عيرا ويرقا… بوابة نصر معركة الكرامة المنسية

mainThumb

19-03-2025 10:26 PM

printIcon

 


سهم محمد العبادي
في فجر الحادي والعشرين من آذار عام 1968، دوّت المدافع، والتحمت البنادق، وتحطمت أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر" تحت أقدام الجنود الأردنيين، ووقفوا في وجه العدو بعزيمتهم التي لا تلين. معركة الكرامة أول انتصار عربي، وأول مرة يتوقف العدو عن التقدم، مدركًا أن حساباته خاطئة، وأن هذه الأرض عصية على الغزاة.
في تلك المعركة المصيرية، كانت عيرا ويرقا نقطة ارتكاز أساسية في المعركة، حيث تمركزت المدفعية السادسة، بقيادة المقدم محمد الحصان ابن معان، وبإشراف من قائد المدفعية العقيد محمد عواد المومني، تمطر العدو بوابلٍ من القذائف التي كبّدته خسائر فادحة. أدرك العدو أنه لن يستطيع مواصلة تقدّمه طالما استمر هذا القصف، فطلب موشيه ديان قصف المدفعية المجنونة كما وصفها في عيرا ويرقا، وأطلق طائراته الحربية، مستهدفًا القضاء على مصدر الإسناد الناري الذي منع قواته من التوغل.
لكن القصف لم يكن كافيًا لكسر إرادة المقاتلين، ولم يكن كافيًا لإبعاد أهل عيرا ويرقا عن دورهم في هذه الملحمة. وحين تعذّرت وصول الإمدادات إلى المدفعية؛ بسبب وعورة التضاريس وقصفها من قبل العدو، حمل الأهالي الذخائر على الدواب، واخترقوا القصف والنيران لإيصالها إلى الجنود. رجال ونساء، يؤدون واجبهم كما لو أنهم جزءٌ من الجيش، بل هم كذلك.
ولم يكن الأمر مجرد دعم، بل كان مشاركة فعلية في المعركة، امتزجت أرواحهم برائحة البارود، وامتدت سواعدهم لتكون جزءًا من هذا النصر الذي صنعوه بأيديهم، وأسالوا ماذا فعل "السمن البلدي" لفوهة المدافع، وكيف تفجرت قذائف طائرات العدو، وتحطمت أحلامهم على "صوان" عيرا ويرقا.

لم تكن أمهاتنا وجداتنا على هامش المعركة، بل كنّ في قلبها. كنّ يعدن الطعام للجنود، فلم يخذل أحدٌ وطنه. فكان النصر هناك يُصنع في ساحات القتال كما يُصنع في البيوت التي تحولت إلى مشاغل دعم وإسناد. ولم يكن هناك فرق بين جنديٍ يحمل البندقية على الجبهة، وامرأةٍ تحمل الزاد إلى المقاتلين، فكلاهما كان يقاتل بطريقته، وكلاهما كان جزءًا من الانتصار الذي حفظ للأردنيين والعرب عزتهم وكرامتهم.
عيرا ويرقا، وكما وصفها أحد الرعيل الأول الأصيل، كانتا "قرى العسكر الشجعان"، حيث تنشأ الفتية على حب الجيش والانتماء إلى الوطن، وحيث كانت البيوت مصانع للرجال الذين نشأوا ليكونوا مقاتلين بالفطرة. فلطالما كانت هذه القرى منبعًا للجنود الذين ارتقوا شهداء على أسوار القدس، وفي شوارع نابلس، وعلى أطراف جنين، وسلام على شاكر العلوان وسالم الصبيحات، وهم يقاتلون تحت راية الجيش الأردني.
دور أبناء عيرا ويرقا في الدفاع عن الأرض لم يكن في الكرامة وحدها، بل امتد إلى ميادين المعارك التي خاضها الجيش العربي الأردني في فلسطين والجولان السوري، فكانوا في معارك 1948، وكانوا في الجيش الأردني بالضفة الغربية، وكانوا على سفوح الجولان في حرب 1973، وارتقوا شهداء في ساحات الشرف والبطولة.
واليوم، كما كان في الأمس، سيبقى مدفع عيرا شاهدًا على بطولات الأرض والأهل، كما ستبقى سارية العلم الأردني في يرقا شاهدة على أن العهد هو العهد، وأن الوفاء ثابت لا يتبدل، وأن الانتماء والولاء لهذا الوطن قد خُلق من ترابه. فلا تبدّله الأيام، ولا تزعزعه العواصف، ولا تنال منه الأهواء، لأن من نبتوا من هذه الأرض، وحملوا ترابها في قلوبهم، لا يعرفون إلا الصدق مع الوطن وقائده، والوفاء للعهد الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم إلى يوم الدين.

ونحن نحيي ذكرى معركة الكرامة، لا نستعيدها كحدثٍ مضى، بل نراها كرسالة مستمرة، تذكّرنا أن النصر لا يُمنح، بل يُنتزع، وأن هذا الوطن لم يُبنَ بالمساومات، بل بدماء الرجال الأوفياء. فالكرامة ليست مجرد يوم في التاريخ، بل هي درس يجب أن يبقى حاضرًا في وجداننا، يذكّرنا أن هذه الأرض لا يحميها إلا من يقاتلون من أجلها، ولا يصونها إلا من يسيرون على درب الشهداء الذين ضحّوا بكل شيء ليبقى الوطن منيعا عزيزًا.

رحم الله شهداء الكرامة، وشهداء الجيش الأردني كافة الذين ارتقوا دفاعًا عن الأردن وفلسطين والجولان، وطوبى لمن حمل البندقية، وطوبى لمن حمل الذخيرة، وطوبى لمن حمل الوطن في قلبه، ولم يفرّط به.
عاشت الكرامة… عاش الجيش العربي الأردني… عاش الأردن… وعاشت فلسطين حرة عربية من البحر إلى النهر.