مجزرة الشَّجاعيَّة: حين خبزت الأمَّهات "معمول العيد" ووزَّعه القصف على الأكفان

mainThumb
مجزرة الشَّجاعيَّة: حين خبزت الأمَّهات "معمول العيد" ووزَّعه القصف على الأكفان

13-04-2025 07:31 PM

printIcon

أخبار اليوم - "سامعينا؟ إذا سامعين، اطرقوا على الحجارة، خليكم عايشين، هينا بنحاول نرفع الردم.. انخنقنا، مش قادرين!"...

كانت هذه أصوات بين ناجين فوق الركام وعالقين تحته. لم يتوقف من بقي له مساحة حياة لا تزيد على بعض السنتيمترات بين طبقتي سقفين أطبقا عليه، عن إطلاق النداء. ظل ذلك الفراغ الضيق يمنحه قدرًا من الهواء المختلط برمال وغبار يملأ فمه المحاصر بأطنان من الردم، يتمسك بخيط حياة حتى الرمق الأخير.

أمام ركام هائل لمربع سكني، وقف الأهالي وطواقم الإنقاذ بكل عجزهم، باستثناء أيديهم وأدوات بدائية، بلا معدات ثقيلة أو أدوات تساعدهم على انتشال العالقين في الطوابق السفلية. حاولوا بأظافرهم الوصول لمن كان على الأطراف، واستغرق ذلك ساعات طويلة.

تجلى العجز حين وقفت الطواقم أمام قدم عالقة تحت حزام أسمنتي كبير، بينما الجسد بالكامل خارج الركام. اضطروا لإحضار طواقم طبية لبتر القدم بلا تخدير لضعف الإمكانيات، وأضيف وجع البتر إلى وجع الإصابة. صرخ، وبكى، ونُقل إلى المستشفى، لكنه استشهد لاحقًا من شدة النزيف.

صرخات استغاثة

تحت ركام البيوت التي دمرها الاحتلال باستهدافه لمربع سكني في حي الشجاعية شرق مدينة غزة صباح الأربعاء، دُفنت أحلام أطفال بحثوا عن الفرح ولم يجدوه، ونساء عدن من النزوح لتحضير "الكعك والمعمول" بعد يوم هدوء خادع، فامتزجت أجواء العيد بصرخات الاستغاثة ودماء عشرات الشهداء.

في ساحة المستشفى المعمداني، قرب مكان تكفين الشهداء، جلست شهد أبو عمشة مسندة ظهرها إلى الحائط بكل ما فيها من وجع وقهر. قالت لصحيفة "فلسطين": "نزحنا إلى بيت عمتي بعد أوامر الإخلاء، ثم اتصل ابن عمي وأخبرنا أن الوضع في الشجاعية هادئ، فجاء واصطحب نساء العائلة".

"شقيقتي رسمية لم تكن ترغب بالذهاب، لكن ذهبت لإطعام زوجها الذي لم يجد رغيف خبز منذ ثلاثة أيام، وكان يعيش على الفول. أرادت إعداد شيء له، وأخذت ابنتها لمى (7 سنوات)، وأبقت معي طفليها كرم (3 سنوات) ولانا (4 سنوات)".

تتذكر كلمات شقيقتها عند الباب: "هيني تركتلك كرم ولانا من ريحتي، دير بالك عليهم لو استشهدت".

تحاول التماسك، تمسح دموعها، بينما تنتظر انتشال جثامين شقيقتيها من تحت الأنقاض: "كان في البيت أكثر من خمسين فردًا، من عائلتنا أبو عمشة وأنسبائنا من عائلة أبو حليمة".

قبل القصف بثوانٍ، اتصلت بها شقيقتها ديانا: "أنا وصلت بيت أختي رسمية، بدي أفطر عندها".

ولم تمر دقائق حتى جاء اتصال آخر من ابن عمها يقول: "البيت المكوّن من خمس طوابق انهار على من فيه"... فكانت الكارثة.

