أخبار اليوم - في مساءٍ ثقيل برائحة البارود وصوت الانفجارات، غادر محمد المصري منزله في حي جورة اللوت جنوب مدينة خان يونس، لا يحمل سوى كيس صغير يحتوي على بعض الأدوية الضرورية، وبضع أرغفة من الخبز كانت قد أعدّتها زوجته على عجل، بعد أن أصدر جيش الاحتلال الإسرائيلي أوامر إخلاء عاجلة لسكان الحي. لم يجد المصري وأفراد عائلته أي خيار سوى السير على الأقدام من حي جورة اللوت إلى منطقة المواصي الواقعة غرب المدينة، بعد أن تعذّر وجود أي وسيلة نقل يمكن أن تقلّهم إلى المنطقة التي زعم الاحتلال أنها "آمنة". أمسك أطفال المصري، أبناؤه الستة، بأيدي بعضهم البعض خلال تحرّكهم من منزلهم، والخوف يسيطر عليهم، وساروا تحت صوت القصف.
خلال رحلة النزوح الشاقة، عبرت العائلة شوارع مدينة خان يونس المدمّرة، حيث لم تهدأ أصوات قذائف المدفعية ولا طلقات الرصاص، وكل خطوة كانت مغامرة محفوفة بالخطر، والرصاص قد يسقط في أي لحظة، فآلة الحرب الإسرائيلية لم تكن تفرّق بين مدني وطفل وشيخ. حملت العائلة معهم الحد الأدنى من ضروريات الحياة، كَبعض الملابس، وعدد من الأغطية الخفيفة، ولم يكن لديهم مكان يلجؤون إليه، ولا خيمة تنتظرهم، فأمضوا ليلتهم الأولى على رمال شاطئ البحر في المواصي، حيث لا سقف يحميهم من برد الليل، ولا جدران تمنحهم بعض الخصوصية أو الأمان.
مع حلول الظلام، بدأ البرد يتسلل إلى أجسادهم المنهكة، فلفّ محمد عباءته حول أطفاله محاولًا تدفئتهم، بينما احتضنتهم والدتهم بقلبها المرتجف، ولم تكن هناك نار تُشعل، ولا طعام يُطهى. ولم يتوقّف أطفال المصري عن السؤال: "متى نعود إلى بيتنا؟ ومتى ينتهي هذا الكابوس؟"، ولم يجد الأب إجابة، لأنه لا يعرف إلى متى سيستمر هذا النزوح، ولا ما إذا كان هناك بيت سيعودون إليه أصلًا.
وكل ما كان يتمناه في تلك اللحظة هو أن تشرق شمس الصباح، علّهم يجدون بعض الدفء منها. في اليوم التالي، ومع أول خيوط الفجر، استيقظ الأطفال مبكرين يبحثون عن قطع حطب متناثرة على الشاطئ، ليشعلوا بها النار ويعدّوا شيئًا يسدّ رمقهم، وكان والدهم محمد يترقّب عودة أحد أبنائه الكبار، الذي ذهب سيرًا على الأقدام إلى نقطة توزيع المياه الصالحة للشرب، التي تبعد قرابة كيلومترين. يقول محمد المصري لصحيفة "فلسطين" بصوت مليء بالمرارة: "أصعب ما في هذه الحرب هو لحظة النزوح؛ أن تُجبر على مغادرة بيتك تحت القصف، وأنت لا تعلم هل ستعود إليه أم لا، ولا تعرف ما الذي ينتظرك، وهل ستجد خيمة؟ من سيساعدك؟ كيف ستوفّر الطعام والماء والحمام؟ الأمر كلّه مؤلم ومحبط للغاية".
ويضيف: "الاحتلال أنذر حينا بالإخلاء، ولم أستطع أن أبقى ليلة واحدة إضافية، فقد شعرت أن البقاء هناك يعني حكمًا بالإعدام، فقرّرت الهروب بأطفالي قبل أن يُقصف بيتنا ونحن داخله". ويُشار إلى أن الأمم المتحدة بيّنت أن أحدث التقديرات أظهرت نزوح 1.9 مليون شخص في غزة مرات عدة، مضيفة أن جميع السكان تقريبًا باتوا بحاجة إلى المساعدة، منوّهة إلى أن الحرب في غزة تستمر في خلق مزيد من الألم والمعاناة .
فلسطين أون لاين