سهم محمد العبادي
رحل أبوي، لكنّي ما زلت أبحث عنه في كلّ مكان… في البيت، في العرقوب وفي الطرقات، في الزوايا التي اعتاد الجلوس فيها، في صوته الذي كان يملأ الدنيا، ولا يزال يرنّ في أذني كأنه لم يغب لحظة.
حتى اليوم، لا أستطيع أن أمرّ أمام خزانته، دون أن أفتحها… دون أن أمدّ يدي إلى الجاكيت الذي كان يرتديه، أقبّله كأنني أقبّل يده، وأستعيد لحظاتٍ كانت فيها الدنيا أكثر أمانًا. حتى اليوم، ما زالت رائحة أبي تعبق في ثيابه، وما زلت أبحث عنها في كل شيء، وكأنني بذلك أتمسّك ببقاياه التي رفضت الرحيل معي، ولن ترحل.
أبو سهم العرمرم لم يكن مجرّد أب، كان الميزان الذي نقيس به الأمور… حتى اليوم، حين أتحدّث أو أتصرف، أقف للحظة وأسأل نفسي: "هل يرضي أبوي؟ هل كان سيغضب؟" فأعرف طريقي دون الحاجة إلى فتوى أو نصيحة. فلم يكن يعظنا بالكلام، كان يعظنا بالمواقف، بالصمت الحكيم، بالنظرة التي تحمل مئات الكلمات، دون أن ينطق بحرف، ونعرف ما يريد، كان القائد وكان المعلم.
أبوي لم يكن يخاف على نفسه، بل علينا… لم يكن يرفع صوته إلا عندما يرى انحرافًا عن الطريق المستقيم، وكان يبتسم في الرضا كأنما الدنيا كلها اتّزنت وعادت إلى مكانها الصحيح.
في القدس، كان كتيبة جيش. في الكرامة، كان مقاتلًا. في فلسطين، كان يخدم كأنّه خُلق لهذا الدور، ولم يكن ينتظر شكرًا أو تصفيقًا.
كان يعرف أن الرجال الحقيقيين لا يسعون إلى المجد، بل يصنعونه. وكان يؤمن أن الأرض لا تحررها الشعارات، بل السواعد، وكان يرى أن حبّ الوطن ليس أغنيةً تُغنّى، بل جرحًا يُنزف في سبيله، وكان يقول من لا يحب فلسطين ليس من الملة، والأردن فداه كل الكون.
ورغم رحيله… ما زال أبوي هنا.
ما زال في كل لحظة صِلة رحم أُحافظ عليها، في كل مجلس عائلة أستعيد فيه اسمه، في كل مناسبة أرفع فيها رأسي وأقول: "أنا ابن فلان"، في كل موقف أتصرف فيه كما علمني، وكلما أقبلت بين الجمع كان ترحيبهم لنا "يرحم أبوكم"، لذلك رفضت أن يكون أبي مجرّد ذكرى عابرة، رفضت أن يكون اسمه مجرد اسمٍ على شاهدة قبر، فأنا أحمله في صدري كما لو كان يعيش بداخلي، وهو فعلا يعيش معي، واراه وأشعر به.
لكنّي والله لم أنسَ ذلك اليوم…
لم أنسَ آخر نظرة، آخر وداع، آخر مرة رأيت فيها وجهك الطيب. لم أنسَ حين قبّلت جبينك للمرة الأخيرة، ولم أنسَ تلك القبلة التي ما زالت تحرق قلبي حتى اليوم… تلك التي وضعتها على قدمك عند آخر شبيحةٍ لك في القبر، تلك التي شعرت بها وكأنني أضع آخر ما تبقى مني هناك معك. فلم تكن قبلة وداعٍ فقط، كانت قبلة انكسار، قبلة حبٍّ متأخّر، قبلة عجز، قبلة رجلٍ فقد نصف روحه ولم يستطع أن يقول شيئًا سوى أن يطبع شفتيه على قدم والده، وكانت قبلة عهد أيضا.
يا الله… ما أقساها من لحظة، وما أقسى هذا الفقد…
اللهم صلّ على سيدنا محمد، أبوي سيبقى فينا ما حيينا، في تفاصيلنا، في ذكرياتنا، في كل نبضة قلب، وفي كل رمشة عين، في كل بيت من بيوت أهله في عيرا ويرقا. وإني والله أشتاق إليه أكثر من اشتياقي إلى أي شيء على وجه هذا الكوكب، أشتاق إليه أكثر من اشتياقي إلى نفسي، أشتاق إليه أكثر من أي شيء كنت أظن أنني لا أستطيع العيش بدونه.
اللهم اجعل قبره روضةً من رياض الجنة، اللهم ارفعه في عليين، اللهم لا تحرمني رؤيته يوم الدين. اللهم إن فقده كان أكبر من أن يتحمله قلبي، فاجبر هذا القلب بما يُرضيه، بلقياه في الجنة، بمغفرتك التي تسعه وتسع كل الآباء الذين رحلوا وتركوا أبناءً لا زالوا يبكونهم كل ليلة.
رحمك الله "يابوي" وأسكنك فسيح جناته.