صرخة أولى في العراء .. الرُّضَّع ضحايا للنُّزوح القسريِّ أيضًا !

mainThumb
صرخة أولى في العراء... الرُّضَّع ضحايا للنُّزوح القسريِّ أيضًا !

19-04-2025 11:01 AM

printIcon

أخبار اليوم - في خيمة النزوح القسري أبصرت النور، لكنها لم ترَ سوى ظلام العيش وظلم الحرب، أطلقت صرختها الأولى في الدنيا كأنها نداء استغاثة من برد ينهشها وجوع يأكلها وحشرات تقرصها وفئران تلاحقها. "نصيبها أن تولد في الخيمة... هنا كما ترون الحياة الآدمية منعدمة"، والدة ميار معروف (ستة أشهر) يغلبها القهر دون أن تعرف كيف تنقذ رضيعتها من حياة تشبه أي شيء إلا الحياة.

تجسد آمنة، والدة ميار، بعباراتها حال الأمهات النازحات قسرا، اللواتي لا يجدن سبيلا لتوفير مقومات حياة أو مستلزمات أطفالهن الرضع الذين ولدوا في خضم حرب إبادة جماعية لا ترحم كبيرا ولا صغيرا. وسط مدينة غزة، تقيم عائلة ميار، خيمة يدوية قائمة على بعض الأعمدة الخشبية وقطعة جلدية مهترئة لا تحجب عنها وعن أسرتها شمس الصيف ولا مطر الشتاء، في واحدة من محطات نزوحها القسري الممتدة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. فيما يشبه الخيمة، يلطم الذباب وجه الرضيعة ميار، حيث ينتشر بكثافة في ذلك المكان الذي تنعدم فيه مقومات النظافة نظرا لطبيعة العيش في العراء، وانعكاسات الحصار الذي يمنع وصول مستلزمات الحياة المختلفة للمواطنين النازحين المنهكين.

تعود بداية قصة آمنة إلى بداية حرب الإبادة عندما كثف الاحتلال الإسرائيلي استهداف المدنيين والبنى التحتية، حيث وجدت نفسها مجبرة أول مرة على النزوح القسري من بيتها في بيت لاهيا إلى أحد مراكز الإيواء، ومع قصف محيطه، نزحت ثانية إلى النصيرات. وآمنة أم لخمسة أطفال أكبرهم يبلغ 13 عاما، عاشت معهم محطات النزوح القسري المأساوية قبل أن تنضم إليهم ميار وتخوض معهم تفاصيل حرب الإبادة.

تحاول آمنة دفع الذباب عن طفلتها الرضيعة دون جدوى، قائلة لصحيفة "فلسطين": نعيش في الخيام على مدار 18 شهرا، وقد تنقلنا قسرا بين بيت لاهيا والنصيرات ورفح ودير البلح وشمال غزة. ويبدو لآمنة أن حياة الخيام برفقة أطفالها ومنهم الرضيعة ميار ستمتد لفترة أخرى، حيث قصف الاحتلال منزلها، كما أنه لا يزال يستهدف المواطنين خصوصا في بيت حانون وبيت لاهيا حيث كانت تقطن.

وأدى حرمان الأطفال من السكن -بعدما دمر جيش الاحتلال معظم منازل القطاع بنسبة بلغت 88% من البنى التحتية، ومنعه لاحقا إدخال خيام النزوح والبيوت المتنقلة "الكرفانات"- إلى استشهاد 17 طفلا جراء البرد القارس داخل الخيام المهترئة، بحسب معطيات صحية. غياب الملبس والحليب قبل ستة أشهر، عندما وضعت آمنة طفلتها ميار لم تجد ما تكسيها به من ملابس، وكان ذلك بداية فقط لتفاصيل موجعة أخرى في حياتها التي تتلمس بدايتها.

ولا تزال تعاني ميار من شح الملابس، حيث لا يتوفر لديها سوى ما جاد به بعض "أهل الخير". تمتد المعاناة أيضا للحليب الصناعي، فالطفلة تحتاج إليه مع شح الحليب الطبيعي من أمها نظرا لحالة المجاعة التي تضرب قطاع غزة، مع استئناف الاحتلال الإسرائيلي إغلاق المعابر منذ الثاني من مارس/آذار، قبل أن يستأنف كذلك العدوان العسكري فجر الـ18 من الشهر نفسه.

