الصحافة. تلك المهنة التي سميت بمسميات عدة، فمنهم من أسماها "صاحبة الجلالة"، ومنهم من أسماها "السلطة الرابعة"، كونها تعمل على مراقبة عمل السلطات الثلاث؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية، وغيرها من المسميات التي تعبر عن الدور الذي يلعبه الصحافي في البحث عن الحقائق، والكشف عن مكامن الخلل، والفساد، ومحاربته، بسيف الرأي العام أولاً، والقانون ثانياً.
لكن حرية الصحافي في ممارسته لمهنته - التي تندرج في إطار حرية الرأي والتعبير - والمنصوص عليها في الدستور، والعهود، والمواثيق الدولية، ليست "منفلتة" من كل قيد أو شرط، بل يجب على الصحافي وهو يمارس مهنته أن يلتزم بالقوانين، والقواعد العامة المرعية في المجتمع، فلا يخرج على هذه القوانين والقواعد، وبالمقابل يجب أن لا تقيد هذه القوانين لحق الصحافي في أداء مهنته، أو نقل رسالته؛ فالصحافة رسالة ومسؤولية قبل أن تكون مهنة بحد ذاتها.
ومن هنا فإن ذلك يعني ضرورة وجود توازن بين الحرية الصحافية والمسؤولية المهنية التي يجب أن يتمتع بها الصحافي؛ فلا تقييد لحريته ولا خروج من قبله على القواعد القانونية التي تنظم المهنة الصحافية، وتضبط طريقة عمله؛ حتى لا يختل المجتمع، وتصبح الصحافة في النهاية مدعاة للفوضى وخروجاً على الرأي العام والنظام العام والقانون.
في الأردن، يتعلق بالعمل الصحافي 30 قانوناً سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، منها ما يعتبر قيوداً على حرية الصحافي في ممارسته لعمله، ومنها ما يعتبر تنظيماً لأداء المهنة الصحافية فحسب؛ لكن كان بالإمكان اختصار هذه القوانين في قانون واحد أو قانونين ينظمان العمل الصحافي بصورته المثلى من خلال الموازنة بين الحرية والمسؤولية؛ أي الموازنة بين كشف الخلل، وعدم الخروج على القانون أو النظام العام.
إن الحرية الصحافية، تعد من أبرز حقوق الإنسان، كونها تندرج ضمن حرية الرأي والتعبير، وقد وردت في الأساس في الشرائع السماوية، ثم نصت عليها الدساتير الوضعية للدول، وكذلك العهود والمواثيق الدولية، لكن هذا النص لم يأت مطلقاً؛ فقد قيدتها الشرائع بمجموعة من الضوابط التي تستهدف حماية النظام العام، وكذلك الدساتير الوضعية على اختلافها، والتي قيدت الحرية الصحافية بنصوص القانون، فخلقت حالة من الموازنة بين الحرية الصحافية من جهة والمسؤولية المهنية من جهة أخرى.
وهو ما سارت عليها أيضاً العهود والمواثيق الدولية التي منعت الخروج على القواعد القانونية في القوانين والوضعية من خلال الممارسات الصحافية؛ فلا يجوز أن يتعدى الصحافيون والإعلاميون على القانون بداعي الحرية الصحافية.
وبالرجوع إلى أحكام الدستور الأردني؛ نجد أن المشرع الدستوري الأردني نص على هذا المعنى في الفقرة الأولى من المادة 15 من الدستور والتي جاء فيها "تكفل الدولة حرية الرأي، ولكل أردني أن يعرب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير بشرط أن لا يتجاوز حدود القانون".
وبالرجوع إلى نصوص الدستور الأردني يلاحظ أن الدستور ربط هذه الحرية وقيدها بعدم تجاوز حدود القانون وعدم الخروج عليه؛ بمعنى أن المشرع الأردني أراد تنظيم هذا الحق بموجب قوانين تصدرها السلطة التشريعية.
إن إطلاق حرية الرأي والتعبير وتركها دون تقييدها بالقانون يمكن أن يخلق حالة من الفوضى وينذر بانهيار الدولة، فمتى أبيح لشخص التعبير عن رأيه دون التقيد بقانون فقد يدفعه ذلك إلى التعبير عن رأيه بأسلوب يتضمن ذماً وقدحاً لآخرين، كما قد يؤدي إلى القيام بأعمال تخريبية والتذرع بممارسة حق التعبير عن الرأي بحرية ما يؤدي بالتالي إلى خلق حالة من الفوضى تهدد كيان الدولة.
إذن، ولمواجهة هذا التخريب وهذا الدمار الذي يمكن أن يخلقه إطلاق الحرية بدون قيد أو شرط، فلا بد من أن يكون القانون هو الحد الفاصل في الموازنة ما بين الحرية الصحافية، والمسؤولية المهنية، حماية للنظام العام في الدولة، والحفاظ على المجتمع كذلك.
ويلاحظ أن تنظيم الحقوق والحريات بموجب الدستور الأردني، الذي نص في الفصل الثاني من المواد (5 ــ 23) على الأحكام القانونية المتعلقة بحقوق الأردنيين وواجباتهم، جاء تنظيما شاملا وواضحا ودقيقا وقرر لها الضمانات والكفالات التي تحقق ممارستها.
