أخبار اليوم - توقفت آلة الدمار الإسرائيلية بفعل اتفاق وقف إطلاق النار عن ارتكاب المجازر بحق العائلات الفلسطينية، وتوقف عداد الشهداء والدم النازف عن إضافة أرقام جديدة لقوافل الشهداء وقائمة المغادرين للسجل المدني، لكن الجراح التي لم تضمد لا زالت مفتوحة والأحزان والمآتم المؤجلة لا زالت تكوي قلوب الناجين بعد توقف الحرب.
حصدت الحرب أرواح عائلات فلسطينية تساقطت أوراقها من الفروع والأغصان وخلعت أشجارها من جذورها ليحل خريف الفقد على قلوب الناجين، وكأنَّ الزمن توقف بهم في تلك اللحظة، أو أنهم كانوا يعيشون في حلمٍ لم يدركوا قسوته إلا بانقشاع غبار الحرب.
فقدت عائلة سالم وهي عائلة لاجئة من بلدة "هربيا" تعيش بمدينة غزة 237 شهيدًا من كافة الأعمار بعضها مسحت من السجل المدني، وقعت المجزرة الأكثر دموية فجر الاثنين 11 ديسمبر/ كانون أول 2023.
الخامسة والأربعون دقيقة فجرًا، وبعد أداء العائلة صلاة الجماعة، لم يستمر الهدوء الذي عاشته سوى دقائق قبل سقوط برميل متفجر من طائرة إسرائيلية على عمارة الحاج أبو رمزي سالم وتقع نهاية شارع الجلاء بمدينة غزة، والمكونة من خمسة طوابق سويت على الفور بالأرض وتحولت إلى قبر جماعي لنحو 100 شخص كانوا بداخلها بينهم أطفال ونساء.
امتد الدمار الهائل لبيوت العائلة المجاورة والمكونة من ثماني عمارات سكنية يسكنها المئات بينهم أطفال ونساء وشيوخ ونازحون تشردوا من أماكن أخرى ليلاقوا مصيرهم الأخير هنا، "اللحظات الأولى للمجزرة كانت مرعبة جدًا ومخيفة وصادمة، امتلأ المكان بالركام والدخان الأسود والأشلاء والجثث والصراخ والنحيب وامتد الدمار لكافة البيوت المحيطة" ينتشل أحمد سالم تفاصيل المجزرة الدموية من أعماق ذاكرته، تتحرك أمامه في حديثه لصحيفة "فلسطين" وكأنَّها وقعت للتو.
يقول سالم : "نجونا بأعجوبة، كنا في البيت المجاور للبيت المستهدف وتهدمت فوق رؤوسنا الجدران وأعمدة الباطون، وخنقت أنفاسنا الأتربة والدخان ورائحة البارود والدم إلى أن تمكنا من الخروج من بينها، واستشهد في هذه المجزرة 96 شهيدًا، يطول ذكر أسمائهم وتختلف معدلات أعمارهم وهم من كل الفئات العمرية تحولوا جميعا إلى جثث متفحمة وأشلاء ممزقة وبقايا أجساد وبينهم عائلات مسحت من السجل المدني وأصيب بالمجزرة 100 فرد من العائلة".
جثامين متراصة
بأدوات بسيطة وبدائية، وبعد ساعات من الانتشال بمساعدة طواقم الدفاع المدني والجيران والناجين من العائلة، استطاعوا انتشال أشلاء وجثث 63 شهيدًا من العائلة، ولا زال 33 شهيدًا تحت الأنقاض وقفت تلك الأدوات وسواعدهم عاجزة أمام أكوام ركام كبيرة تحتاج معدات ثقيلة لانتشالهم.
بين صلاة الجماعة وصلاة الجنازة، ساعات فصلت بين حياة وهدوء وسكنية وموت وحزن وفقد كبير عاشه أحمد سالم، وتجرع مرارته مع كل يوم جديد يمر من أمام البيوت المدمرة في لحظة يتحرك المشهد الدامي أمامه: "لا يمكن تخطي ما جرى لنا خلال الحرب، فما حدث إبادة للعائلة ومسحها من الجذور، هذا الإجرام فاق حد الوصف".
من أدراج الذاكرة، تحضره أصوات المصابين ولحظات الشهداء الأخيرة: "كانت لحظات صادمة، وكان الدخان يفترش المكان، نسمع أصوات وصراخ الصغار وهم يتألمون من شدة الوجع الناجم عن الإصابات، كنا ننقل المصابين ونبحث عن من نستطيع الوصول إليه بين الركام حتى أفقنا على الفاجعة الكبير ورأينا عدد الشهداء".
أصرّت العائلة قبل المجزرة على البقاء بمدينة غزة ورفض الكثير من أفرادها فكرة النزوح إلى جنوب القطاع ومواجهة مخططات الاحتلال بتشريد الشعب الفلسطيني، وقدمت شهداء وتضحيات كبيرة سبقت المجزرة بأيام قليلة، وأصرت على عيش حياة تملؤها المحبة والتكاتف كجسد واحدة بالرغم من ظروف الحرب القاسية، مجسدة العائلة الفلسطينية الصابرة.
