قهوة الحرب .. عبد الله يودّع الحياة بدل العزوبية

mainThumb
قهوة الحرب.. عبد الله يودّع الحياة بدل العزوبية

13-04-2025 10:49 AM

printIcon

أخبار اليوم - في مساء هادئ، بدا كأنه يحمل بعض الفرح المؤجل، كانت عائلة وشاح تتهيأ لإقامة زفاف بسيط لنجلها البكر "عبد الله"، بالرغم من أهوال الحرب. لم يتبقَ سوى أيام على زفاف العشريني "عبد الله"، المقرر في 14 نيسان/ أبريل 2025، وكان كل شيء جاهزًا: الدعوات، وتفاصيل الحفل، والفرح الذي شق طريقه على الرغم من الحرب. لكن مساء السابع من أبريل، أي قبل أسبوع من موعد الزفاف، قرر "عبد الله" قضاء سهرة مع رفاقه الثلاثة: "المنتصر بالله أبو زيادة، وصهيب، وعبد القادر ريان"، الذين تعرف عليهم في مركز الإيواء بمدرسة سجى للتربية الخاصة، قرب مستشفى حمد شمال غرب مدينة غزة، بخيمة نصبوها عند بوابة المدرسة، تملؤها أجهزة شحن جوالات بدائية وأحاديث النازحين.

وداع قبل الزفاف في تلك الليلة، وكما يروي معتز وشاح، شقيق الشهيد، كان "عبد الله" قد عاد لتوه من زيارة خاطفة لخطيبته، ليخبرها بموعد الزفاف وبعض تفاصيل الحفل. يقول وشاح لصحيفة "فلسطين": "كانت ابتسامة أخي تُخفي خلفها قلقًا دفينًا، لكنه لم يكن يعلم أن هذا الوداع البسيط للعزوبية، سيكون الوداع الأخير". ويتابع: "تجمّع الرفاق الأربعة وخرجوا سويًا من المخيم قرابة الساعة 11:10 مساءً لشراء القهوة من دكان قريب، على بُعد 20 مترًا فقط من مكان تواجدهم. كانوا يُعدّون السهرة لتكون ليلة وداع العزوبية، كما أسموها". ويمضي وشاح، الذي بدأ يلتقط أنفاسه بسرعة، وكأنه يستحضر المشهد أمامه: "حين أصبحوا في منتصف الطريق، أطلقت طائرة استطلاع إسرائيلية من نوع 'زنانة' صاروخًا مباشرًا نحوهم، ليسقط الرفاق الأربعة في لحظتها".

ولم يكن ذلك كافيًا في عُرف الاحتلال، فأعقبه صاروخان من طائرات الـ"إف-16" لتكتمل المجزرة؛ تناثرت الجثث وتمزقت، والوجوه التي كانت تضحك قبل دقائق أصبحت أشلاء. يشير وشاح إلى أنه، حين سمع صوت الانفجار، خرج من داخل خيمة أقامها لشحن الهواتف، يركض ويتخبط في الغبار والشظايا، يبحث عن شقيقه، قائلًا وهو يشير إلى مكان جلوسهم الأخير: "كانوا يجلسون هنا، يعدّون الأيام للفرح، والآن لم يبقَ منهم شيء".

عش الزوجية ويردف وشاح: "عبد الله، وقبل يومين فقط، ذهب إلى مدينة البريج وسط القطاع، رغم الخطر، ليودّع جدّتي وأعمامي. لم يكن يعلم أن قلبه شعر بما سيأتي، فأراد نيل الرضا ووداع الجميع". ويلفت إلى أن شقيقه "عبد الله" هو البكر لعائلة مكونة من 11 فردًا، وكان أمله أن يعوّض والدَيه عن تعب الحرب والنزوح، خاصة بعد أن جهّز عش الزوجية قبل أن يعقد قرانه خلال رحلة التهجير جنوبًا.

وبعد أن وجدت له والدته العروس المناسبة، اتفقوا على إقامة الزفاف فور العودة إلى جباليا شمالي غزة، لكن حين عادوا بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في يناير الماضي، لم يجدوا منزلهم، فقد دُمّر بالكامل، ليضطروا للسكن في مركز إيواء، واستمروا بالتحضير للفرح رغم الدمار. يقول وشاح، بصوت يكاد ينكسر: "لم يكن عبد الله يومًا حزينًا رغم كل شيء، كان يرسم الضحكة ويوزع النكت على من حوله، كان محبوبًا، محبوبًا جدًا".

ويردف: "رغم فقدنا منزلنا في مخيم جباليا، وشقة عبد الله التي بناها حجرًا حجرًا، لم ييأس، وكان دائمًا يقول: بعوض الله، سنعيد بناؤها من جديد وأفضل مما كانت". الرجل الخامس عند زاوية الخيمة، جلس أنور وشاح، عم الشهيد "عبد الله"، على كرسي بلاستيكي، يقول بصوت منخفض ووجه مكسو بالحزن: "كنت معهم... خامسهم، لكن تأخرت لأن أحد النازحين أوقفني يشكو لي حاله، فافترقت عنهم". ويستذكر أنور اللحظة التي غيّرت كل شيء، قائلًا: "كنت خلفهم بنحو 20 مترًا، ثم سمعت صوت انفجار، صاروخ من الزنانة، ثم اثنين من طائرات F-16، وسقطت على الأرض، وعندما عدت إلى المكان، لم أجد إلا أشلاءهم".

ويتوقف أنور، ثم يسأل بحرقة: "ما ذنبهم؟ أربعة شباب كانوا ذاهبين لشراء القهوة، يخططون لحياة... لماذا قتلهم الاحتلال؟ لماذا صمت العالم على المجازر في قطاع غزة منذ 18 شهرًا؟!" أكوام من الركام، رمال متناثرة، جثث محمولة على أكتاف أهلهم في مركز الإيواء... كانت تلك نهاية الحكاية، لم تُكمل العائلة فرحتها. عبد الله، المنتصر بالله، صهيب، وعبد القادر، رحلوا قبل أن يشاركوا في مراسيم الفرح.

بعد حوالي ربع ساعة، يقول وشاح، تمكّن بعض النازحين من الوصول إلى المكان، يجمعون ما تبقى من أجساد الشهداء. فالإسعاف لم يكن يعلم بوجودهم، إذ قيل إن القصف استهدف "أرضًا فارغة"، لكن الحقيقة كانت غير ذلك: كان المكان مليئًا بالأشلاء. نهاية لم تُكتب لها فرحة منذ السابع من أكتوبر 2023، يعيش قطاع غزة إبادة جماعية غير مسبوقة: قتل، وتجويع، وتدمير ممنهج، بدعم دولي وصمت أممي. أكثر من 162 ألف شهيد وجريح، وآلاف المفقودين، معظمهم من الأطفال والنساء، دون أن يتحرك العالم. لم يُزف "عبد الله" إلى عروسه، بل زُفّ إلى السماء. ترك خلفه ذكرى ليلة قهوة لم تكتمل، وليكون هو ورفاقه شهودًا على المجازر وجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها قوات الاحتلال بحق المدنيين الأبرياء في قطاع غزة.




فلسطين أون لاين