سهم محمد العبادي
أذكر أول مرة جلستُ في محاضرتها، لم يكن الأمر مجرد حضور اعتيادي لمادة جامعية، بل كان أشبه بفتح نافذة جديدة على العالم. لم تكن تقرأ من ورقة، ولم تكرر ما كُتب في الكتب، بل كانت تروي، تحلل، تناقش، تقنع، تثير التساؤلات أكثر مما تقدم الإجابات. كانت قاعة المحاضرات بالنسبة لها ليست مكانًا للإلقاء، بل ورشة لصناعة العقول، وكأنها تقول لكل واحد منا: فكر، لا تحفظ.. تساءل، لا تردد.
اليوم، وأنا أسمع عن تكريم جامعة الشرق الأوسط للدكتورة حنان الشيخ، شعرت أن هذا ليس مجرد خبر أكاديمي، بل هو لحظة اعتراف بعطاء لم يتوقف، بظل شجرة امتد ليغطي أجيالًا، بإرث لن يمحوه الزمن.
لم تكن فقط أستاذة جامعية، بل كانت عميدة كلية الإعلام، وإحدى الشخصيات التي تركت بصمة لا تُمحى في مسيرة الكلية. لم تكن تمارس دور العميد بالمفهوم الإداري الجاف، بل كانت حاضرة بين الطلبة، قريبة منهم، تتحدث إليهم لا معهم، تسأل عن تطلعاتهم، تستمع إلى أفكارهم، وتمنحهم الأمل في أن الإعلام ليس مجرد مهنة، بل رسالة ومسؤولية.
لكن علاقتها بالطلبة لم تكن فقط داخل قاعة المحاضرات أو ضمن إطار العلم والبحث، بل كانت إنسانية قبل كل شيء. خلال دراستي للماجستير، وفي خضم استعداداتي لمناقشة رسالتي، فقدت والدي رحمه الله، وكنت على وشك أن أترك كل شيء، أن أتوقف، أن أعتذر عن الاستمرار، لكن كانت هي الأخت قبل أن تكون الأستاذة، لم تتركني للوجع وحدي، بل قدمت لي كل الدعم النفسي والمعنوي، ووقفت إلى جانبي حتى يوم المناقشة، حتى اللحظة التي كنت فيها على وشك الانهيار، لكنها كانت هناك، بكلماتها التي منحتني القوة لأكمل، لأقف، لأنجز ما بدأته.
هذا هو الفرق بين أستاذ جامعي يؤدي واجبه، وبين أستاذ يعيش مع طلابه، يحمل همهم، ويكون جزءًا من قصتهم.
اليوم، وهي تُكرّم بحضور رئيس مجلس الأمناء الدكتور يعقوب ناصر الدين، ورئيسة الجامعة الدكتورة سلام المحادين، وعمداء الكليات وأعضاء الهيئة التدريسية، لم يكن هذا مجرد تقليد بروتوكولي، بل كان اعترافًا بأن الناس تمر، لكن الأثر يبقى، والوجوه تتغير، لكن الأسماء التي حفرت مكانها في العقول والقلوب تظل راسخة.
أحيانًا، حين أمرُّ بأحد طلابها أو زملائها، وأسمع حديثهم عنها، أشعر أن حنان الشيخ ليست مجرد أستاذة جامعية، بل فكرة، شغف، مدرسة في حد ذاتها.
التكريم اليوم لم يكن لها وحدها، بل لكل طالب مرّ من أمامها يومًا، واستمع لمحاضراتها، وخرج وهو يفكر بطريقة مختلفة، وهو يشعر أن هناك من فتح له بابًا كان موصدًا في عقله.
ربما تختلف الأماكن، وربما تفصلنا السنوات، لكن بعض الأصوات لا تُنسى، وبعض العطاءات لا تجف، وبعض الأسماء تظل محفورة في الذاكرة. شكراً دكتورة حنان، لأنك كنتِ أكثر من أستاذة، كنتِ نقطة تحول في مسار كثير منا.
وشكرًا لجامعة الشرق الأوسط التي لا تنسى من قدم في صرحها الكبير علمًا ومعرفة، لتثبت أن الوفاء لا يزال حاضراً، وأن من يزرع الخير والعلم، سيحصد التقدير والاحترام دائمًا.