أخبار اليوم - في أحد مراكز الإيواء شمال مدينة غزة، يجلس خالد أبو عودة، وهو يشاهد أطفاله الخمسة يعانون التهابات جلدية وأعراض التهاب الكبد الوبائي.
يروي أبو عودة، بحزن كيف تحولت خيمتهم البسيطة، التي احتموا بها من القصف الإسرائيلي، إلى رماد بعد استهدافها بالصواريخ مطلع الشهر الجاري.
لم يجد أبو عودة، الذي كان يقطن في مدينة بيت حانون شمالي القطاع، بدًّا من النزوح القسري إلى مكان آخر في مدينة غزة، لكنه لم يكن يعلم أن ملاذه الجديد سيكون بيئة خصبة للأمراض.
يقول لصحيفة "فلسطين": "بعد أيام قليلة من وصولنا إلى مخيم الإيواء، بدأت أعراض المرض تظهر على أطفالي"، مشيرًا إلى أنهم أصيبوا بدايةً بالتهابات في الجهاز التنفسي، تلاها الإسهال، ثم الطفح الجلدي.
ويشير إلى أنه توجه إلى أقرب مركز صحي، حيث أبلغه الأطباء أن أطفاله أصيبوا بأمراض معدية نتيجة اختلاطهم بمصابين آخرين أو اللعب في تربة ملوثة.
مشيرا بيده إلى مجرى مياه ملوثة يمر بالقرب من المخيم، يقول: "المكان مليء بمياه الصرف الصحي، والعديد من الشوارع والمنازل تتسرب منها تلك المياه، والروائح لا تطاق".
ويؤكد أن قوات الاحتلال تعمدت، خلال اجتياحها للقطاع، تدمير البنية التحتية الأساسية، لا سيما شبكات المياه والصرف الصحي، وهو ما أسهم في خلق بيئة مثالية لانتشار الأوبئة، وجعل حياة المدنيين جحيمًا مستمرًا.
ويعاني أهالي غزة من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، نتيجة الحصار المشدد ومنع الاحتلال دخول الإمدادات الطبية للقطاع.
ويشير أبو عودة، إلى معاناة طويلة في سبيل الحصول على العلاج لأطفاله، قائلاً: "أبحث عن دواء بسيط كمن يبحث عن كنز ضائع، فمعظم العيادات تفتقر إلى الأدوية الأساسية، والمستشفيات مدمرة أو مكتظة بالكامل".
وحذرت منظمة الصحة العالمية، في بيان سابق، من أن النزوح الجماعي في غزة، يشكل خطرًا كبيرًا على الصحة العامة.
وذكرت المنظمة، أن الاكتظاظ في أماكن الإيواء، ونقص المياه النظيفة، وسوء خدمات الصرف الصحي، كلها عوامل تؤدي إلى تفشي الأمراض المعدية.
في السياق ذاته، حذر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا)، من أن نحو 1.7 مليون نازح يواجهون خطر انتشار الأمراض في ظل الأوضاع المتدهورة، مشيرًا إلى أن أكثر من 80% من أهالي القطاع أجبروا على النزوح من منازلهم.
عدوى حادة
وفي حي النصر بمدينة غزة، تحاول سارة أحمد، أم لولد واحد، مراقبته على مدار الساعة داخل مخيم الإيواء.
وتخشى سارة، أن يصاب ابنها "محمد" بأي مرض معدٍ، خاصة بعد أن أصيب مؤخرًا بعدوى حادة في الجهاز التنفسي، حيث بدأ يعاني من حمى وسعال شديد، مضيفة: "أخذته إلى العيادة فأخبرني الطبيب أنه التقط العدوى من أطفال آخرين مصابين في المخيم".
وتتابع لصحيفة "فلسطين" بحسرة: "الدواء نادر، والعيادات شبه مشلولة، أخاف أن تتدهور حالته ولا أجد له علاجًا".
تعيش الأم مع هذا القلق يوميًا، وسط بيئة غير صحية ومخاوف من تفشي أمراض أكثر خطورة، في ظل تكدس مئات النازحين في مخيمات الإيواء المؤقتة.
