المهندس معتز العطين
في لحظة فارقة من تاريخ المنطقة، بينما تعيد دول مثل السعودية والإمارات وقطر رسم مستقبلها بخطط عشرية طموحة، يقف الأردن عند مفترق طرق، يراقب التحولات الكبرى من حوله، ويتساءل: إلى أين نمضي؟ كيف نصنع واقعًا اقتصاديًا وتنمويًا أكثر صلابة، بعيدًا عن الحلول المؤقتة والبرامج التقليدية؟ إن التاريخ لا ينتظر المترددين، وإذا لم يكن للأردن رؤية اقتصادية عميقة وخطط تنموية جادة، فإن التحديات لن ترحمه، بل ستجرفه نحو مزيد من الأزمات.
لطالما كان الأردن دولة تملك الإرادة، لكنها تحتاج إلى منهجية مختلفة في التخطيط والتنفيذ. إن نجاح السعودية برؤيتها 2030، والإمارات بسياسات تنموية طويلة المدى، وقطر بتخطيطها الاقتصادي القائم على التنويع والاستثمار في القطاعات المستقبلية، لم يكن مجرد نتيجة لإنفاق مالي ضخم، بل كان ثمرة لالتزام صارم بتغيير أنماط التفكير، والاستثمار في المستقبل بدلًا من البقاء رهينة الأوضاع الراهنة. في الأردن، لدينا الكثير من الاستراتيجيات والخطط، لكن التحدي الأكبر كان دائمًا في التنفيذ والاستمرارية. فكيف يمكننا تجاوز ذلك؟
المبادرات الملكية شكلت على مدار السنوات الماضية عنوانًا رئيسيًا لأي تحديث اقتصادي وتنموي حقيقي في الأردن. من دعم الابتكار والتكنولوجيا إلى تمكين الشباب وتشغيلهم، كانت هذه المبادرات حجر الأساس لتحفيز القطاعات الإنتاجية، وبناء نموذج اقتصادي أكثر استدامة. مبادرات مثل دعم ريادة الأعمال، وتعزيز الاستثمار في التكنولوجيا، ومشاريع الطاقة المتجددة، كلها تشكل نواة يمكن البناء عليها لتأسيس خطة عشرية متكاملة تعكس أولويات الدولة وتحقق الاستقلالية الاقتصادية.
لا يمكن لأي دولة أن تنهض دون رؤية اقتصادية متماسكة تمتد لعقد أو أكثر، تتجاوز الحكومات المتعاقبة، وتُبنى على أسس علمية وواقعية. المطلوب اليوم هو رؤية اقتصادية تستند إلى تطوير القطاعات الإنتاجية، وتقليل الاعتماد على الديون والمساعدات الخارجية، وتحفيز بيئة الأعمال بطريقة مستدامة. هذه الرؤية يجب أن تكون قابلة للتنفيذ، وليست مجرد وثيقة دعائية. كما هو الحال في الإمارات، حيث وُزِّع الأدوار الاقتصادية بين إماراتها، يمكن للأردن أن يطبق نموذجًا مشابهًا بتعزيز هوية اقتصادية لكل محافظة. يمكن للشمال أن يكون مركزًا للصناعات الغذائية والزراعية الذكية، بينما يركز الوسط على الصناعات التحويلية والتكنولوجيا، ويكون الجنوب محورًا رئيسيًا للتعدين والطاقة المتجددة والسياحة البيئية.
تجربة قطر تقدم مثالًا آخر على أهمية التخطيط الاستراتيجي، حيث نجحت في تحويل اقتصادها من الاعتماد المطلق على الغاز إلى نموذج أكثر تنوعًا، يعتمد على الاستثمارات الدولية، والصناعات المتقدمة، والرياضة كقطاع اقتصادي قوي. استضافة كأس العالم 2022 لم تكن مجرد حدث رياضي، بل كانت مشروعًا تنمويًا متكاملًا عزز البنية التحتية، وشجع الاستثمارات الأجنبية، ورسخ صورة قطر كوجهة اقتصادية عالمية. هذا النوع من التخطيط بعيد المدى هو ما يحتاجه الأردن للخروج من دوامة الحلول المؤقتة.
لا يمكن لأي خطة عشرية أن تنجح دون التركيز على التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي، حيث أصبحت هذه القطاعات عصب النمو العالمي. الأردن لديه كوادر بشرية مؤهلة في مجالات تكنولوجيا المعلومات والريادة والابتكار، لكن ينقصه السياسات الحكومية المحفزة لاستثمار هذه الطاقات محليًا بدلًا من هجرتها للخارج. المبادرات الملكية كانت دائمًا في طليعة الجهود الداعمة لهذه المجالات، من خلال برامج تحفيز الشركات الناشئة، وإطلاق المشاريع التقنية، ودمج الشباب في الاقتصاد الرقمي. هذه المبادرات بحاجة إلى توسيع نطاقها وربطها بسياسات حكومية واضحة تضمن استدامتها وتحقيق نتائج فعلية على أرض الواقع.
