سهم محمد العبادي
قديماً، حين كان الموت يأتي، كانت البلدة كلها تموت معه. فلم يكن بيت الفقيد وحده المكلوم، بل كانت الحارة بأكملها تسقط في حداد طويل، كأن جزءًا منها قد انكسر ولن يلتئم أبدًا.
كان خبر الوفاة ينتشر قبل أن يُقال، كان الوجع يسبق الناعي، كانت الأبواب تُفتح دون استئذان، والجميع يركض إلى بيت الفقيد دون دعوة، دون اتصال، دون موعد، فالموت لم يكن يحتاج إلى بروتوكولات!
على أبواب البيت، كان الرجال يتوافدون، رؤوسهم مغطاة بالشماغ الأحمر، لكنّ بعضهم كان ينزع عقاله احترامًا للميت، يطأطئ رأسه، يطق "اللصمة" الحزينة، ولا يكاد يرفع عينيه عن الأرض من شدة الحزن. ودموعهم تسيل بصمت، وبعضهم يمسحها بطرف شماغه، ويضرب يمينه بشماله، وبعضهم يشيح بوجهه بعيدًا كي لا يراه أحد وهو يبكي، لأن الرجال وقتها لم يكونوا يدفنون مشاعرهم، كانوا يبكون فقيدهم كما تبكي الرجال الرجال!
داخل البيت، كان البكاء يملأ الأرجاء، لم يكن هناك فصل بين الأهل والجيران، لم يكن هناك "مجاملة" في الحزن، كل من في العزاء كان يبكي بحرقة، يشعر أن الموت اقترب منه، أن الدور قد يأتي عليه يومًا. أما النساء يجلسن على الأرض، عيونهن غارقة في الدموع، والرجال في الخارج يرفعون أيديهم إلى السماء، يدعون للميت كأنهم يودّعون قطعةً من أرواحهم.
لم يكن هناك أحاديث أخرى، لم يكن هناك مواضيع جانبية، لم يكن هناك من يجرؤ على كسر هيبة الموت بضحكة أو همسة خارج السياق.
كان العزاء يمتد لأيام، كانت المجالس تغلق، الأسواق تصمت، الشوارع تتشح بالحزن، لم يكن الموت يمرّ مرور الكرام، بل كان زلزالًا يهزّ النفوس، يذكّر الجميع أن الحياة ليست أكثر من عبور قصير نحو الحفرة! ولا يموت ذكر الميت بين الجميع.
لكن، يا حسرة على زمان تغيّر…!
اليوم، دخلتُ قبل فترة أحد بيوت العزاء، لكنني لم أشعر بالموت. لا وجوه باكية، لا رهبة، لا مشهد يشبه الحزن الحقيقي، بل وجوه مستبشرة، وأحاديث جانبية، ومجاملات مكررة!
على الباب، وقف بعض الرجال يتسامرون، يضحكون بخفّة، يصافحون بعضهم كأنهم في لقاءٍ عابر. دخلتُ وجلست، فشعرتُ بأنفاس أحدهم خلفي، التفتُّ فإذا بي أجد امرأةً تجلس ظهرًا لظهري، كأننا في باص نقل عام، لا مجلس عزاء!
لم يطل انتظاري حتى بدأ المشهد يتكشف أكثر…
مصافحات بلا تمييز، عناقٌ بين القريب والبعيد، بين الرجل وتلك التي "مجرد معرفة"!
ضحك في الزوايا، حديث عن سعر العملات، عن السفر، عن "وينك مختفي؟ والله زمان عنك!"، وكأن الميت لم يكن هنا قبل ساعات… كأن الموت صار مجرد خبر عابر، لا يعني أحدًا!
بحثت عن العزاء… فلم أجد عزاءً!
بحثت عن الحزن… فلم أجد حزنًا!
بحثت عن لحظة صمت… فلم أجد صمتًا!
قبل أن أغادر، سمعت شيخًا عجوزًا يقول بحسرة:
"يا ابني، كان الناس يجتمعون ليبكوا الراحل، واليوم يجتمعون ليضحكوا على أنفسهم!" فأجبته حج الله يطول عمرك يبدو أنني دخلت مكاناً بالغلط خليني أروح قبل أن يأتي المطرب وفرقته، فكانت ابتسامته أصدق من الحضور كله.
رحم الله زمنًا… كان الموت فيه موتًا، والحزن فيه حزنًا، والعزاء فيه عزاء! قبل أن يصبح العزاء مكس أو حبل مودع.
وفعلا البقية بحياتكم