أخبار اليوم - وجّه الكاتب والصحفي عبدالهادي راجي المجالي انتقادًا لاذعًا للطبقة السياسية التي تصدّرت المشهد العام في الأردن، محمّلًا إياها مسؤولية تراجع هيبة الدولة وتهميش الأصوات الوطنية الحقيقية، مقابل تمكين "الهواة والشتّامين"، على حد وصفه، لتصدر الساحة وتحديد شكل الوعي العام.
وفي مقال غاضب حمل تساؤلات قاسية وحسرة وطنية عميقة، قال المجالي:
"لا نريد تضخيم الأمور، لكن من سمح بالإساءة لمؤسسات الوطن هم من فتحوا الأبواب أمام كل من لا يستحق، وأجلسوهم على الشاشات ومنحوهم شرعية تمثيل الرأي العام، بينما أقصوا الرجال أصحاب الرأي الشجاع، الذين كانت بوصلتهم الوطن وحده، لا السفارات ولا الامتيازات."
وتساءل المجالي:
"أيهما أخطر على الدولة: فتاة هاجمت الأمن وصرخت في لحظة تهوّر، أم طبقة سياسية تنقلت من ماركا وطبربور إلى عبدون ودير غبار مستفيدة من الموقع والنفوذ؟ لماذا تختفي هذه الطبقة عن الشاشات عندما تمس السيادة الوطنية أو حين ينقسم المجتمع؟ ولماذا لا يُحاسب من بنى ثروته من دم الفقراء؟"
وأكد الكاتب أن الوطن لم يكن في نظره يومًا مجرد هوية أو جواز سفر، بل كان "السكين، والقمح، والدم الخضيب"، مضيفًا:
"نحن الذين لم نرتضِ بديلاً عن الهاشميين، ولم نقبض من السفارات، ولم نشتم البلد ثم نعود وزراء عليه… نحن الذين صبرنا على الديون، واحتفظنا بالشبرية رمزًا، واعتبرنا كل شعار أمني طُهرًا وعطرًا."
وحمّل المجالي مسؤولية الانحدار الأخلاقي والسياسي لما وصفه بـ"النخبة المدعية"، قائلًا:
"لقد نصبتم علينا الجهلة والأميين قادة في الإعلام، وأقصيتم من كانوا يكتبون للأردن لا عليه، ومن قرأوا التاريخ لا من تاجروا به، حتى صرنا نُوسم بالرجعية، بينما صار المنقلبون هم ضمير الوطن!"
واختتم المجالي حديثه بقوله:
"لا تصبوا جام غضبكم على فتاة ارتكبت سلوكًا مرفوضًا وقد نالت كفايتها، بل صبوه على من بنى قصوره من ضرائبنا، وعلى من سرق عرقنا حين كانت خو عاصمة البندقية… عطاء الوطنية رسى علينا نحن، وسنحمل هذا الوطن على أهداب عيوننا، في المحاجر وعلى الكفوف وفوق الرؤوس."
وفيما يلي نص المقال الكامل كما ورد بقلم عبدالهادي راجي المجالي:
سؤال برسم الحب الوطني ليس إلا…
أيّهما أخطر على الدولة ووجودها؟ البنت التي شتمت الأمن وصرخت أمس وتم تداول الفيديو الخاص بها مئات الألوف من المرات وتعرضت للهجوم والمطالبة بسجنها، وتبرأ منها الكل، بما فيهم الحركة الإسلامية التي طالبت اليوم بعدم التعدي على الأجهزة الأمنية؟
أم الطبقية السياسية الأردنية التي انتقلت بحكم الموقع من شقق طبربور وماركا والأشرفية إلى فلل دير غبار وعبدون والكمالية؟
السؤال الذي يحيرني: لماذا حين تندلع قضية مرتبطة بالحريات، أو الإصلاح السياسي، أو الجندر، أو دور المرأة، أو مستقبل العلاقات العربية الأوروبية… تتنطّح هذه الطبقة وتستولي على الفضائيات، وتبدأ في حقن المجتمع بالنظريات، وتنصب نفسها راعية للوعي الوطني؟
في حين أن السيادة الوطنية حين تُمس أو حين ينقسم المجتمع، تختفي عن الشاشات نهائيًا، وتمارس الصمت!
الأولى بالعقاب هي الطبقة السياسية الأردنية التي أُنتجت، والتي استفادت ماليًا ونفوذًا من الدولة، وليس البنت صاحبة السلوك الصبياني…
الطبقة التي اقتحمت مجالس إدارات مؤسسات الضمان، والتي مُنحت جوائز ترضية كمناصب في الدولة، والتي اختارت الدول التي تتناسب مع جو العائلة كي يكون الوالد سفيرًا فيها،
الأولى أن تُحاسب هذه الطبقة التي أشبعتنا تنظيرًا وخوفًا على الوطن عبر لجان الإصلاح السياسي، وكانت نتائج تلك اللجان… كارثية، للأسف.
