ضمن أعمال المنتدى العالمي لهذا العام 2023، تمَّ الإعلان عن إطلاق ما يُسمَّى القرية التعاونية العالمية Global Collaboration Village بالشراكة المباشرة بين المنتدى الاقتصادي العالمي، WEF، وكلٍّ من شركتي أكسنتشر Accenture، الشركة العالمية المعروفة في مجالات الاستشارات الرقمية وغيرها، وشركة ميكروسوفت Microsoft، وبمساندةٍ ودعمٍ إضافيٍّ من عدد من الشركاء العالميين مثل صندوق النقد الدولي، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومنظمة التجارة العالمية، والعديد من المنظمات العالمية غير الربحية والمؤسَّسات العلمية والأكاديمية.
وهي مبادرة ابتكارية نحو استخدام العالم الافتراضي، عبر الميتافيرس، لخدمة البشرية، وتشابكها، وتشاركها، وتعاونها في جميع بقاع العالم، الذي تحوَّل بذلك إلى عالم فتراضي، لا تُحدده حدود جغرافية، أو مكانية، أو زمانية، أو حتى اجتماعية. والهدف في النهاية أن تقدَّم الخدمات والسلع للعامة عبر هذه المنصة، أو القرية، ولجميع مواطني العالم، تفعيلاً وتأصيلاً لمفهوم المواطن العالمي Global Citizen، ولعلَّ من غير المفاجئ القول خلال المؤتمر الصحفي لإعلان هذه القرية التعاونية العالمية الافتراضية:
إنَّ حجم إيرادات القطاع الخاص العالمي عبر التعاملات في العالم الافتراضي سيصل إلى ما يزيد على تريليون دولار بحلول العام 2025، والقرية العالمية الافتراضية ستمثل "سوق عكاظ عالمياً افتراضياً لا حدود و لا أسوار له".. سوقاً يجتمع فيه افتراضياً المستهلك والتاجر والصانع، ويتبادلون قواعد السوق في العرض والطلب، دون أن يقابل أحدهما الآخر إلا عبر عالم الميتافيرس وشخصيات الأفاتار Avatars التي تُمثِّل كلَّ واحد فيهم. بل إن الدراسات الميدانية أظهرت أنَّ نحو 55% من المستهلكين باتوا يفضِّلون التسوُّق عبر منصات الميتافيرس على الانتقال الجسدي من متجر إلى آخر، سواءً في الدولة الواحدة، أو السفر إلى دول العالم للحصول على ماركات عالمية يفضلونها، ولكنهم لا يجدونها في أسواقها المكانية.
والقرية الافتراضية ستحتوي ملتقيات عالمية من مؤتمرات عالمية، ومعارض دولية، ولقاءات أعمال، وقاعات بناء قدرات للقادة، ومرافق لتدريب وتأهيل الموارد البشرية بمستوياتها كافةً، وقاعات للتعليم، وفضاءات حتى للسياحة الثقافية عبر التجوُّل في المتاحف العالمية التي ستكون متاحة لمن يرغب في زيارتها من خلال القرية دون تجثُّم عناء السفر والوصول والحجز والازدحام، أو تحمُّل مخاطر السفر والانتقال وإنفاق المال والوقت الزائد. وستكون القرية منصة لتعلُّم الصناعات، والمِهن الحرفية، وصناعة التوأمة Twins Products للعديد من المنتجات. فالقرية العالمية ستشكِّل الملتقى العالمي الذي يلبي احتياجات البشر من السلع والخدمات، ولكنها أيضاً ستدمج بين الواقع الفعلي والافتراضي، في مساحة زمنية ومكانية يختارها الإنسان بنفسه، وحسب وقته ورغباته.
نحن أمام مشروع قرية عالمية تتسع لما يزيد على 7 مليارات مواطن عالمي دون حدود أو أسوار مكانية أو زمانية. وسيتوافر للمواطن العالمي وسائل، أو وسائط الدخول، إلى القرية بسهولة ويسر، وعبر أبسط أنواع الأجهزة، ثنائية أو ثلاثية الأبعاد، بما فيها جهاز الهاتف النقال "الموبايل- الجوال"، ولعلَّ الجديد في الموضوع هو دخول حكومات العالم إلى تلك المنصة، وتقديم خدماتها العامة للمواطنين العالميين.
