يونس الكفرعيني
حين تلوّح الريح بعلم الأردن في السادس عشر من نيسان، لا ترفرف قطعة قماش فحسب، بل تنهض الذاكرة الوطنية من عمقها، وتتنفس القلوب فرح الانتماء، وتعلو الهامات احترامًا لرمز الدولة، وراية المجد، وعنوان السيادة.
يصادف اليوم "يوم العلم الأردني"، اليوم الذي تتوحّد فيه القلوب والعقول والأرواح تحت لواء واحد، يوم يعلو فيه اللون الأحمر على الأخضر والأسود والأبيض، ليلتقي عند نجمة السباعية، في رمزية عميقة لما يعنيه الوطن في وجدان الأردنيين.
وفي المقابل، لم يكن بالأمس يوماً عادياً في ذاكرة الأمن الوطني، إذ أعلنت دائرة المخابرات العامة عن إحباط مخطط إرهابي كان يستهدف أمن المملكة واستقرارها، مخططاً لم يكن عابثًا أو عشوائيًا، بل منظّمًا، متفرعًا، معدًّا بعناية، يستهدف الأردن بمؤسساته، وشعبه، ووحدته الوطنية. لكن، كما في كل مرة، وقف رجال الظل بثبات، وأجهضوا الحلم الأسود في مهده، ليثبتوا مجددًا أن الأردن عصيٌّ على السقوط، قوي برجاله، محصّن بأمنه، متّحد بشعبه.
من المؤثر أن يأتي هذا الكشف الأمني العظيم، في اليوم السابق ليوم العلم، وكأن التاريخ شاء أن يُهدي الأردن قصتين في لحظة واحدة: قصة الفخر برمز الدولة، وقصة الفخر بمن يدافع عنها.
في هذا الوطن، لا يحتفل الأردنيون بالعلم لأنه واجب بروتوكولي، أو تقليد سنوي مكرور. بل لأنه اختصار لرحلة شعب، وتاريخ دولة، ومسيرة كفاح. كيف لا، وهو الذي خُيّط من تضحيات الشهداء، ورفعته أيادي الجنود، وغطّى جراح الوطن في لحظات الانكسار قبل الانتصار؟
العلم ليس لونًا سياسيًا في الأردن، بل التقاء لثورة العرب الكبرى التي حلمت بوحدة الأمة، وامتداد لرسالة الملك المؤسس الذي وحّد الإمارة وأعلن المملكة، وإرث لمن أتى بعده من ملوك كرسوا وقتهم وجهدهم لصون استقلال البلد وترسيخ مؤسساته.
وفي المقابل، فإن ما كشفته المخابرات الأردنية بالأمس، يعيد طرح سؤال كبير: من الذي يسعى للنيل من الأردن؟ ولماذا؟
إن المخطط الإرهابي الذي تم الكشف عنه، لم يكن لعبة صبيانية، بل عمل خطير يتضمن تصنيع صواريخ محلية، وتجميع مواد متفجرة، وتطوير طائرات مسيّرة، وتجنيد عناصر داخل المملكة وخارجها، فضلاً عن إعداد "بنك أهداف" لزعزعة الأمن وإثارة الفوضى. وهذا وحده كافٍ ليُعيدنا إلى الحقيقة الكبرى: الأردن مستهدف… لكنه مستعد دائمًا للرد.
لقد بات واضحًا أن هناك من يراهن على خنق الأردن من الداخل، أو إشغاله بصراعات مفتعلة، أو التشكيك بثقة المواطن بدولته. لكن رهاناتهم تسقط أمام وعي المواطن أولاً، ويقظة الأجهزة الأمنية ثانيًا، ووحدة الشعب ثالثًا. وهذا الثلاثي، هو السلاح الذي لا يُقهر.
وفي الوقت الذي تنشغل فيه بعض الشعوب بأسعار الوقود، أو الانقسام السياسي، أو صراع المكونات، ينشغل الأردني – كلما سمع خبرًا كهذا – بحمد الله على نعمة الاستقرار، ويتجدد إدراكه لقيمة الوطن الآمن. هذا الوطن الذي -رغم ما يحيط به من اضطراب إقليمي وتهديدات متزايدة- لا يزال صامدًا، متماسكًا، ينجح في منع الشر من عبور بواباته.
ما كشفته المخابرات، لم يكن مجرد خبر في نشرة أخبار، بل صفعة لأعداء الأردن، وتأكيد على أن الأجهزة الأمنية ليست في سبات، وأنها تملك من المعلومات، والقدرة، والشجاعة، ما يمكّنها من التعامل مع أخطر الملفات في صمت، ودون ضجيج إعلامي.
وهنا، لا بد من التوقف قليلًا أمام المواطن الأردني العادي. ذاك الذي ربما لا يحمل سلاحًا، ولا يعمل في الأجهزة الأمنية، لكنه يختزن في قلبه حبًا لوطنه لا يُقدّر بثمن. كل مواطن هو "مخبر شريف" حين يُبلّغ عن أمر مشبوه، وهو "رجل أمن" حين يرفض المشاركة في إشاعة أو خبر كاذب، وهو "جندي" حين يحرس وطنه من الكلمة الخبيثة والموقف المريب. فالوطن لا يُحمى فقط بالبندقية، بل يُحمى بالفكرة الصائبة، والسلوك الصادق، واللسان النظيف.
ويوم العلم، الذي أتى بعد هذا الحدث الجلل، ليس مناسبة للاحتفال فقط، بل مناسبة للمراجعة والتجديد. هل نحب وطننا كما ينبغي؟ هل نعيش الانتماء كواقع، لا كشعار؟ هل نقدّر النعمة التي نحن فيها، ونحافظ عليها؟
الجواب يجب أن يكون أفعالًا لا أقوالًا. أن نرفض من يشوه صورة الوطن. أن نواجه خطاب الكراهية بالتسامح، والتخوين بالثقة، والشتات بالوحدة. أن نعلّم أبناءنا معنى أن تكون أردنيًا: أن تكون حرًا، وفيًا، صادقًا، مسؤولًا.
الأردن ليس كيانًا سياسيًا فقط، بل حالة وجدانية وروحية لا يُمكن أن توصف ببساطة. هو الوطن الصغير بحجمه، الكبير بتأثيره. هو الذي في كل مرة يُراهن خصومه على سقوطه، ينهض أقوى. هو الذي يخرج من كل أزمة أنقى وأصفى، وكأن التحديات تضعه في اختبار مستمر، فينجح فيه دون استثناء.
علمنا اليوم يرفرف، ليس لأن الريح مرت به، بل لأن الشهداء رفعوه، والأحياء حموه، والمؤسسات صانته. وعندما نرفع العلم على البيوت والمدارس والمباني، فإننا نرفع رمز البقاء، وصوت الأمل، وصرخة الكرامة.
في الختام، علينا أن نكتب كثيرًا، ونحكي كثيرًا، ونتحدث كثيرًا، عن الوطن. لأن الوطن إن لم نحكِ عنه نحن، سيحكي عنه أعداؤه بأصوات زائفة. علينا أن نُعلّم أبناءنا أن يوم العلم ليس مجرد مناسبة، بل قصة وطن، ونقطة ضوء في بحر الظلام. وأن كل من تسوّل له نفسه المساس بهذا البلد، فإن "المخابرات" في وجهه، و"الراية" في أعلى سارية، و"الشعب" في كامل الوعي واليقظة.
هنا الأردن… فلا عبور للشر، ولا مجال للخيانة.