أخبار اليوم - وصلنا لمحمَّد " لم تدم جرعة الفرح الَّتي اجتاحت قلب داليا أبو غالي (34 عامًا) لحظة إنصاتها لتلك الكلمات الَّتي قالها أحد أفراد جهاز الدِّفاع المدنيِّ يفيد من خلالها بالوصول لزوجها بعد 6 أشهر من فقدان آثاره، عندما أكمل الجزء المتبقِّي من الاتِّصال بالعثور على رفاته مع وجود علامات دالَّة عليه، أبرزها آثار مثبِّت عظام (بلاتين) بعموده الفقريِّ إثر عمليَّة جراحيَّة أجراها، ليتحوَّل الفرح لمأساة وبكاء.
فقدت أبو غالي آثار زوجها محمَّد سويلم (38 عامًا) عندما كان ذاهبًا من منطقة المواصي غرب محافظة خان يونس، لمنزله الواقع بالحيِّ السُّعوديِّ بـ "تلُّ السُّلطان غربيَّ محافظة رفح جنوب قطاع غزَّة في 3 آب/ أغسطس 2024 لإحضار ملابس لأطفاله ولم يعد وانقطعت أخباره، ومنذ ذلك التَّاريخ لم تترك مكانًا إلَّا وسألت عنه حتَّى وصول طواقم الدِّفاع المدنيِّ لجثَّته في 19 يناير/ كانون ثاني 2025 مع سريان اتِّفاق وقف إطلاق النَّار.
بعد الاتِّصال، كانت أوَّل الواصلين لمجمَّع ناصر الطِّبِّيِّ بخان يونس بانتظار وصول رفات زوجها، كانت تتفقَّد آثاره في كلِّ إسعاف يصل إلى مكان مشرحة المجمَّع، تعاين الجثامين وتنظر إلى ملابسهم، ومع كلِّ قدوم إسعاف تتباطأ دقَّات قلبها وتخفَّت أنفاسها من هول اللِّقاء غير المتوقَّع.
لم يكن أسيرا
فكل آمال أبو غالي قبل اتصال الدفاع المدني، كانت تنصب بأنه أسير لدى جيش الاحتلال إذ لم تترك أي قائمة أسرى محررين إلا وراقبت اسمه بينها، تسأل الصليب الأحمر ومؤسسات تعنى بالأسرى عنه، بل وتستمع إلى شهادات الأسرى المحررين عن التعذيب في سجون الاحتلال لأنها تريد أن تعرف كيف يعيش زوجها بالأسر، هذا الاحتمال على قسوته كان أفضل بالنسبة لها من تأكيد استشهاده.
غيّر الإسعاف الذي نقل بقايا رفات زوجها وجهته نحو مستشفى غزة الأوروبي، بقلبها المكلوم تروي لصحيفة "فلسطين" قسوة أصعب لحظة انتظار: "ذهب أخي لإحضاره وبسبب صعوبة المواصلات، حمله على عربة تكتك وسار نصف المسافة مشيًا، إلى أن وصل وهو يحمل رفات زوجي بكفن أبيض، عندما رأيته انهرت فكان المشهد مؤلمًا أن يعود إلي زوجي ببقايا هياكل عظمية وملابسه الممزقة".
بدموع حسرة على لقاء تغيرت شاكلته، تقول: "لم أر في حياتي مشاهد الهياكل العظيمة إلا في حرب الإبادة، تمالكت نفسي وكنت مصرة على رؤية الرفات رغم أن البعض قال لي: "شو بك تشوفي فيه، عظم!"، فكنت أرد أنني أريد رؤية أي شيء من رائحته، أريد رؤيته ووداعه ووافقت عائلتي من كثرة إلحاحي عليهم".
في وداع بلا عناق حضرته دموع صامتة، وقفت أبو غالي أمام اللحظة المنتظرة، وجثى شقيقها بعدما وضع الكفن على الأرض وفتحه، وشاهدت جمجمة وبقايا فقرات عظام وملابسه التي كان يرتديها وتمزقت بفعل الاستهداف، وأخرج فقرة من عموده الفقرة تحديدًا التي تحمل علامة آثار مثبت العظام (بلاتين)، وبهذه النهاية المأساوية وضع النقطة الأخيرة في رحلة بحثها عن زوجها المفقود.
فقر وفقد
في لحظة حركت شريط ذكرياتها، لم تكن تنظر إلى بقايا العظام فقط، بل تستحضر صورة ابتسامته ومواقفهما معًا، كيف واجها الحياة بحلوها ومرها، روابط الحب التي جمعتهما طيلة 11 سنة من الزواج، وذكرياته، "فتحت يدي وطلبت من أخي أن يضع عموده الفقري عليها، لكن رأفة بحالها رفض شقيقها وأغلق الكفن ووري الثرى وقال لها: "خليك على صورته الحلوة" تقول بصوت تخنقه الدموع.
عن سبب ذهاب زوجها للبيت، تحكي: "انتشرت إشاعة بانسحاب جيش الاحتلال من "تل السلطان" فقرر الذهاب للبيت لجلب شيء للأولاد، ويحضر بعض الطعام لأنه عندما نزحنا من البيت لم نأخذ شيئا وكنت حاملا، ولم استطع احضار ملابس المولودة فذهب لإحضارها لكن استهدفته طائرة حربية بدون طيار".
تجربة بحث مريرة، تطبق على ذاكرتها: "استمريت بالبحث عنه ستة أشهر، اسأل عنه بين الأسرى المفرج عنهم ولدى الصليب الأحمر والدفاع المدني، وحددت للأخير المواصفات الأخيرة له، وكنت أشاهد فيديوهات لروايات محررين عن تعذيب الاحتلال لهم، وكنت أخشى على زوجي من شدة التعذيب في حال كان أسيرا، وكان لدي أمل بأن يكون حيًّا، ولم أصاب باليأس عندما أخبرتني هيئة شؤون الأسرى بعد وجود اسم له بين المعتقلين حتى عثر عليه الدفاع المدني بالقرب من مسجد منطقتنا وانهارت أمالي كلها".
تزوجت أبو غالي قبل 11 سنة، وبعد طول انتظار استطاعت قبل عام بناء بيت صغير كان "قصرا لها" لم تكتمل فرحتها ببدء حرب الإبادة، وتحملت صعوبة الحياة مع زوجها المتعطل عن العمل، حتى نهش الفقر حياتهم، فرحل محمد ودمر البيت وبقيت هي مع أطفالها ناجي ومجد وجوري ولانا يتجرعون مرارة الفقر والفقد معًا.
هذه واحدة من قصص عائلات المفقودين الذين يتجرعون في كل لحظة وثانية مرارة الغياب والمصير المجهول، استطاعت أبو غالي معرفة مصير زوجها لكن هناك نحو 10 آلاف مفقود لا زالت عائلاتهم تبحث عنهم في الشوارع وتحت الأنقاض وفي قوائم الأسرى، كل يكتوون بنار الانتظار ويتعلقون ببصيص أمل أن يعثروا عليهم أحياء.