أخبار اليوم - بينما كانت أم عبد الله تعدّ الطعام في المطبخ لأطفالها، اقتربت منها "ولاء"، ابنة الثلاثة أعوام، وهي تحمل هاتفها المحمول في يدها. كانت عيناها تلمعان بالفضول، ثم قالت بصوت بريء: "ماما، مين هاد؟! ليش صورته دايمًا معك؟!".
ابتسمت أم عبد الله غيث (37 عامًا)، والدموع تتلألأ في عينيها، ووضعت يدها على رأس ابنتها الصغيرة، ثم أجابت بصوت منخفض: "هذا أبوكِ باسل، كان يحبكِ كثيرًا، لكنه لم يحظَ بفرصة لرؤيتكِ تكبرين".
أخذت "ولاء" الهاتف بين يديها الصغيرتين، تتأمل الصور التي كانت تظهر والدها في مناسبات مختلفة: صورة له وهو يرتدي زي الصلاة في المسجد، وأخرى في مكان عمله بين الحجارة والرخام، وثالثة وهو يحمل أطفاله بحب، وكأن الحياة كانت بألوانها الجميلة قبل أن يسرقها الموت.
تقول غيث: "استشهد باسل في التاسع من يناير 2024. كانت حياتنا مليئة بالحب والتضحية، وعشنا لحظات مريرة بعد إصابته في قصف إسرائيلي أثناء عودته من صلاة المغرب في تلك الليلة المأساوية، حينما نزحنا إلى مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة".
ستة أيام فقط كانت كفيلة بكتابة نهاية مأساوية لرجل كان يمثل الأمان والحب لأسرته، فيما تحتفظ ذاكرته بتفاصيل حياته البسيطة المليئة بالعطاء.
عادت غيث لتقول لابنتها بصوت خافت: "كان أبوكِ شخصًا رائعًا يا ولاء"، ثم ابتعدت عن المطبخ قليلًا وجلست بالقرب من ابنتها: "كان يحبكم كثيرًا، وكان دائمًا يقول لي: بدي أشوفكم دايمًا مبسوطين، حتى لو الدنيا صعبة".
وأضافت الأم: "كان أيضًا مثالًا للأب الحنون مع إخوتكِ أحمد وعبد الله، لم يكن مجرد والدهم، بل كان صديقهم أيضًا، يسألهم عن دراستهم، يشاركهم لعبهم، ويصطحبهم معه إلى المسجد".
ذكرت الأم، لصحيفة "فلسطين" الذي كان يتابع حديث غيث مع ابنتها، أن زوجها كان شخصًا متفانيًا في عمله، وكان إمامًا في مسجد قليبوا، حيث كان يدرّس الأطفال القرآن ويعلمهم الأخلاق الإسلامية. لاحقًا، انتقل للعمل في شركة والده لإدارة أعمال الرخام والحجر القدسي، وهي مهنة كان يعشقها.
حياة بسيطة
بينما كانت الأم تروي لابنتها قصة والدها، كانت ذكرى منزلهم في "قليبوا" تلاحقها. ذلك المنزل الذي كان مليئًا بضحكات الأطفال وسعادة العائلة، لكنه تحوّل إلى أنقاض بسبب الحرب التي لم ترحم أحدًا.
تقول غيث: "مع تصاعد القصف في شمال قطاع غزة، نزحنا إلى مدينة غزة، ومكثنا في منزل أعمام باسل بحي الشيخ رضوان، ثم نزحنا إلى خانيونس مع تدهور الوضع الأمني بسرعة كبيرة".
وتضيف: "انتقلنا برفقة عم زوجي وعائلته إلى مدينة رفح جنوب القطاع، عند اجتياح قوات الاحتلال مدينة خانيونس، ثم إلى منطقة مواصي خانيونس بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من هناك".
تكمل غيث، بحزن شديد: "كنا نعيش في خوف مستمر، نبحث عن مكان آمن لكن دون جدوى، فصواريخ الاحتلال وصلت إلى كل مكان، وكنا نتنقل من مكان لآخر لحماية أولادي وسط صعوبة الوضع".
يوم الاستشهاد
وتستذكر غيث يوم استشهاد زوجها قائلة: "في ذلك اليوم، كنا جميعًا في حالة توتر بسبب خطورة الوضع. خرج زوجي برفقة ولديّ أحمد (9 أعوام) وعبد الله (11 عامًا)، ووالده، وبعد أن أدوا صلاة المغرب، كانوا في طريقهم إلى المنزل عندما وقع انفجار ضخم، ما أدى إلى إصابة باسل إصابات بالغة في الرأس، نُقل على إثرها إلى مستشفى ناصر، حيث فارق الحياة بعد ستة أيام من إصابته".
وبينما كانت الأم تحتفظ بذكرى زوجها في قلبها، كان الأولاد يحاولون التكيف مع هذا الواقع القاسي. فأحمد وعبد الله، اللذان أصيبا بجراح في يديهما ورجليهما، كانا يشعران بحزن عميق لفقدان والدهم، لكنهما كانا يعلمان أن رحيله لم يكن النهاية، فقد زرع باسل فيهما حب الحياة، وها هما يواصلان طريقه، كما تقول غيث.
وتسترجع أم عبد الله، التي تجلس بجانب أطفالها في الخيمة التي أقيمت على مقربة من منزلهم المدمر في منطقة قليبوا، كل لحظة مع زوجها الراحل، قائلة: "على الرغم من أن منزلنا دُمّر، إلا أن الذكريات الجميلة التي تركها لنا زوجي تبقينا صامدين. رحل باسل، لكن روحه لا تزال معنا في كل زاوية من هذا المكان".
وتصرّ أم عبد الله على البقاء بالقرب من منزلهم المدمر، رافضة جميع محاولات الاحتلال الإسرائيلي والإدارة الأمريكية لتهجيرهم من أرضهم، مرددة: "نحن أصحاب الأرض ولن نتخلى عنها أبدًا"، محملة المجتمع الدولي المسؤولية عن المجازر والمعاناة التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني على مر التاريخ.
وفيما كانت "ولاء" تلتفت إلى أمها وتقول ببراءة: "أمي، كيف كان أبي؟"، أجابت الأم بابتسامة حزينة: "كان أطيب شخص ممكن تلاقيه، وكان يحبنا كثيرًا". ثم أضافت بحزن: "ورغم الألم، سأظل دائمًا أحكي لكم عن كل شيء يتعلق بأبيكم، حتى تظلوا تتذكرون حبه، وطريقة حياته، وتضحياته".