لكن الأم تواجه المصاعب في الحصول على الحليب الصناعي، الذي ارتفع ثمنه وقل توفره، ولا تجد أمام ذلك حيلة سوى اللجوء إلى ما قد تجده من حليب وكالة الغوث الذي لا يناسب سن رضيعتها. بنبرة متحشرجة تخنقها دموع تبرق في عينيها، تقول آمنة إن ميار تحتاج أيضا مع بلوغها ستة أشهر إلى إدخال الطعام تدريجيا إلى نظامها الغذائي، لكنها تضيف: "احنا مش لاقيين ناكل عشان نطعمي الصغار". في ظل حالة المجاعة، تعتاش آمنة وأسرتها على ما يتوفر أحيانا من طعام التكيات التي قل نشاطها أيضا بسبب الحصار والاستهداف، ويصول أطفالها ويجولون بحثا عن شيء من أرز لا يسد رمق الحياة. وبحسب وزارة الصحة في غزة، فإن 52 حالة وفاة بين الأطفال سجلت خلال حرب الإبادة بسبب سوء التغذية. ووفق المكتب الإعلامي الحكومي بغزة -عبر بيان في 23 مارس/آذار- فإن ثلاثة آلاف و500 طفل معرضون للموت بسبب سوء التغذية ونقص الغذاء والجوع. وتفيد تقارير حكومية بأن الأطفال والنساء يشكلون ما يزيد على 60% من إجمالي ضحايا الإبادة الجماعية المتواصلة في غزة. صحيا، تبدو الرضيعة ميار في حال صعبة مع توفر كل أسباب المرض، لا سيما الجلدي الذي "زارها" في أسبوعها الأول واستمر شهرا. وتلاحظ الأم أن مناعة طفلتها تقل في مواجهة الظروف البيئية والغذائية والمعيشية القاهرة، دون أفق لنهايتها. وما ينكأ جراح آمنة هو -كما تقول- عدم حصولها على المساعدات الإنسانية من المؤسسات الدولية، لتجد نفسها وحيدة في مواجهة التحديات.

"حياة.. بلا حياة" فيما كان أرضا لملعب اليرموك وسط غزة وتحول إلى مخيم مأساوي للنازحين قسرا، حكاية وجع أخرى للطفلة الرضيعة سما سالم (عام واحد) التي تعيش مع أسرتها النازحة في خيمة بالية بسبب قصف منزلها. انشغل والدها الثلاثيني أمجد وهو أب لأربع طفلات آخرهن سما، بتعبئة ما يمكن من المياه الشحيحة، لاسيما بعد توقف خط ميكروت ومماطلة الاحتلال الإسرائيلي في السماح لطواقم بلدية غزة بإصلاحه.

كمن ظفر بجائزة، عاد سالم بدلوين من المياه إلى خيمته التي تفتقر لمقومات الحياة، لكنه كان مع انحنائة ظهره سعيدا بأن طفلته الرضيعة ستجد ماء تستحم به. كان سالم يقطن في منزل والده بشارع الوحدة، وأجبره الاحتلال على النزوح القسري، قبل أن يقصف البيت ليجد الرجل نفسه مشردا في العراء.

بعد أن التقط أنفاسه، احتضن طفلته سما كأنما يستمد منها ترياق الحياة، قائلا لصحيفة "فلسطين": إنه تمنى أن تنتهي حرب الإبادة الجماعية لتتوفر لرضيعته ظروف معيشية مناسبة، لكنها الآن تئن تحت وطأة تداعيات العدوان. يستذكر سالم، كيف عاشت سما أيامها الأولى في رفح بمحاذاة الحدود مع مصر، في ظروف قاسية، بعد ولادة مستعصية أيضا. منذ إبصارها النور، لم يتوفر لسما حتى فراش تنام عليه، وكانت ضحية للبرد القارس والجوع أيضا وشح الحفاضات وارتفاع ثمنها. وكما هو حال والدة ميار، كافح سالم ولا يزال لتوفير الحليب الصناعي لرضيعته التي لا تشبع من حليب أمها المنهكة بدورها من انعدام الغذاء.

ولا تكاد الطفلة تنام حتى يوقظها الجوع. يمسح سالم على رأس سما، قائلا: لا تميز المجاعة بين كبير وصغير، فسما التي تحتاج إلى غذاء خاص من الفواكه والخضار وغيرها، تعتمد الآن على ما يأكله الكبار مما يتوفر من رز التكيات الخيرية. ويخشى الأب على تأثيرات المجاعة على طفلته التي يفترض أنها بدأت المشي، لكنها لم تخط خطوتها الأولى بعد.

وفي الخيمة، حيث يضطر الأب إلى إشعال النار بدلا من الغاز المقطوع، تستنشق سما الدخان ليهدد ذلك سلامة جهازها التنفسي. ووسط ظروف مشابهة لتلك التي تعيشها الرضيعة ميار، تعاني سما أيضا من الحشرات والقوارض. ويبدي سالم سخطه على المؤسسات الدولية التي لا تقدم له حتى الحد الأدنى من المساعدات: "لا يوفرون حتى الحليب والسيريلاك والكسوة... هم أصلا مهما قدموا لنا لن يعوضونا عما فقدناه".

وقبل حرب الإبادة، كان سالم يعمل مجال التنجيد براتب قدره 2800 شيقل شهريا، لكن الآن "لا أحصل حتى على 10 شيقل"، كما يقول. وعلى مدار الحرب المستمرة، لاحقت الإبادة الأطفال بمختلف مراحلهم العمرية، بدءا بالأجنة في أرحام أمهاتهم، مرورا بالخدج بعمر أقل من تسعة أشهر داخل الحضانات، وقتلت (إسرائيل) في غزة نحو 17 ألفا و954 طفلا بحسب بيان الجهاز المركزي للإحصاء في بيان، عشية يوم الطفل الفلسطيني في الخامس من أبريل/نيسان. وفي واقع مأساوي، لا تنتظر ميار وسما وغيرها من الرضع كلمات الشفقة، بل أفعالا توقف الموت البطيء، "فهل يستيقظ ضمير العالم قبل أن تُطفأ أنفاس الطفولة في خيام العراء؟" يتساءل الآباء والأمهات النازحون.

 

 

 فلسطين أون لاين



news image