يخطئ من يعتقد أنَّ إيجاد وظائف في سوق العمل اليوم وفي المستقبل القريب يعتمد على السياسات التقليدية القائمة حالياً، والتي تدور حول محاولة استيعاب القادمين الجدد، وعلى التفكير في إحلال العمالة الوطنية، أو على البحث عن تصدير العمالة المحلية العاطلة عن العمل، وبشكلها الحالي من حيث المهارات والمؤهلات.
ذلك أنَّ العالم يمرُّ بمرحلة مختلفة تماماً في مجال متطلّبات العمل وسوق الوظائف، وطبيعة التشغيل، والمهارات المطلوبة، وحتى نوعية العنصر البشري المؤهل للعمل.
ويكفي أن يعلم صنّاع القرار في مجال سياسات الموارد البشرية وسوق العمل أنَّ العالم مقبلٌ على إلغاء ما يزيد على 85 مليون وظيفة بين اليوم وعام 2025، ما يعني أنَّ البطالة القائمة اليوم والبالغة نحو 205 ملايين عاطل عن العمل حول العالم، سترتفع بنسبة لا تقل عن 40%، ليس نتيجة تدفق القادمين الجدد إلى سوق العمل، بل من تعطّل العاملين حالياً بوظائف ستُلغَى بفعل تطوُّر هيكل سوق العمل وكيفية أدائه، في ظل التطوُّرات الكبيرة التي يقدِّمها الذكاء الاصطناعي، وفي مجالات عديدة في سوق العمل الحالي. وقد أظهرت المؤشرات العالمية، وخاصة بين العامين 2020-2021، وفي خضم جائحة كورونا، أنه في ظلِّ تطورات الذكاء الاصطناعي فإنَّ نحو 10% من القوى العاملة في العالم، أي ما يقرب من 375 مليون موظف، سيحتاجون إلى تدريب وتأهيل إضافي للبقاء في وظائفهم؛ لأنَّ نحو 40% من الوظائف حول العالم باتت تستخدم الذكاء الاصطناعي، وأنَّ 42% من الوظائف حول العالم ستتغيَّر طبيعة تأديتها اعتباراً من العام الحالي، وقد يؤدي ذلك إلى فقدان بين 10 و20% من العاملين وظائفهم لصالح الذكاء الاصطناعي، أي في ظلِّ قوى عاملة عالمية تصل إلى نحو 3.3 مليارات عامل، فإنَّ نحو 600 مليون عامل يواجهون تحدي فقدان الوظائف، ما لم يتم إعادة تأهيلهم، أو إكسابهم مهارات جديدة تؤهِّلهم لوظائف مختلفة، أو تجعلهم قادرين على تأدية وظائفهم الحالية بطريقة مختلفة تتناسب ودخول تقنيات الذكاء الاصطناعي عليها، وذلك خلال السنوات الثلاث المقبلة.
الشاهد أنَّ سوق العمل، وطبيعة العمل، ونوعية المهارات المطلوبة، ومكان العمل جميعها ستختلف قبل نهاية العقد الحالي من هذا القرن، ما يضع صنّاع القرار أمام تحديين أساسيين؛ الأول تحدي استيعاب وتوظيف القادمين الجدد إلى سوق العمل، والثاني تحدي الحفاظ على القوى العاملة الحالية في وظائفها لكي لا تنضمَّ إلى صفوف البطالة والتعطل. بيد أنَّ المَخرَج الواضح والحقيقي أمام صنّاع القرار هو أنَّ الذكاء الاصطناعي الذي سيؤدي إلى إلغاء 85 مليون وظيفة سيعمل في الوقت ذاته على إدخال 97 مليون وظيفة إلى سوق العمل بمهارات ومتطلبات تأهيلية تُحتِّم على الداخلين في سوق العمل، أو العاملين فيه اليوم، ضرورة اكتسابها.
ما يعني أنَّ المخطِّطين لسوق العمل في دول العالم مطالَبين اليوم بالعمل على تسليح القوى العاملة الجديدة والقائمة بمهارات جديدة، ليتمكَّنوا من البقاء أو حتى الدخول والمساهمة في سوق العمل. وخلافاً لذلك فهُم في صفوف البطالة المستقبلية، أو في صفوف العمل في مجالات لا تتناسب وما تكبَّدوه من وقت ومال للحصول على شهادات غير مناسبة لسوق العمل المستقبلي.
