أخبار اليوم - وسط ركام الحرب وظلام النزوح، وبين خيام مزقتها الرياح ورصاص الاحتلال، تشرق شمعة من الأمل يشعلها المعلم فؤاد سلامة، ابن قطاع غزة، الذي تخلى عن خيمته، وسكن عائلته، ليمنح أطفال غزة فرصة لا تضيع للتعليم، بالرغم من كل الظروف القاهرة التي يعيشونها.
قصة سلامة ليست حكاية عابرة، بل هي شهادة على قوة الإنسان الفلسطيني في مواجهة الموت بالحياة، والجهل بالعلم، واليأس بالأمل.
مع اندلاع الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة، أجبر سلامة، مع عائلته، على النزوح القسري من منزله في مخيم الشاطئ إلى منطقة المواصي جنوب خانيونس، كما هو حال مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين شُردوا قسرًا تحت القصف والتدمير.
لم يكن الوضع في منطقة النزوح أفضل حالًا، بل وجد نفسه وسط مأساة إنسانية تتكرر مع كل عدوان، حيث الخيام المتناثرة، والمعاناة اليومية بحثًا عن الغذاء والماء والأمان.
لكن أكثر ما كان يؤلم قلب سلامة، المتخصص في اللغة العربية، هو مشهد الأطفال الذين فقدوا مدارسهم وكتبهم، وبدأت ملامح الضياع ترتسم على وجوههم البريئة، دون أي أفق واضح لعودتهم إلى مقاعد الدراسة.
يقول فؤاد لصحيفة "فلسطين": "شعرت أن العام الدراسي يضيع من بين أيدي هؤلاء الطلاب كما ضاعت بيوتهم وألعابهم وأمنياتهم. لم أحتمل أن أكون متفرجًا على مستقبلهم ينهار، فقررت أن أفعل شيئًا، ولو كان بسيطًا، لينقذ ما يمكن إنقاذه".
لم يكن لدى فؤاد إمكانيات مادية، ولا جهة تدعمه في مشروعه، لكنه كان يملك الإرادة والرغبة الصادقة في التغيير. قرر أن يقسم خيمته التي يعيش فيها مع أسرته إلى نصفين: نصف يخصصه في الفترة الصباحية للطلاب، ونصف يعود فيه مع أسرته مساءً للنوم فيه. بل أحيانًا، كما يقول، "كنت أتنازل تمامًا عن الخيمتين وأمنحهما بالكامل للطلاب أثناء الدراسة، ثم أعود للبحث عن مكان أنام فيه مع عائلتي بعد انتهاء الحصص".
أدنى الاحتياجات
بإمكانات متواضعة جدًا، بدأ سلامة يجمع الطلاب في الخيمة، مستعينًا بلوح خشبي وبعض الدفاتر القديمة، وشرع في تدريس اللغة العربية بنفسه. وسرعان ما انضمت إليه زوجته، التي تحمل شهادة في الرياضيات، لتدريس هذه المادة للأطفال بشكل تطوعي كامل.
لم يقف سلامة مكتوف اليدين، بل طرق كل باب يعتقد أنه قد يساعد في تطوير مشروعه. توجه إلى مؤسسات خيرية، وهيئات تعليمية، والمتبرعين، يطلب الدعم لتوفير أدنى الاحتياجات مثل المقاعد، والقرطاسية، والكتب، وحتى خيمة أخرى أوسع لاستيعاب مزيد من الطلاب. "لم أجد إلا القليل، وأغلب الجهات كانت مشغولة بأمور الإغاثة العاجلة، وهو أمر مفهوم، لكن التعليم أيضًا ضرورة لا تقل أهمية عن الغذاء والمأوى"، يقول سلامة.
لكن هذا القليل لم يثنه عن مواصلة العمل. بل أعد خطة تعليمية متكاملة، متوافقة مع معايير وزارة التربية والتعليم في غزة، تضمن للطلاب الاستفادة القصوى رغم الظروف. خطته كانت تهدف لاستيعاب 400 طالب، موزعين على ثلاث فترات يومية في خيمتين دراسيتين، وقد لاقت خطته إعجاب كل من اطلع عليها من المعلمين والمهتمين بالشأن التعليمي.
بعد أشهر طويلة من النزوح في المواصي، عاد سلامة وأسرته إلى منطقة الشاطئ الشمالي غرب غزة، حيث وجد بيته مدمراً جزئيًا، لكنه لم يفكر في نفسه بقدر ما فكر في استكمال مشروعه. تواصل فورًا مع وزارة التربية والتعليم، بحثًا عن مكان يؤوي خيمتيه التعليمتيْن، ليواصل مهمته. وأخيرًا، وجد ملاذًا مؤقتًا في منطقة إيواء الشارقة، القريبة من سكنه المدمر.
"أنا الآن أعمل على قدم وساق، أسابق الزمن لإعادة افتتاح الخيمتين واستئناف ما بدأته في مواصي خانيونس. أحلم أن ألحق الطلاب بما فاتهم، وأعوضهم عن أيام النزوح التي حرمتهم من التعليم"، يقول سلامة بحماس لا ينطفئ.
رغم كل ما قدمه من تضحية وجهد شخصي، لا يزال يحمل في قلبه أملًا أن تتبنى إحدى المؤسسات أو الجمعيات هذا المشروع، ليتمكن من توسيعه وتطويره، بما يتناسب مع احتياجات الطلاب المتزايدة، خاصة في ظل استمرار الحصار والحرب.
"رسالتي التعليم، وسأبقى متمسكًا بها، ولو لم أجد من يدعمني، فهذا واجبي كمعلم وإنسان يعيش وسط هذا الشعب الصامد"، يقول سلامة وهو يرفع لوحًا خشبيًا رسم عليه الحروف الأبجدية لأحد طلابه الصغار.
قصة فؤاد سلامة ليست حكاية فردية، بل هي صورة صادقة لوجه غزة المضيء رغم الدمار. صورة لمعلم حفر في الصخر، وتخلى عن أبسط مقومات راحته، ليبني جسرًا صغيرًا ينقل عليه أطفال بلده من ظلمة الحرب إلى نور العلم. إنه رسالة أمل لكل الشعوب الحرة أن الحق في التعليم لا توقفه الحروب، ولا تُعطّله قسوة الظروف، طالما هناك من يحمل لواء العلم بصدق وتفانٍ.