أخبار اليوم - بجسدٍ منهك تبدو آثار الشظايا واضحة عليه، وعينان مغمضتان قسرًا، يتكوّم محمد حجازي، الطفل ذو السبعة أعوام، على أسرَّة العلاج بعدما أصيب في انفجار جسم مشبوه من مخلفات الحرب. بينما تغطي الضمادات مساحة نظره، يلفه صمت ثقيل يشبه ليل غزة الطويل.
في المستشفى الإندونيسي شمالي قطاع غزة، يرقد حجازي الذي كان بالأمس القريب يركض ضاحكًا بين أروقة الدمار وأنقاض الحرب أمام بيته المجاور لمستشفى كمال عدوان في مشروع بيت لاهيا، شمالي القطاع.
وجهه الطفولي الذي كانت تضيئه ابتسامة واسعة، صار مغطى بضمادات بيضاء تحجب جروحه الغائرة، بينما تحيط بها الندوب وتنتشر في أنحاء أخرى من جسده. أما عيناه، فقد أصبحا في ظلام دامس بعدما تحول عالمه فجأة إلى ظلمة لا نهاية لها.
حجازي، الطفل البكر لوالديه، خرج صباح يوم الثلاثاء، 25 مارس/آذار 2025، للعب مع أصدقائه أمام بيته المدمر جزئيًا والكائن في منطقة شهدت عدوانًا عسكريًا شرسًا شنه جيش الاحتلال وخلف وراءه دمارًا هائلًا.
في الساعات الأولى من ذلك اليوم، بدا أن الطفل منغمس في اللعب مع أصدقائه وهو يجري قرب أنقاض المنازل المدمرة، لكن ما لم يكن يعرفه أن بين الركام بقايا موت متنكر في شكل قطعة معدنية تركها جيش الاحتلال، كما ترك وراءه الألم في كل زاوية ورواق.
"ما إن مدَّ يده وأمسك بتلك القطعة الغريبة حتى انفجرت به، ودوى صوت الانفجار في الأرجاء. كانت ذخيرة من مخلفات الحرب"، قال خالد حجازي، والد الطفل محمد، بصوتٍ خافت يحمل في طياته الكثير من الألم.
علاج مفقود
لم تمضِ سوى دقائق قليلة قبل أن يمسك الأب بطفله ويطير به إلى مستشفى كمال عدوان، لكن بسبب الأضرار الكبيرة في المستشفى لم يعد قادرًا على تقديم الخدمة الطبية اللازمة، فتم نقله سريعًا إلى المستشفى الإندونيسي، وهناك قرر الأطباء تحويله إلى مستشفى العيون في حي النصر غرب مدينة غزة.
كانت إصابة حجازي بالغة الخطورة، وقد غطت الدماء وجهه بالكامل، وعلى إثر ذلك خضع لعمليات جراحية حاول الأطباء خلالها علاجه، لكنهم وجدوا أنفسهم مجبرين على استئصال عينه اليمنى.
أما عينه اليسرى، فقد أخبر الأطباء والده أن طفله بحاجة ماسة إلى علاج خارج قطاع غزة وإجراء عمليات جراحية معقدة، وهذا يتطلب سفره ونقله في أقرب وقت دون أي تأخير، وإلا فإن فرصة إصابتها بضمور كبيرة، وهذا سيؤدي حتمًا إلى استئصالها أيضًا.
يضيف والد الطفل لـ "فلسطين أون لاين": "معاناة ابننا تتفاقم وأصبحت بلا نهاية. وفقدان النظر كابوس لا ينتهي بالنسبة لطفل بعمره. يسألنا دائمًا عن اللحظة التي سيرى فيها مجددًا؟ ولا نعرف كيف نجيبه".
"محمد كان يركض دائمًا في الحي، يلاحق أصدقائه وهم يلعبون بفرح، الآن أصبح طريح الفراش، عيناه مغمضتان ولا يرى بهما شيئًا. بأي ذنب؟ ما نريده فقط السماح بسفره لإكمال علاجه."
جرح لا يندمل
داخل المستشفى الإندونيسي، حيث استقر حديثًا، تحولت حياة الطفل إلى روتين من العلاج والألم والانتظار. فبينما يرافقه والده ويحاول طمأنته، تأتي شقيقتاه حلا (6 أعوام) وهدى (عامين) لزيارته ومداعبته.
أما والدة الطفل، نور الهدى حجازي (29 عامًا)، فهي تحمل في أعماقها جرحًا مساوًا لإصابة طفلها الذي سرقت مخلفات الحرب براءته على أعتاب منزله. فعندما تجلس بجواره، يحيط بها الألم من كل جانب، ويتلألأ بوضوح في عينيها.
إبان حرب الإبادة التي بدأتها "إسرائيل" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أصبح قطاع غزة ليس إقليمًا محاصرًا فحسب؛ بل ساحة مفتوحة للمآسي الناتجة عن تجارب الأسلحة الفتاكة. مئات الأجسام المشبوهة من ألغام وقذائف مختلفة الأحجام وقنابل تزن أطنانًا ألقتها المقاتلات الحربية ولم تنفجر، صارت أشبه بموت منثور تحت ركام المنازل المدمرة وفي الأزقة وعلى أرصفة البيوت الآيلة للسقوط.
فقبل بضعة أسابيع، وتحديدًا يوم الأربعاء 5 مارس الماضي، أصيب عدد من الأطفال شرق مخيم جباليا، شمالًا، في انفجار جسم مشبوه من مخلفات الحرب. وعندما استجاب عناصر هندسة المتفجرات في جهاز الشرطة للتعامل مع الحادثة انفجر بهم جسمًا آخر، وأصيب فيه الضابط بلال المبحوح بجروح خطرة فقد بسببها البصر.
وما يؤكد خطورة مخلفات الحرب أن بعضها قادر على تدمير عدة منازل في حال انفجارها، وإزالتها يتطلب معدات ثقيلة كان جيش الاحتلال قد دمرها عمدًا في حربه، بحسب مسؤول في هندسة المتفجرات تحدث لـ"فلسطين".
أما بالنسبة لوالدة الطفل حجازي، فرغم الألم الذي يهيمن عليها، لا تزال تهمس له كل ليلة: "يا روحي.. حتى لو انطفأت عيونك، قلبك مليان نور.. وستبقى ترى العالم بعيون روحك."
في حين أن والده، قد وجه رسالة للعالم: "أنقذوا أطفال غزة. لا ذنب لهم في هذه الحروب. أريد فقط أن يعيش ابني في أمان وأن يستعيد النظر حتى لو بعين واحدة."
يحمل الطفل في قلبه حلمًا بالسفر والعلاج بعدما كان شعلةً تنبض بالحياة أطفأت نورها مخلفات الاحتلال. يهمس ببراءة أمام زواره على سرير العلاج: "إن شاء الله سأسافر وأرجع أشوف!"
المصدر / فلسطين أون لاين