وقد يقوم الشخص بشراء منزل حول العالم، في دول الحكومات المُشاركة في المنصة، وتقديم طلبات نقل الملكية، وتوصيل خدمات المياه والكهرباء، وحتى خدمات الاتصالات، واقتناء وتسجيل السيارات، والحصول على رخص السواقة، وتوثيق ذلك على منصات البلوكتشين Blockchain وحفظ ملفاته وحقوقه في عالم الميتافيرس، حتى قبل أن يزور، أو تهبط قدمه على أرض الدولة المعنية.
العالم يتحوَّل نحو الخدمات الافتراضية، بعد أن تخطى مرحلة الخدمات الذكية، وتجاوز مفهوم الحكومات الالكترونية، وترك خلفه مفهوم الحضور الجسدي في العديد مما يحصل عليه من سلع أو خدمات، بما في ذلك الخدمات العامة. لم يعد العالم يتحدث عن الحكومات الإلكترونية، بل تجاوز الحكومات الذكية، نحو حكومات العالم الافتراضي، التي ستصبح الحقيقة الماثلة لمن يرغب في أن يتطوَّر أو يتقدَّم. لم تعد المباني، والمنشآت، ومواقع العمل، أو حتى المدن الإدارية، أو العواصم الجديدة مطلوبة، بل إنَّ المطلوب هو التطوُّر نحو العالم والفضاء الأوسع، فضاء البيانات الكبرى، والعالم الافتراضي، وكل ما سينفق خارج ذلك هو هَدْرٌ للمال، والطاقات، وزيادة في أعباء مالية وإدارية في الصيانة، وفي المصاريف التشغيلية، والوظائف التي يُعدُّ الكثير منها بطالة مُقنَّعة، ناهيك عن تكاليف الإنشاء والتعمير، ونفقات الإدامة، وتمديد خدمات الطرق والنقل، والاتصالات، وما بها من أعباء مالية وإدارية جمّة. القرية العالمية الافتراضية هي نموذج لمستقبل يجب استشرافه والتخطيط على أساسه، وتأهيل القوى البشرية الحالية والمقبلة للعمل فيها، والاستفادة من مكوناتها، سواء في العمل بوظيفة، أو ابتكار المنتجات، أو تقديم الخدمات، أو الإبداع الفني، والمهني، والصناعي، والتجاري؛ فالعالم ينفتح أمام الطاقات البشرية ويصبح سوقها الذي تستطيع فيه أن تعرض خدماتها، ومهاراتها، وابتكاراتها، على ما يزيد على 7 مليارات شخص، وليس على عدد محدود من السكان، أو الثقافات، أو الأذواق. صنّاع القرار في العالم العربي يحتاجون إلى التفكير بشكلٍ جليٍّ نحو تأهيل الطاقات الشابة، التي تزيد على 60% من السكان، نحو الوجود في القرية العالمية الافتراضية، وتقديم خدماتهم، وإبداعاتهم، ولكن بعد العمل بشكل كبير نحو بناء قدراتهم الإبداعية وتسليحهم بالمهارات المطلوبة، وهو ما يستدعي من جهة إعادة النظر بمساقات ومسارات التعليم بمستوياته وأشكاله كافةً، سواء على المستوى المدرسي أو الجامعي، وهو لا يتطلب من جهة أخرى بناء المدن الجديدة والعواصم الإدارية، بل يتطلب اعتماد برامج لبناء القدرات لمن أنهى مراحل التعليم المختلفة وبات يواجه العالم الجديد بمؤهلات مُتقادمة، وذلك عبر تدريب وتأهيل تحويلي حقيقي متقدم ومتطور، وعبر بناء قدرات الشباب كافة في مجالات الرقمنة، واللغة، ومهارات الاتصال والتواصل الفعّال.
الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ مشارك سياسات عامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
khwazani@gmail.com