د. حسن البراري
في زمنٍ مثقل بالجراح، يغدو الانفعال مفهوماً، بل ومبرراً، حين تتزاحم الصور الدامية من غزة في وجدان كل من يناصر الشعب الفلسطيني ويرى في المقاومة آخر قلاع الكرامة. واللافت أن حالة من الخذلان تسللت إلى النفوس، وجعلت البعض يتساءل، بعينٍ دامعة وصوت مبحوح: إلى أين تمضي حماس؟ وأين ذهبت بوصلة المقاومة؟ لكن وسط هذا الضباب الكثيف، تظل الحقائق راسخة لا تعصف بها العواطف ولا تغيرها رياح المواقف.
الأردن، بكل مكوناته، لم يكن يوماً على الهامش من هذه القضية. لم نشهد صوتاً واحداً، لا من الملك ولا من الحكومة ولا من الناس، يبرر أو يتنصل أو يشمت بما يحدث في غزة، فالجميع يشعر بالوجع وكأن ما يحدث هناك يحدث هنا، وهذا ليس جديداً علينا، بل هو جزء أصيل من وجداننا وتاريخنا.
ومن يتحدث عن اليوم، عليه أن يتذكر الأمس. في عام 1948، عندما انسحب الانتداب البريطاني وترك فراغاً خطيراً لم يقف الأردن متفرجاً، بل دخل الجيش العربي الأردني فلسطين، ووقف سداً في وجه الانهيار، مدافعاً عن القدس، وحافظ على الضفة الغربية من السقوط الكامل. لولا تدخله، لربما كنا نتحدث اليوم عن ضياع شامل. فهل يُعقل بعد كل هذا أن يأتي من يُشكك أو يُزايد؟! أليس من الظلم أن ننسى هذا التاريخ، أو نُهينه بكلمات سريعة وأحكام سطحية؟
المشكلة أن بعض الأصوات التي تهاجم موقف الأردن لا تأتي من حرقة حقيقية، بل من حسابات ممولة وموجّهة، تحاول أن تجرّ الأردن إلى صراعات لا طائل منها، بل قد تدمره. البعض يرفع شعارات صاخبة، يطالب بفتح الحدود، وكأن الأمر بهذه البساطة، لكن هل هذا فعلاً سيساعد حماس؟ أم أنه سيضع الأردن في مرمى نار لا ترحم، وبخاصة ونحن نعيش في واقع عربي ممزق ومكشوف أمنياً واستراتيجياً؟
أن ندعم المقاومة لا يعني أن نقفز في المجهول، فالأردن لا يملك ترف الدخول في معركة عسكرية غير محسوبة، ولا أن يغامر بوطنه وشعبه. ومن يطالب بذلك، عليه أن يسأل نفسه: هل نحن مستعدون فعلاً؟ هل نملك الإمكانيات؟ أم أننا فقط نُطلق شعارات لا نعرف نهايتها؟
في النهاية، ليس من الوطنية أن نزايد على من وقف معنا دائماً، ولا من الحكمة أن ننجرف خلف كلمات تُشعل البداية وتتركنا نحترق في النهاية. الحكمة أن نعرف متى وأين نقف، ومع من. فبعض المعارك تُربح بالصبر، وبعضها بالحكمة، لا بالصوت العالي. نتفهم عمق الألم الذي يعتصر القلوب جراء ما يجري في غزة من مآس إنسانية وانتهاكات مروّعة، ونقدر أن بعض الأصوات المنتقدة تنطلق من رؤى ذاتية لما يظنون أنه الموقف الأَولى أو الأنسب، غير أن الواجب الوطني يقتضي منا جميعًا، في لحظات الاختبار الكبرى، أن نُحكّم العقل ونضع الأردن في حدقات العيون والقلوب، فليس لنا وطن سواه، ولا ملاذ إلا حضنه، وهو الأمان والكرامة والهوية.