أما أم مجدي أبو عميرة، وهي أم لأربعة أطفال، فتقول: إن أطفالها أصيبوا سابقاً بالتهاب الكبد الوبائي، وأمراض تنفسية أثناء نزوحهم إلى جنوب القطاع، لكنها تمكنت من توفير العلاج واللقاحات اللازمة لهم بعد جهود كبيرة.
وتؤكد لصحيفة "فلسطين" أهمية توفير الحماية والرعاية الصحية للأطفال، معتبرة أن "الوقاية باتت مستحيلة في ظل تلوث الهواء والماء والتربة والنزوح المستمر لسكان القطاع".
ومنذ بدء الاحتلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يعاني الغزيين من دمار هائل طال المرافق الصحية والتعليمية وشبكات البنية التحتية.
وقد أدى تدمير محطات وشبكات المياه والصرف الصحي إلى تفشي الأمراض المعدية بشكل غير مسبوق، ما يشكل تهديدًا خطيرًا على الصحة العامة.
ويطالب الغزيون، إلى جانب المنظمات الإنسانية، بالتحرك الدولي العاجل للضغط على الاحتلال الإسرائيلي من أجل السماح بإدخال الأدوية والمستلزمات الطبية، ووقف العدوان المستمر، وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، خاصة المرافق الصحية التي تعد شريان الحياة للمدنيين.
وبالعودة إلى أبو عودة، فقد ناشد كل أحرار العالم الوقوف إلى جانب أهالي القطاع، قائلاً: "نحن نموت ببطء، ليس فقط من القصف، بل من الأمراض التي تفتك بنا في صمت، نريد فقط أن يعيش أطفالنا بسلام، أن يكون لديهم دواء وماء نظيف، وسقف يأويهم دون خوف".
وضع صحي مأساوي
وبين ركام البيوت المدمرة، وتحت أغطية الخيام المهترئة، يعيش مئات آلاف النازحين في قطاع غزة وضعًا صحيًا مأساويًا، لا يهدد راحتهم فقط، بل حياتهم بالكامل. فمع دخول حرب الإبادة المستمرة منذ أشهر مراحل أكثر دموية وقسوة، ومع الحصار الإسرائيلي المشدد، بدأت الأوبئة والأمراض المعدية بالانتشار في صفوف السكان على نحو متسارع، خاصة بين الأطفال وكبار السن.
وبحسب دائرة الطب الوقائي في وزارة الصحة بغزة، فإن قطاع غزة يشهد تدهورًا صحيًا غير مسبوق، نتيجة التكدس السكاني الهائل في مراكز الإيواء، وغياب أدوات النظافة العامة، وشح المياه، وسوء التغذية، وطفح مياه الصرف الصحي، إضافة إلى إشعال النار لطهي الطعام في ظل انقطاع الوقود.
هذه الظروف مجتمعة، أدت إلى تفشي واسع للأمراض المعدية، وعلى رأسها الأمراض الجلدية، والتهابات الجهاز التنفسي، والقمل، والتهابات العيون، والنزلات المعوية، وحتى الكبد الوبائي.
ووفقًا لإحصائيات صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي، فإن أكثر من 2,136,026 شخصًا – ما يعادل نحو 89% من سكان غزة – أُصيبوا بأمراض معدية خلال أشهر الحرب، في حين سُجلت أكثر من 71 ألف إصابة بالكبد الوبائي وحده.
محمد الخطيب، (36 عامًا)، نازح في أحد مراكز الإيواء غرب مدينة غزة، بعد أن دُمّر منزله بالكامل بفعل القصف الإسرائيلي، يصف الوضع الصحي لعائلته بأنه "كارثي".
يقول الخطيب لصحيفة "فلسطين": "خلال أشهر الحرب، لم يبقَ أحد من أفراد أسرتي إلا وأصيب بمرض جلدي أو مرض تنفسي. الوضع في مراكز الإيواء مأساوي. حاولت عزل أطفالي عن بقية النازحين، لكن لا جدوى. الأمراض تنتقل بسرعة رهيبة، ولا أحد يملك الوسائل الكافية للوقاية".
