربعة أطفال، لصحيفة "فلسطين": "قبل الحرب كنا نحصل على الطعام والأدوية، ونتلقى الرعاية الصحية المناسبة، أما الآن، فكل شيء اختفى، فوحدات الدم التي نحصل عليها شحيحة جدًا أو من متبرعين يعانون من سوء التغذية".

في إحدى المرات، اضطر والد "محمد" لنقله بعربة يدوية بعدما انهار جسده ووصلت نسبة الهيموغلوبين إلى مستوى خطير جدًا (5)، وبعد جهد مضنٍ، حصلوا على وحدة دم منتهية منذ 25 يومًا، لم تُفحص، بل جرى تركيبها على مسؤوليته الشخصية، في غياب الأجهزة الطبية اللازمة التي دمرها جيش الاحتلال خلال اجتياحه للقطاع، وانتهاكه حُرُمات المستشفيات.



ومع توقف مستشفى الشفاء عن العمل بعد اقتحامه وتدميره، اضطر "محمد" للانتقال إلى مستشفى كمال عدوان شمالي القطاع، ثم إلى مستشفى الحلو الدولي، الذي استحدث قسمًا خاصًا بمرضى الثلاسيميا، لكن هذه التنقلات كانت مرهقة، خاصة في ظل نقص الوقود وانعدام وسائل النقل.

مرضى الثلاسيميا في غزة، كحال "محمد"، لا يعانون فقط من فقر الدم، بل ظهرت عليهم أمراض جديدة نتيجة نقص الأدوية، وعدم توفر الطعام والماء الصحي. فمع تكرار نقل الدم، تتراكم كميات كبيرة من الحديد في الجسم، ما يؤدي إلى مضاعفات خطيرة على القلب، والكبد، والطحال، ناهيك عن تشكل الحصوات في الكلى وهشاشة العظام.

ويمضي ياسين، بحزن: "كنا نواجه مرضًا واحدًا، اليوم نواجه خمسة، وكلما طال الحصار ومنعت الأدوية، ازداد وضعنا سوءًا".

فمرضى الثلاسيميا بحاجة دائمة إلى أدوية لطرد الحديد، ومضادات حيوية، ومكملات غذائية، ومياه نظيفة لتقليل الأملاح في الجسم، لكن كل هذه الأشياء باتت مفقودة. حتى المياه المعدنية، يشتريها المرضى بأسعار مرتفعة رغم الظروف المعيشية القاسية، أملاً في تجنب حصوات الكلى.

ويقول ياسين: "في ظل هذه الظروف، تتراجع قدرة المرضى على الحركة، وتصبح الحياة اليومية تحديًا قاسيًا، وأحيانًا أبقى ساعات دون القدرة على الإحساس بمن حولي بسبب نقص الدم".

ويحلم ياسين، الحاصل على دبلوم في الخدمة الاجتماعية وبكالوريوس في علم النفس، بإكمال دراسته والحصول على الماجستير في الصحة النفسية، لكنه اليوم يعيش في منزل مدمَّر بحي الزيتون في مدينة غزة، تحاول عائلته ترميمه بما توفر من إمكانيات بسيطة ليأويها.

رحلة البحث

بينما تقول دعاء سليمان (32 عامًا)، وهي مصابة بالثلاسيميا منذ كانت في عمر ستة أشهر: إن الحرب حوّلت المرض المزمن إلى حالة طارئة يومية.

وتشير سليمان، لـ"فلسطين"، إلى أنها كانت تتلقى الرعاية الطبية في قسم مخصص لمرضى الثلاسيميا قبل الحرب، لكن كل شيء تغير مع تدمير المستشفيات وبنوك الدم، وغياب الأدوية، وباتت تعاني من الإرهاق الدائم، وتشنجات عضلية، وارتفاع شديد في نسبة الحديد بالجسم.



وتضيف سليمان، التي تسكن على أنقاض منزل عائلتها المدمر في حي الزيتون بمدينة غزة: "أحتاج إلى وحدة دم كل أسبوعين، وأدوية يومية لطرد الحديد"، مشيرة إلى أنها تحاول تأمين حاجاتها اليومية في بيئة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة.

وتلفت إلى أنه خلال الحرب على القطاع، تنقلت من غزة إلى المحافظة الوسطى فجنوب القطاع، في رحلة بحث شاقة عن علاج، بين أقسام طوارئ مكتظة بالمصابين، وطواقم طبية منهكة، وأجهزة غير متوفرة، لافتة إلى أنها كانت تضطر أحيانًا لقضاء يومٍ كامل من أجل الحصول على وحدة دم.

وتردف بحزن: "في أيام كثيرة، لم أتمكن من إيجاد وحدة دم، فاضطررت للبحث عن متبرع بنفسي"، مشيرة إلى أن ما كانت تتلقاه من علاج لا يتجاوز المسكنات والدم ناقص الجودة.

ومع إعلان وقف إطلاق النار في 16 يناير 2025، بوساطة قطرية ومصرية، وبرعاية من الولايات المتحدة، عادت "دعاء" إلى مدينة غزة، حيث تلقت بعض الرعاية في جزء مُرمم من مستشفى الشفاء، قبل أن تُنقل إلى مستشفى الحلو الدولي، بعد استحداث قسم للثلاسيميا.

لكن رغم ذلك، لا تزال سليمان تعاني: "أعيش على المسكنات، ولا أملك الأدوية الأساسية، والمرض ينهش جسدي يومًا بعد آخر".



مصير مجهول

ويبلغ عدد المصابين بمرض الثلاسيميا، بحسب وزارة الصحة في قطاع غزة، نحو 315 مريضًا من مختلف الأعمار، توفي منهم 30 مريضًا منذ بداية الحرب، بسبب نقص الدم والأدوية وعدم توفر الرعاية الصحية اللازمة، وهناك 20 مريضًا آخرين لا يُعرف مصيرهم حتى اللحظة.

ويؤكد أحد الأطباء المعالجين لحالات الثلاسيميا في غزة، لـ"فلسطين"، أن النقص الحاد في وحدات الدم، وغياب المتبرعين، وتدمير بنوك الدم على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي، فاقم من معاناة المرضى، مشيرًا إلى أن الأدوية الطاردة للحديد، والمكملات الغذائية، وأجهزة التحاليل، باتت شبه معدومة.

كما تعاني المستشفيات من نقص فلاتر الدم، وتعطل أجهزة التصوير الطبقي (CT)، وانعدام التحاليل الطبية المتخصصة، في وقتٍ تعمل فيه مستشفيات محدودة فقط، أبرزها مستشفى الحلو، ومستشفى الشفاء جزئيًا، والمستشفى الإندونيسي شمالي القطاع.

وفي ظل هذا الواقع الصعب، يعيش المرضى في انتظار الموت، أو في أحسن الأحوال، أيامًا إضافية من الألم المستمر، فيما يقف المجتمع الدولي عاجزًا عن وقف الكارثة، أو على الأقل، إدخال المساعدات الإنسانية والطبية اللازمة للمرضى.







فلسطين أون لاين