لقد كنت من أكفأ الصحفيين قلما ومسارًا في الأردن، ولكن للأسف… باسم النخبة والعقلانية، نصبتم علينا الجهلة والأميين قادة في الإعلام.
كنا من أخلص الناس للتراب والتاريخ والعرش والعسكر، ولكنكم أحضرتم كل من قبض من السفارات، وكل من انخرط في الأحزاب الثورية في بيروت وشتم البلد والنظام، نصبتموهم علينا أئمة في الوطنية ووحدات قياس للمواطنة.
كنا من أكثر الناس استقامة، لم نلتحف اليسار ونرتضيه بديلاً عن الهاشميين، لم نخضع لمغريات الفضائيات، لم ننخرط في سلك حزبية معادية أو مقاومة مرتهنة،
كان الأردن لدينا البوصلة والسكين والقمح والدم الخضيب،
لكنكم أحضرتم من نقلوا البندقية من كتف لكتف، جئتم بكل من انقلب على المبادئ وعلى الأحزاب وعلى القضية، وصنعتم منهم سادة علينا،
وسمتمونا بمصطلحات الرجعية، واتهمتمونا بأننا العائق في مسيرة التقدم والإصلاح،
بالمقابل، كان المنقلبون هم "ضمير الوطن" ونبضه… ونحن صرنا مجرد رعايا.
كنت أنا شخصيًا أشم التراب كل يوم،
كان الأردن عندي الحلم والحقيقة، كان قلبي ودمي،
كانت عيوني إن لم تشاهد جباله والبيوت المعلقة على حواف جبال عمّان، أحس أنني فقدت فروض الوطنية،
لكنكم أحضرتم من كان يشاهد الأردن فقط من شباك الطائرة ونصبتموهم وزراء علينا،
أحضرتم من كان يعتقد أن التطوير مرتبط بالثقافة الأوروبية فقط، من استورد المشروع الفرنسي والطريقة البريطانية والتفكير الأمريكي،
أصبحوا هم السادة، ونحن الخوارج…
صاروا هم يشرعنون ويخططون ويبنون البلد،
ونحن صرنا من بقايا قبيلة اغتالت قبيلة… وثلة تبحث فقط عن الغنيمة.
لوّثتمونا باسم العشيرة،
واعتبرتم صوت الربابة نشاز،
وبيت الشعر صار جملة تُطرق في الأغنية فقط،
والشماغ قد يتحوّل إلى زي ترتديه فنانة مغمورة في حفل صاخب.
البنت مدانة، أعرف…
لكن المدانون في الحقيقة هم من نظروا للبلد غنيمة، وللموقع علوًا،
هم من نصبوا أنفسهم ليبراليين وحداثيين، وهم لا يعرفون معنى الليبرالية، ولم يقرأوا حرفًا منها،
هم من قالوا عن أنفسهم "النخبة"… أي نخبة تلك التي لا تعرف تيسير السبول، ولم تقرأ "عشيات وادي اليابس"، ولم تتبصر في مواقف حسين الطراونة، ولا تعرف شيئًا عن شمس الدين سامي، ولم تقرأ تاريخ الأنباط، ولا العمونيين، ولا قصة ميشيع المؤابي.
لا تصبّوا جام غضبكم على البنت، لقد اكتفت بما طالها،
لكن صبّوه على الذين بنوا بيوت عبدون من دمنا،
من ضرائبنا، من عرق جباهنا،
على الذين سرقوا عرق أهلنا حين كانت "خو" هي عاصمة القلب، وعاصمة البندقية…
واستبدلوا "خو" والمعسكرات بـ"البزنس بارك" و"البوليفارد".
إني أبكي عليك في القلب يا بلدي…
في القلب أبكي، وكل ما في الجسد ينزف…
لقد منحونا الآن "عطاء الوطنية"،
العطاء يا وطني رسا علينا…
لأن تلك الطبقة تظن أنه عطاء خاسر، فمواقفهم تقاس فقط بالربح والخسارة.
وأنا… سأحمل هذا العطاء،
سأحمل كل ذرة عرق من رجل أمن وأعتبرها الطهر والعطر،
سأحمل كل شعار في قلبي،
سأحمل الحراب وما دون الحراب…
نحن الذين ما زلنا نؤمن بالشبرية وبيت الشعر،
ونكتوي بظلم ديون البنوك وأزمة الراتب…