أكبر مشكلة تواجه الخطط الأردنية السابقة هي ضعف المتابعة والتنفيذ، وعدم وجود آلية محاسبة واضحة. في التجارب الناجحة مثل رؤية السعودية 2030، هناك مؤشرات أداء دقيقة، ومتابعة دورية، ومساءلة حقيقية لكل جهة مسؤولة عن التنفيذ. يجب أن يتبنى الأردن نموذجًا مماثلًا، بحيث يُعْلَن عن تقدم الخطة بشكل شفاف، ويُحاسب المسؤولون عن أي تقصير أو تأخير. المبادرات الملكية في مجال التشغيل، خاصة من خلال دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، تمثل نموذجًا يمكن البناء عليه لتطوير سياسات تشغيل أكثر كفاءة، تركز على تمكين الشباب عبر تأهيلهم للوظائف المستقبلية، وليس فقط توفير فرص عمل تقليدية قد لا تتماشى مع التحولات الاقتصادية العالمية.
لا يمكن للدولة أن تفعل كل شيء وحدها. يجب إشراك القطاع الخاص بفعالية، ليس فقط من خلال تسهيلات استثمارية، بل عبر خلق شراكات استراتيجية تساهم في تحقيق الأهداف التنموية. الأردن لديه إمكانيات كبيرة في هذا المجال، لكنه يحتاج إلى إصلاحات قانونية وإدارية تجعله أكثر جذبًا للاستثمار المحلي والأجنبي. في الماضي، شهد الأردن العديد من الاستراتيجيات التنموية التي ظلت حبرًا على ورق، بسبب عدم وجود التزام حقيقي بالتنفيذ، أو بسبب تغير الحكومات دون الاستمرار على نهج واحد. في المقابل، نجد أن الدول التي حققت نجاحات في خططها التنموية لم تغير مسارها مع تغير الحكومات، بل كانت هناك استمرارية، ومؤسسات تُشرف على التنفيذ بعيدًا عن التقلبات السياسية.
كل ذلك حتى يتم وفق استراتيجية واضحة ورؤية طموحة يتطلب أن نعيد ترتيب أوراقنا الداخلية، ونحتاج استدارة وبرغماتية وطنية نصيغ من خلالها مشروع وطني عنوانه التنمية ومحركاته الإنتاج الوطني ومساره السياسي أكثر وضوحاً ونضجاً دون ارتباطات خارجية، وإذا حصلت من أي طيف سياسي يجب نبذه وإعلان الخصومة الوطنية معه، اجتماعياً نحتاج إلى إعادة بث روح المسؤولية الوطنية وتعزيز الهوية والتأكيد على الثوابت لتصبح محرمات يمنع الاقتراب منها، الإقليم يمر بمرحلة صعبة وتاريخية ونحن في أمس الحاجة إلى رص الصف الوطني كما نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لتقديم نموذج وطني تنموي واقتصادي وسياسي تصيغه الناس من عمق معاناتها وكما نحتاج إلى قدوة حسنة تؤمن بالأردن وطناً ودولة تدير المؤسسات بحصافة وإخلاص، ونحتاج مع ذلك مشاريع تنموية تعبر البلاد ورأس مالها رأس المال الوطني وعقول الأردنيين وسواعدهم، نريد إعادة رسم المشهد بما يليق برؤية القيادة وعزم الأردنيين وصبرهم، ونريد أيضا أن نعزز الروح الوطنية دون مواربة أو تخاذل، هذا الوطن لا مجال للتخاذل في الدفاع عنه وحمايته ومراكمة إنجازاته ليبقى شامخاً بشعبه وقيادته ومؤسساته الوطنية التي نعتز بها كمنجز تاريخي للأردن والأردنيين.
الأردن ليس دولة فقيرة، لكنه يحتاج إلى فكر اقتصادي مختلف، يقوم على استثمار موارده البشرية والطبيعية بكفاءة، ويرسم مسارًا واضحًا للنمو المستدام. المنطقة تتغير بسرعة، وإذا لم يتحرك الأردن بخطة جدية وعملية، فإنه سيجد نفسه متأخرًا عن الركب. لدينا كل المقومات لنصنع واقعًا اقتصاديًا أكثر صلابة، لكن النجاح يتطلب ورؤية واضحة، وآليات تنفيذ لا تعرف التراخي أو التسويف. نحن أمام لحظة تاريخية، فإما أن نصنع المستقبل بأيدينا، أو نظل أسرى للظروف التي يصنعها الآخرون.