بقلم: أ.د. خالد واصف الوزني
أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
نظَّم مكتب مركز كارنغي للشرق الأوسط في بيروت ندوة حول رهانات البيانات وعملية التنمية في العالم العربي، بمشاركة عدد من المختصين في المنطقة، كانت مشاركتي فيها للإجابة عن تساؤلين: أحدهما حول انعكاس فجوة البيانات على صياغة سياسات اقتصادية وتنموية، والآخر حول دور التحوُّل الرقمي والثروة الرقمية في القدرة على صناعة القرار الاقتصادي.
أمّا فجوة البيانات ودورها فقد أظهرت الدراسات والأبحاث والتطبيقات العملية حول العالم أنَّ فجوة البيانات تؤثِّر في محاور خمسة في مجال صناعة السياسات الاقتصادية والتنموية: الأول محور القدرة على التنبُّؤ والتخطيط السليم، والثاني محور كفاءة تخصيص الموارد، ثمَّ محور تقييم أثر السياسات، ومحور مستوى الثقة بين الحكومات والقطاع الخاص، وأخيراً وليس آخراً، محور تجسير فجوات التنمية المحلية بين مناطق الدولة الواحدة. والنتيجة الحتمية لكلِّ ذلك هو أنَّ رهان البيانات، المتمثّل بتوافرها وجودة استخدامها، هو المحدِّد الأساس في نجاح سياسات التنمية الاقتصادية، بل وفي تفاوت مستويات التنمية بين الدول، وخاصة في مجال التخطيط والتنبُّؤ التنموي واستشراف المستقبل، أو في مجال الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية، أو في مجال تجسير الفجوة التنموية بين المناطق في الدولة الواحدة، أو في مجال جذب الاستثمارات، وصولاً إلى التأثير الاقتصادي الفعّال للسياسات الاقتصادية.
ذلك أنَّ توافر البيانات النوعية الدقيقة في المحاور الخمسة سابقة الذكر هو السبيل الناجع لتحقيق تنمية اقتصادية، وهو ما يفسِّر الفجوة بين الدول التي تستخدم قواعد البيانات الكبرى، وتعتمد الرقمنة والتطبيقات الذكية في استشراف المستقبل للوصول إلى أهدافها التنموية.
اقتصاد البيانات، كما يمكن تسميته، بات المحدِّد الرئيس لاستغلال واستثمار القدرات الحقيقية الكامنة للدول. ذلك أنَّ عالم البيانات، في علم الاقتصاد، هو المحدِّد الرئيس لقيام صنّاع القرار باتخاذ القرارات الاقتصادية الناجعة في المحاور الخمسة. بيد أنَّ ضعف توافر البيانات، أو حتى عدم جودة البيانات المتوافرة، أو فقر مصادر البيانات، جميعها يؤدّي بالضرورة إلى تفاوت مستويات التنمية بين الدول، فلن يستوي الذين يعلمون والذي لا يعلمون بالتأكيد. كما أنَّ فقر البيانات، أو ضعف جودتها، هو من تحديات الشفافية والنزاهة في دول العالم، وهو مُنفِّر للشراكة بين القطاعين، ذلك أنَّ قرارات الاستثمار الجاد تقوم على الشفافية والنزاهة وصدق توافر البيانات.
من جهة أخرى، يشكِّل عدم توافر البيانات وضعف جودتها بيئة خصبة لعمل وانتشار ما يُعرَف بالاقتصاد غير الرسمي، وهو قطاع بات يصل إلى ما يزيد على 30% في بعض الاقتصادات. الشاهد ممّا سبق، تُعَدُّ محدودية توافر البيانات، أو عدم جودتها أهمَّ تحديات ومحدِّدات قدرات الدول على استخدام التقنيات، أو تطوير استخدامات الذكاء الاصطناعي، أو حتى التحوُّل الرقمي المناسب، لمواكبة التطورات العالمية واستشراف المستقبل وصولاً إلى بيئة استثمارية محفِّزة وحقيقية.
ومن هنا، فإنَّ أهمَّ سُبُل تحسين جودة البيانات يتطلَّب بالضرورة تعزيز قدرات مؤسسات الإحصاء الوطنية، وتعزيز مستوى الشفافية في توفير البيانات، وتحسين مستوى جمع البيانات وقنوات جمعها، وتعزيز مستوى التعاون مع الجهات الدولية، وبين الدول ذات الإقليم الواحد. كلُّ ذلك هو سبيل حقيقي نحو تطوير استخدام الذكاء الاصطناعي، وتحقيق مستوى تنموي يكافِئ القدرات الحقيقية للدولة، والموارد الكامنة لديها، ويسمح بزيادة مستوى الثقة بالاقتصاد الوطني من قِبَل المستثمرين والشركاء التجاريين.
فجوة توافر البيانات، ومستوى جودتها، يشكِّلان تحدياً كبيراً أمام صُنع سياسات اقتصادية وتنموية فعّالة في المنطقة العربية. وبينما هناك تقدُّم في بعض الدول العربية، إلا أنه لا تزال هناك حاجة ماسَّة إلى تعزيز دقة البيانات، وتحسين منافذ الوصول إليها وشفافيتها، وتوظيف التقنيات الحديثة لضمان قرارات أكثر استناداً إلى الأدلة، ما يُسهم في تحقيق تنمية أكثر استدامة عربياً.