في الترجمة الإعلامية .. كيف يمكن لخطأ واحد أن يُشعل جدلاً سياسياً؟

mainThumb
د.هديل شقير - دكتوراة في الإعلام السياسي

19-02-2025 06:57 PM

printIcon


د.هديل شقير - دكتوراة في الإعلام السياسي

الترجمة الإعلامية عملية معقدة تتجاوز مجرد نقل الكلمات من لغة إلى أخرى، فهي تنقل الرسالة والسياق والمعنى والنبرة، ما يجعلها أداة قوية في تشكيل الرأي العام، خاصة في الأوقات السياسية الحرجة. الالتزام بالدقة في الترجمة ليس مجرد التزام مهني، بل مسؤولية أخلاقية، إذ يمكن لخطأ واحد، مهما بدا بسيطًا، أن يغير المعنى ويؤدي إلى تداعيات خطيرة.

تلعب الترجمة الإعلامية دورًا كبيرًا في بناء الجسور بين الثقافات المختلفة، فهي أداة لنقل المواقف والأفكار والتوجهات السياسية إلى جماهير متنوعة. ويزداد هذا الدور تعقيداً عندما يتعلق الأمر بتصريحات رسمية أو خطابات سياسية، حيث يرتبط كل تعبير بحسابات دقيقة ومقصودة. وحين يُساء فهم التصريحات أو تُترجم بطريقة خاطئة، يحدث خلل في التواصل، قد يتطور إلى سوء تفاهم سياسي أو حتى أزمات دبلوماسية.

شهد التاريخ مواقف عديدة أظهرت كيف يمكن لخطأ بسيط في الترجمة أن يُحدث ارتباكاً سياسياً. فعلى سبيل المثال، في الحرب العالمية الثانية، أدى خطأ في ترجمة كلمة "موكوساتسو" التي استخدمها الإمبراطور الياباني هيروهيتو إلى حدوث تصعيد عسكري. الكلمة كان يُراد بها "نقيم الموقف دون تعليق"، إلا أنها نُقلت إلى الإعلام الغربي بمعنى "نتجاهل"، ما أدى إلى تفاقم التوترات العسكرية وأطال أمد النزاع.

في الأزمات السياسية، تصبح الترجمة الإعلامية أكثر حساسية. فخلال زيارة جلالة الملك عبد الله الثاني الأخيرة إلى البيت الأبيض، اختار جلالته أن يتحدث إلى الغرب باللغة التي يفهمها ويتفاعل معها، إدراكًا منه لأهمية التواصل المباشر مع الرأي العام الغربي. لكن الترجمة التي وصلت إلى الجمهور العربي شابها خطأ أدى إلى تحريف الرسالة الأساسية التي أراد الملك إيصالها. هذا الخطأ أحدث بلبلة واسعة، وأعطى انطباعات خاطئة عن الموقف الأردني. ورغم محاولات بعض وسائل الإعلام تصحيح الخطأ لاحقًا، فإن الضرر كان قد وقع، إذ تشكلت صورة غير دقيقة في أذهان البعض.

إن هذا المثال يعكس مدى حساسية الترجمة الإعلامية، خاصة في المواقف التي يكون لكل كلمة فيها أهمية سياسية. فالكلمات التي يستخدمها القادة مختارة بعناية لتعكس مواقف محددة، غير عشوائية، وحين يحدث خلل في نقلها، يتم تشويه الرسالة وإرباك المتلقين.

الالتزام بالأمانة المهنية في الترجمة الإعلامية يعد أساسًا أخلاقيًا جوهريًا، فالمترجم الصحفي يؤدي وظيفة محورية في نقل الحقيقة إلى الجمهور. وهذه الحقيقة يجب أن تصل بشكل موضوعي ودقيق، دون أن تتأثر برغبات أو تصورات المترجم أو الوسيلة الإعلامية التي يعمل فيها. إن المسؤولية هنا تتجاوز الدقة اللغوية، لتشمل فهم السياق السياسي والثقافي للتصريحات، بما يضمن إيصال المعنى المقصود كما هو.

للحد من الأخطاء في الترجمة الإعلامية، من الضروري اعتماد استراتيجيات واضحة تضمن الدقة والنزاهة في نقل التصريحات. وأول ما يجب الالتفات إليه هو الاستعانة بمترجمين مؤهلين يمتلكون خبرة كافية في العمل الإعلامي، بالإضافة إلى إلمامهم بالسياق السياسي والثقافي الذي تُقال فيه التصريحات. فالترجمة الإعلامية ليست مهارة لغوية فحسب، وإنما قدرة على التقاط الرسائل الضمنية التي يحملها النص الأصلي.

إلى جانب ذلك، لا بد من تبني ممارسات صارمة للتحقق من الترجمة قبل نشرها. مراجعة النص من قبل فريق مستقل للتأكد من دقته يمثل خطوة ضرورية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بتصريحات ذات أبعاد سياسية حساسة. إن وجود أكثر من عين خبيرة تراجع الترجمة يسهم في تقليل احتمالات الخطأ.

كما أن التدريب المستمر للمترجمين العاملين في المؤسسات الإعلامية ضرورة لا يمكن إغفالها. فاللغة كائن حي متطور باستمرار، والسياسة مجال متغير على الدوام. لذا، لا بد من تزويد المترجمين بفرص تدريب منتظمة تساعدهم على مواكبة التطورات اللغوية والسياسية التي قد تؤثر في طبيعة عملهم.

عند وقوع خطأ في الترجمة، ينبغي التعامل معه بشفافية ووضوح. الاعتراف بالخطأ وإصدار تصحيح رسمي يساعد الجمهور على التمييز بين المعلومة الخاطئة والمعلومة الصحيحة. كما أن هذا السلوك يعزز ثقة الجمهور في المؤسسة الإعلامية، ويمنحها مصداقية أكبر.

التحديات التي تواجه الترجمة الإعلامية تتطلب يقظة مستمرة من العاملين في هذا المجال، خاصة في ظل البيئة الإعلامية الرقمية التي تُنشر فيها الأخبار بسرعة فائقة. خطأ واحد يمكن أن ينتشر خلال دقائق ويصبح أساساً لمواقف أو نقاشات مغلوطة. لهذا السبب، ينبغي أن تكون المعايير المهنية والأخلاقية حاضرة في كل خطوة من خطوات الترجمة، بدءاً من اختيار المترجمين مروراً بمراجعة النصوص وصولاً إلى نشر المحتوى.

التجربة الأخيرة المتعلقة بتصريحات جلالة الملك عبد الله الثاني تشكل درسًا مهمًا لجميع العاملين في الترجمة الإعلامية. إذ أظهرت كيف أن خطأ بسيطاً في الترجمة يمكنه أن يخلق حالة من الارتباك والجدل، رغم وضوح الرسالة الأصلية. ولذلك، فإن بناء آليات واضحة ودقيقة في التعامل مع النصوص المترجمة، إلى جانب الالتزام بالمهنية والشفافية، يمثل ضرورة لضمان إيصال الرسائل الإعلامية بشكل صحيح للجمهور.