أما على النطاق الدولي، وبالعودة إلى نص المادة 19 من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 فقد نصت هذه المادة في فقرتها الثالثة على أنه "تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة الثانية من ذات المعنى واجبات ومسؤولية خاصة، وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ..."؛ بمعنى أن هذه المادة لم تأت خالية من كل قيد أو شرط بل حددت حرية الرأي والتعبير بإمكانية إخضاعها لمجموعة من القيود القانونية.
كما أكد على ذلك التعليق العام رقم 10 لسنة 1982 للجنة حقوق الإنسان في دورتها التاسعة؛ حيث جاء فيه "وتؤكد الفقرة الثالثة صراحة على أن ممارسة حق التقييد يستتبعه واجبات ومسؤوليات خاصة، وعلى هذا يجوز إخضاع هذا الحق لبعض القيود التي قد تتصل إما بمصالح أشخاص آخرين أو بمصلحة المجتمع ككل".
والحرية الصحافية بهذا المعنى؛ هي حرية عامة متاحة لجميع البشر ولا يقتصر مداها على الصحافيين ومؤسسات الإعلام والمشتغلين بها وإن كانوا أكثر المحتاجين إليها من غيرهم من الناس لارتباط هذا الحق بمقتضيات مهنتهم.
وبالتالي ومن كل ما تقدم نجد أن الحرية الصحافية – كجزء من حرية الرأي والتعبير – يجب أن تكون مصونة، ومحمية وللصحافي، كما للمواطن أن يمارسها بكل حرية ومن دون قيود؛ سوى القيود التي يفرضها القانون حماية للمجتمع، وأمنه ونظامه العام، ما يقتضي الموازنة بين المسؤولية المهنية من جهة، والحرية الصحافية من جهة أخرى.
إن على الصحافي أن ينقل الحقيقة كما هي من دون تهويل أو كذب أو افتراء أو خروج على القانون، مستهدفاً بذلك تدمير المجتمع والخروج على النظام العام والأخلاق والآداب العامة أو إثارة الفتن والنعرات العنصرية والطائفية، متحرياً الدقة، والموضوعية، والمهنية العالية، وهو ما نصت عليه ليست القوانين المتعلقة بالعمل الإعلامي فحسب بل مواثيق الشرف الصحافي، ومن ذلك ميثاق الشرف الصحافي الذي أقرته الهيئة العامة لنقابة الصحافيين الأردنيين عام 2003، والتي ألزمت الصحافي بالتحقق من الأخبار قبل نشرها، والابتعاد عن الأساليب الملتوية، وغير المشروعة في الحصول على المعلومات، والأخبار.
كما نصت المادة 40 من قانون المطبوعات والنشر الأردني رقم 27 لسنة 2007 على أنه "يحظر على مالك أي مطبوعة صحافية أو رئيس التحرير أو مدير التحرير وأي صحافي عامل بها وأي كاتب اعتاد الكتابة فيها أن يتلقى أو يقبل بحكم ملكيته لتلك المطبوعة أو ارتباطه أو علاقته بها أي معونة أو هبة مالية من أي جهة أردنية أو غير أردنية"، كما يتوجب على الصحافيين التأكد من أن المعلومات التي لديهم لا تخدم أهدافاً شخصية، وكذلك عدم استخدام الصحافيين للمعلومات المالية التي يحصلون عليها قبل نشرها طمعا في كسب خاص.
وقد أورد قانون المطبوعات والنشر الأردني نصاً صريحاً في ذلك، وفقا للمادة 7 منه، والتي نصت على ضرورة الالتزام بالأخلاقيات والآداب التي يجب أن يلتزم بها الصحافي ولا تشكل خروجاً على أخلاقيات المجتمع وأدابه.
ويلتزم الصحافيون أيضاً بالابتعاد عن الإثارة في نشر هذه الجرائم والفضائح وتجنب الألفاظ البذيئة والنابية، وعدم تشجيع ونشر أخبار المشعوذين والدجالين في القضايا الروحية والطبية، وعدم تركيب الصور للأفراد أو استخدام الصور المركبة لهم والتي تحط من قيمتهم أو تشوه سمعتهم وعدم اللجوء إلى المبالغة في تغطية وكتابة أو تحريف البيانات التي يتلقونها أو إحداث تغيير في الوثائق التي تصل إليهم، ولزيادة مصداقيتهم عليهم الاستعانة بالوثائق والمنشورات الرسمية واللجوء إلى مصادر متعددة وإجراء اللقاءات مع الأشخاص المعنيين مباشرة واستخدام التسجيل إذا لزم الأمر، ولسنا هنا في معرض استعراض النصوص فهي كثيرة ولا يمكن حصرها، لا سيما وأنها تتوزع – كما أشرت – على أكثر من 30 قانوناً.
ختاماً، ويمكن القول في إطار المواءمة بين الحرية الصحافية والحقوق المقررة للصحافيين، إن صياغات الدول العربية للدساتير، اعتبرت أن القانون هو المرجعية في إعمال الحق وليس الدستور، وهو ما نص عليه المشرع الدستوري الأردني من خلال عبارات "في حدود القانون" وغيرها من العبارات التي تلزم باحترام القانون، لكن القانون نفسه جعل المسؤولية الصحافية غير واضحة المعالم فقيدها أحيانا وأطلقها أحيانا أخرى من دون تنظيم محدد وواضح للمهنة.