بقلم: د.هديل شقير/أستاذة الإعلام السياسي
في عالم تتسارع فيه المآسي وتتنازع فيه الهويات، لم تعد الكلمة مجرّد صوت عابر، بل صارت إما شظية تمزق النسيج الاجتماعي أو خيطاً يُخاط به الجرح. في زحام الدم والدمع، حين تختلط الحقائق بالدعايات، يصبح الإعلام قاضياً بلا محكمة، أو رسول سلام إذا شاء. في لحظات التحول الكبرى، يتكشّف وجه الإعلام الحقيقي: أيكون صوتًا للناس أم سيفًا على رقابهم؟ بين أمواج الصراع والطمأنينة، تتهادى تجارب من التاريخ البعيد والقريب تروي حكايات عن دور الإعلام في خلق الفتن كما في دفنها.
الإعلام في خدمة الفتنة..دروس موجعة من التاريخ
عندما وقعت الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، لم يكن القتل وحده من حمل سلاحًا، بل كانت إذاعة "راديو ميل كولين" حاملةً لراية التحريض بكل وضوح، إذ وصفت التوتسي بـ"الصراصير"، ودعت بشكل مباشر إلى إبادتهم، ما أدى إلى مذبحة راح ضحيتها أكثر من 800,000 إنسان في مئة يوم من الكراهية الصريحة.
وفي قلب أوروبا، خلال تفكك يوغوسلافيا، سخّر الإعلام القومي الصربي نفسه لشيطنة الكروات والبوسنيين، مؤطرًا خطاب الكراهية ضمن شعارات قومية تنذر بالحرب، فكانت النتيجة مذابح شنيعة كحادثة سريبرينيتسا.
لم تكن ألمانيا النازية بعيدة عن ذلك النهج، حيث حول جوزيف جوبلز الإعلام إلى مسرح للكراهية المنظمة، مستغلاً كل وسيلة إعلامية لترسيخ العنصرية ضد اليهود والغجر والمثليين، ممهّدًا الطريق إلى الهولوكوست.
أما في الهند، فقد غذّت الصحافة والقنوات التوتر الطائفي بين الهندوس والمسلمين، خصوصاً بعد هدم مسجد بابري عام 1992 وأحداث غوجارات في 2002، حيث عُرضت الأقليات بوصفها تهديدًا دينيًا للوطن، مما أشعل فتيل العنف الطائفي.
حتى في الصين، لم ينجُ الإعلام من تسييسه خلال الثورة الثقافية، حيث لعب دور المُعبئ ضد النخب الفكرية، دافعًا الشباب للهجوم على الأساتذة والمفكرين في إطار تطهير أيديولوجي دموي.
وعربيًا، لم يكن المشهد مختلفًا. ففي لبنان، خلال الحرب الأهلية الممتدة بين 1975 و1990، أصبحت الصحف والإذاعات أدوات طائفية تحاكي انقسام الشارع، حيث مثلت كل طائفة صوتها الخاص، ما أدى إلى تعميق الشرخ الوطني (Dabbous-Sensenig, 2002). وبعد احتلال العراق عام 2003، برزت قنوات طائفية مثل "الزوراء" و"الفرات" تعيد إنتاج خطاب الحقد السني والشيعي، ما غذّى أجواء الحرب الأهلية.
وفي مصر، بعيد ثورة 2011، كان الإعلام ساحة استقطاب أيديولوجي حاد بين تيارات الإسلام السياسي والتيارات الليبرالية والعسكرية، مما خلق حالة من الانقسام المجتمعي الحاد.
وفي سوريا واليمن، تسلّحت المنابر الإعلامية الرسمية والمعارضة بخطاب تحريضي ومذهبي، أدى إلى تفكيك السرديات الوطنية، فباتت القنوات وسيلة لتقسيم البلاد أكثر من أن تكون صوتًا لها.
الإعلام كجسر للمصالحة..حين تتكلم الحقيقة لا الفتنة
غير أن هذه الصورة القاتمة لا تغطي وجه الإعلام كله. فقد شهد التاريخ لحظات كان فيها الإعلام طوق نجاة من بحر الفتنة. ففي جنوب إفريقيا، عقب سقوط نظام الأبارتايد، لم يكن الانتقال الديمقراطي ليحدث بهذا السلاسة لولا الدور الفاعل للإعلام الذي بث جلسات لجنة الحقيقة والمصالحة، وجعل العدالة متاحة للمواطنين لا حكرًا على القضاة.
وفي رواندا نفسها، بعد الكارثة، جاء الإعلام ليعيد بناء الثقة. أطلقت إذاعة "La Benevolencija" برامج درامية مثل Musekeweya تروي قصصاً رمزية تعزز التسامح وتُضعف خطاب الكراهية، مستهدفة جيلًا جديدًا تربّى على ألم الفقد .
أما في نيكاراغوا، فقد تحوّلت الإذاعات المستقلة إلى منابر للحوار بعد حرب أهلية طويلة، لتكون أداة لخفض التوتر وليس لتأجيجه (Rodriguez, 2001). وكذلك الحال في إندونيسيا، حيث أنشئت منصات مثل "Jaringan Damai" لنشر قصص التعايش بين المسلمين والمسيحيين بعد صراعات دينية دموية .
وفي سيراليون، كان برنامج Talking Drum Studio شاهدًا على قدرة الإعلام على ترميم الجراح، حيث جمع الجناة والضحايا في سردية مشتركة تُبنى على الصراحة والعدالة .
بين الفتنة والأمل..دروس للإعلام الأردني
اليوم، وبينما تخفق القلوب الأردنية مع كل خبر يأتي من غزة، ظهرت على السطح أصوات أرادت استثمار الدم الفلسطيني لبث التفرقة، سواء بين مكونات المجتمع أو بين الشعب ومؤسساته. وتجلّت الفتنة مجددًا حين استخدمت بعض المنصات الرقمية لغة التخوين والتصنيف.
لكن في مقابل هذا، برز إعلام وطني ومسؤول، من خلال تقارير تلفزيونية، وبرامج حوارية، وتغطيات ميدانية، ركّز على وحدة الصف الأردني، وعلى دعم المقاومة بوعي، لا بحماسة عمياء. لقد رأينا كيف يمكن لصوت عاقل واحد أن يطغى على صخب المحرضين، إذا ما استند إلى القيم الوطنية، والمهنية، والحقيقة.
إن التجارب العالمية التي عرضناها تؤكد أن الإعلام ليس قدرًا مفروضًا، بل اختيار. وعلينا في الأردن – كما في كل مكان – أن نختار أن يكون إعلامنا جسرًا لا خندقًا، منبرًا للصدق لا منصة للتجييش، صوتًا للحقيقة لا لافتة للكراهية.