قبل أسبوع كانت "ديانا" نزحت لعائلة زوجها، ثم جاءت لزيارة والدتها. تقول شهد: "جلسنا بسعادة لم نشهدها منذ بداية الحرب، ونامت معنا، وفي الصباح أخذها زوجها لبيتهم في الشجاعية".

"مازحتني قائلة: انخنقت، بدي أروح، فش بعد داره...".

قبل العيد، اشترت مع أولادها ملابس، لكنها لم تفرح بها. ذهبت للإفطار فكان طعامًا مغموسًا بدماء الشهداء، واستشهدت مع زوجها".

"لمة الكعك والمعمول"

بعد أوامر الإخلاء، نزحت العائلة. لكن عودة بعض الجيران شجعت النساء على العودة يومًا لإعداد "كعك العيد". نور مرعي أبو عمشة كانت من بينهن، تقول:

"أيقظتني أمي في الصباح، وقال عمي الذي بات في البيت: الليلة كانت هادئة، تعالوا".

تنهار دموعها وهي تتذكر تفاصيل ما قبل المجزرة: "اشتركنا قبل الإخلاء، كل واحد ساهم بعشرة شواقل لإعداد الكعك، لكن تأجل بسبب المناشير. أمي وجدت اليوم مناسبًا".

رافق شقيقاها عبد الرحمن (9 سنوات) ومحمد (13 سنة) أمهما طمعًا في طعم يخفف قسوة النزوح. حاولت الأم خلق جو يشبه الأعياد.

"دفنوا فرحتنا، وفرقوا جمعتنا"، تقول نور بصوت منكسر.

أثناء القصف، احتضنت أمها عبد الرحمن وحاولت الاستغاثة، استطاعت إخراج رأسه وشقيقه محمد من بين الأنقاض، وكانا يصرخان.

نجا محمد، وهو الآن في غرفة العمليات، بينما استشهدت الأم، الأب، وعبد الرحمن.

ياسمين أبو الكاس، الجارة، تجلس إلى جوار نور وشهد، تحاول مواساتهما. تقول وقد ذاقت كأس الفقد سابقًا باستشهاد نجلها:

"عندما تهاوت البيوت، أسعفنا من قذفهم الانفجار إلى الشوارع، لكن وقفنا عاجزين أمام أقربائنا الذين بقوا يناشدون حتى آخر لحظة".

وتضيف: "بقينا نسمع أصواتهم من تحت الركام من الصباح حتى العصر، وكنا نتصل بهم، تسمع هواتفهم ترن، نطرق الجدران فيطرقون... نطمئن أنهم أحياء، لكن الوقت ينفد".

جنازات متتابعة

توزع أفراد العائلة بين المستشفيات والمقابر، يدفنون الشهداء الذين يُنتشلون تباعًا.

تقول أبو الكاس: "بدنا نطلع الشهداء، نكرمهم وندفنهم".

وتتذكر: "أخرجنا طفلًا مصابًا بانزلاق في العمود الفقري، وشابًا بُترت قدمه أسفل عمود باطون، جسده بالكامل خارج الركام لكنه استشهد لاحقًا بسبب النزيف".

ولا تزال تجهل مصير أحد أشقاء زوجها العالق تحت الأنقاض، وقد ترك خلفه طفلًا يتيمًا بعد استشهاد زوجته إسراء سلمان في بداية الحرب.

وتضيف بقلب محترق: "فقدت نجلي محمد، استهدفوه أثناء محاولته إسعاف والده، فاستشهد، وبُترت قدم والده وشقيقه محمود، وأصبحت معيلة للبيت. هذا حال كل بيوت غزة".

وتصرخ في وجه الضمير العالمي: "ما ذنب الرضيع إبراهيم علي أبو عمشة، عمره شهر، ليُقتل؟ وشقيقته بعمر عامين؟ وأمهم نور التي لا تزال تحت الأنقاض؟".

ستظل مجزرة الشجاعية واحدة من آلاف المجازر التي لم تُمحَ من ذاكرة القطاع. مجازر تُخزّن في ذاكرة الأجيال، وتصفع الضمير العالمي المتخاذل أمام صرخات الأطفال تحت الأنقاض.



المصدر / فلسطين أون لاين