ويتابع: "حين اشتدت أعراض المرض على زوجتي وطفلي، لم أجد أي دواء مجدٍ. المراكز الطبية تفتقر إلى الأدوية الأساسية، وإن وُجدت، فهي لا تكفي لأعداد المصابين. نحن نعيش بلا حماية ولا علاج".
ظروف بيئية متدهورة
علي أبو عودة، (42 عامًا)، يعيش في خيمة أقامها مع أسرته في حي النصر بغزة، يواجه ذات المصير، وسط ظروف بيئية وصحية متدهورة.
يقول أبو عودة لصحيفة "فلسطين": "الأمراض تفشت في المنطقة بسبب طفح المجاري وانتشار النفايات. الشوارع أصبحت مستنقعات، والروائح الكريهة لا تطاق. ما أن يشفى أحد أفراد الأسرة من مرض جلدي، حتى يصاب بمرض في الجهاز التنفسي. لا توجد أي وسيلة للوقاية، فمواد التنظيف والمعقمات مفقودة، وإن وُجدت، أسعارها خيالية".
ويضيف: "الأطفال أكثر من يدفع الثمن. نحن لا نملك إلا الدعاء، والأطباء أنفسهم عاجزون في ظل هذا الحصار".
عاصم صلاح، (40 عامًا)، نازح من حي تل الهوى ويقيم حاليًا غرب غزة، يعاني من مشاكل تنفسية متواصلة منذ بدء الحرب.
يقول صلاح: "منذ بداية الحرب لم يشفَ صدري بالكامل. كل يوم أتنفس دخان النار التي نُشعلها للطبخ والخبز، لأن الغاز مقطوع تمامًا. لا توجد أي حلول بديلة، وهذا الدخان سبب لي سعالًا مزمنًا وضيقًا في التنفس".
ويضيف بحزن: "حتى إن وُجد علاج في المستشفيات أو العيادات، فإنه لا يجدي نفعًا، لأن السبب الرئيس للمرض لا يزال موجودًا معنا ليلًا ونهارًا. لا كهرباء، لا وقود، لا مياه نظيفة... فقط الدخان والعدوى".
ويختم قائلاً: "أمنيتي الوحيدة أن تنتهي الحرب، وأن تفتح المعابر، ويعود لنا حقنا في الحياة الكريمة".
تؤكد وزارة الصحة في غزة أن النظام الصحي في القطاع بات عاجزًا عن تقديم الرعاية اللازمة في ظل قلة عدد المستشفيات العاملة، ونفاد الأدوية، وتوقف العديد من المراكز الصحية بسبب القصف المباشر ونقص الوقود.
الطبيب مجدي وهبة، مسؤول الطب الوقائي، صرح أن الإصابات بالأمراض المعدية ارتفعت بنسبة 70% مقارنة بما قبل الحرب، محذرًا من كارثة صحية حقيقية في حال استمرار الوضع الراهن.
وأشار إلى أن النزلات المعوية والأمراض الجلدية تملأ المراكز الصحية، إلا أن الإمكانيات لا تسمح بتشخيص دقيق أو علاج فعّال، ما يضاعف من معاناة المرضى ويهدد حياتهم، خاصة في حالات نقص المناعة.
في ضوء هذه المعطيات، تطالب وزارة الصحة والمؤسسات الحقوقية بسرعة التدخل الدولي لوقف الكارثة الإنسانية والصحية المتفاقمة في غزة، عبر فتح المعابر بشكل عاجل، وتوفير المساعدات الطبية والإنسانية، والعمل على إنهاء الحصار الذي أنهك أهالي القطاع.
فما يعيشه الغزيون اليوم ليس فقط حربًا بالقنابل، بل أيضًا حرب بالمرض والجوع والخذلان، وسط صمت العالم الذي يراقب معاناة شعب يُحاصر حتى في علاجه وتنفسه.
المصدر / فلسطين أون لاين