الوظائف الحالية والمستقبلية باتت تتطلَّب ثلاث مهارات أساسية، لا يمكن بغيرها دخول سوق العمل بكفاءة واقتدار، وهذه المهارات هي اللغات الأجنبية الأكثر استخداماً في تطوير التقنيات، والرقمنة وعلوم البيانات، والاتصال والتواصل. وكلُّ من لا يمتلك تلك المهارات يعدُّ ضمن صفوف الأمية العماليّة بحلول عام 2025.
على صنّاع القرار في مجال التوظيف وفي مجال التعليم والتأهيل المهني وبكل المستويات أن يقرِّروا اليوم ما إذا كانوا سيخرِّجون طاقات بشرية ضمن 85 مليون وظيفة منحسرة، أم ضمن 97 مليون وظيفة جديدة أو مستحدثة أو مطورة، وجميعها مطلوبة وبشدة.
الوظائف المطلوبة اليوم وفي المستقبل القريب لسوق العمل تتطلَّب من القوى البشرية خمس معارف أساسية في مجالات متداخلة هي: علم صناعة وهندسة البيانات، علوم الذكاء الاصطناعي، هندسة البرمجيات، التدريب والتأهيل ونقل المعرفة، والذكاء العاطفي والمحاكاة الوظيفية والتأهيل والتعليم البشري الرقمي.
في حين تتمحور أهم قطاعات العمل المستقبلي في مجالات عدة أهمها: هندسة البيانات، والأمن السيبراني، وصناعة وتطوير وتعليم آلات الذكاء الاصطناعي، وخدمات التفكير الاستراتيجي التفاعلي، وقطاعات الطاقة المتجددة والبيئة والصحة والسلامة العامة. ولعلَّ أهمَّ ما تتطلَّبه القوى العاملة الحالية والمستقبلية لامتلاك القدرة على مزاحمة الذكاء الاصطناعي على الوظائف، مجموعةً من الممكِّنات تدور حول قدرات تطوير ذاتي تتمحور حول سبعة مجالات أساسية: التفكير الاستراتيجي المتقدم، إدارة التغيير في عصر الرقمنة، مهارات ثقافة الاتصال والتواصل، الابتكار والريادة، تحليل البيانات وتصميمها، تكنولوجيا المعلومات والتقانة المتقدمة، ومهارات التفكير الناقد والتفكير خارج الصندوق.
سوق العمل يمرُّ اليوم بإرهاصات تطوُّرية متسارعة بمتوالية هندسية شديدة التطوُّر، وهو أمر يحتِّم علينا النظر في إعادة التفكير كلياً بسياسات توظيف القوى البشرية حول العالم.
فلم تعد المشكلة في إحلال العمالة الوطنية مقابل العمالة الوافدة، فتلك أبسط التحديات، بيد أنَّ التحدي الأكبر يتمثَّل في الاحتفاظ بالقوى العاملة في سوق العمل والحفاظ عليها من إحلال الذكاء الاصطناعي مكانها، هذا من جهة، وفي استيعاب القادمين الجدد إلى سوق العمل بمؤهلاتهم ومهاراتهم الحالية، من جهة أخرى، وكلا الأمرين لن يكون سهلاً ما لم تنتهج الجهات الرسمية المسؤولة عن سوق العمل والموارد البشرية مقاربات مختلفة تماماً عمّا تقوم به من دور تقليدي اليوم.
هناك حاجة إلى سياسات آنية ومستقبلية تؤدي إلى إعادة النظر في تأهيل الأجيال الجديدة منذ الصفوف الأولى في التعليم، والتأهيل المهني، وتعمل في الوقت نفسه على صياغة سياسات تدريب وتأهيل وإكساب مهارات جديدة وتحويلية للقوى العاملة الحالية، وخاصة المجالات والوظائف التي ستشهد مزاحمة كاملة من قِبَل الذكاء الاصطناعي والتي تكاد تغطي نحو 40% من الوظائف الحالية، وتمس نحو 85 مليون وظيفة قائمة، وخاصة لدى الجهاز الرسمي والحكومات حول العالم، حيث تشير الإحصاءات العالمية إلى أنَّ ما بين 40 و50% من القوى العاملة في الجهاز الحكومي عالمياً تحتاج إلى برامج إعادة تأهيل وتدريب تجعلهم يتمكَّنون من التعامل مع التطوُّرات الكبيرة في مجالات عملهم، وذلك بسبب دخول عصر التقنيات الحديثة من تطبيقات ذكية، وميتافيرس، وذكاء اصطناعي، وفضاءات العمل الرقمي المتقدّم.
khwazani@gmail.com