يستحضر سالم آخر لحظات العائلة قائلا: "كانت ليلة المجزرة ليلة هادئة تخللها جلسات عائلية رغم الحرب وكانت الأجواء تبعث على التفاؤل والأمل والرغبة في الحياة. صلى الجميع الفجر ونوى بعضهم الصيام لكن الاحتلال قتل هذه الرغبات وقضى على الطموح الجارف لأبنائنا في الاستمرار والنجاة والعيش حياة كريمة".
وإن كانت المجزرة السابقة هي أكبر المجازر التي تعرضت لها العائلة، ومن بين أكبر المجازر التي حلت بالعائلات الفلسطينية خلال حرب الإبادة، استمر الاحتلال باستهداف العائلة بمجازر عديدة بلغ مجموع ما فقدتهم العائلة 237 شهيدًا، وبدماء أبنائها الزكية تدفع مهر حريتها وثمن عزتها وكرامتها.
خريف الفقد
نشرت العائلة قائمة بأسماء الشهداء، يعتليها عميد العائلة إسماعيل موسى محمد سالم (أبا باسل) ويحمل الرقم الأول في تلك القائمة الطويلة التي تنتهي برقم لآخر شهيد فيها وهو محمد عبد المجيد رجب سالم ويحمل رقم 237، وبين الاسم الأول والأخير أسماء عائلات مسحت من السجل المدني، وأشقاء غادروا الحياة معًا، وحياة دفنت تحت الركام، وآمال تحطمت وأحزان لم تتوقف وبيوت أصبحت خاوية من أصحابها.
تعامل العالم مع الشهداء على أنهم أرقامٌ مجردة، وتناسى الحياة التي كانت تعيشها والأحلام التي كانت تغلف حياتها والحب الذي يفرد جناحيه لهم، الظلام الدامس الذي كانت تغرق فيه، التجويع، والقتل والتشرد، رعب وخوف الأطفال مع سقوط الصواريخ، ضحكات انطفأت وعجلة حياة توقفت.
بالمرور على بعض الأسماء داخل قائمة الشهداء، الشهيد إسماعيل علي إسماعيل سالم "أبو علي" وأولاده أحمد ومحمد إسماعيل سالم، وأحفاده سما وغزل عبد الله ويزن محمد إسماعيل سالم، ومن بين شهداء العائلة الأشقاء، محمد وجهاد وإبراهيم وعمر وجنى وسمر وهم أبناء هاني إبراهيم سالم.
وضمت القائمة الأشقاء علي وعمر وعاصم ومحمد عادل علي سالم، وأمهم الشهيدة سماح (أبو حمام) "أم علي"، وكذلك ضمت فواز طلعت يحيى سالم وأولاده علي وعلاء ومحمد ورغد، ومن الشهداء الأشقاء شام وماريا وشمس ومنى ومعتز وديع سالم، وكذلك منير محمد خميس سالم وأولاده نور وأحمد ويوسف وآية، وكذلك سعيد محمد خميس سالم وزوجته واولاده هبة وسجى ومريم وهدى وملك ونغم وليلى، ومحمد فريد محمد خميس سالم وأولاده آمال ورزان وسارة وشهد.
تكشف هذه المجازر كيف أجرم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، وتظهر جزءًا من إبادة جماعية لأكثر من 46 ألف شهيدٍ، في أبشع حرب دموية شهدها العصر الحديث، كشفت عن نازية الاحتلال وإجرامه بحق الإنسانية وقوانين حقوق الإنسان التي وقفت عاجزة وصامتة أمام تلك المجازر.
إضافة لتلك المجازر لا ينسى سالم، الأوضاع القاسية التي رافقت اللحظات الدامية أو تبعتها، بغياب أساسيات الحياة إضافة للتجويع، واجتياح الاحتلال لشمال القطاع في 5 اكتوبر/ تشرين أول 2024 واستمرت نحو ثلاثة أشهر هجر خلالها معظم سكان الشمال وقتل أكثر من خمسة آلاف فرد منهم، "عشنا في خوف ورعب وقلق يومي مستمر بلا توقف خاصة في ساعات الليل وكانت الآليات تتقدم بشكل واضح ومسموع وتطلق نيرانها تجاه المنازل لساعات متواصلة دون انقطاع مما يترك أثرا سلبيا كبيرا في نفوس الأطفال لأن هذه الحرب بالذات استهدفت الطفولة وبراءتها بشكل مقصود" يستذكر.
كما لا تتخطى ذاكرته، مشهدا لقيام مجموعة من المواطنين بمحاولة تفقد منازلهم بمنطقة الصفطاوي فقصفتهم طائرة إسرائيلية بدون طيار بصاروخين تحولوا جميعا إلا أشلاء متناثرة بلا ذنب اقترفوه سوى محاولة مشاهدة بيوتهم ولو عن بعد.