د.هديل شقير – دكتوراة في الإعلام السياسي
لم يكن اللقاء الذي جمع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بالرئيس الأميركي دونالد ترامب مجرد اجتماع رسمي بروتوكولي، بل كان مواجهة بين رؤيتين متباينتين للعالم، بين خطابين يكشفان عن الفارق الشاسع بين قائدٍ مُحنَّك ينهل من إرث دبلوماسي عريق، وبين زعيمٍ اعتاد هندسة المشهد السياسي وفق منطق الصفقة التجارية، حيث تحلّ العقود مكان المبادئ، والأرباح قبل الإنسانية.
كان اللقاء مُثقلاً بالملفات الحسّاسة، وعلى رأسها الملف الفلسطيني وقضية غزة التي تزداد تعقيدًا كلما تكاثفت فوقها الحسابات الجيوسياسية. ومثلما هي العادة، لم يترك الخطابان مجالًا للالتباس: ففيما جاء خطاب الملك عبدالله الثاني متماسكًا، مُستندًا إلى القيم الدولية والحقوق الإنسانية، بدا خطاب ترامب هشًّا، مُنطلقًا من زوايا براغماتية تفتقر إلى البعد الإنساني العميق.
تحدث دونالد ترامب بلغة تبدو مألوفة لمن اعتاد خطابه السياسي، فالرئيس الأميركي لا يُخفي ميله إلى تبسيط القضايا المعقدة عبر حلول جاهزة تشبه تكتيكات رجال الأعمال في سوق العقارات. اقترح ترامب إعادة هيكلة غزة اقتصاديًا، وتحويلها إلى "وجهة سياحية" تستقطب الاستثمارات، فيما يتم "نقل سكانها" إلى مناطق أخرى – مثل الأردن أو مصر – وكأن المشكلة تكمن فقط في إعادة توزيع المساحة البشرية، لا في تاريخٍ طويل من الاحتلال والمعاناة. وفقًا لنظرية التأطير الإعلامي Framing Theory، يسعى ترامب إلى تأطير القضية في قالب اقتصادي محض، مُجردًا المشهد من أي دلالات سياسية أو ثقافية. إنّه يُعيد إنتاج الصيغة القديمة التي تنظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها مُعضلة لوجستية، لا قضية تحرّر وحقوق تاريخية، محاولًا تمرير رؤيته وكأنها "صفقة العمر". ولكن، حتى في منطق السوق، لا يمكن بيع الأوطان ولا تهجير الشعوب على نحو قسري.
أمّا خطاب الملك عبد الله الثاني فقد عكس نهجًا مختلفًا معبّراً عن رؤيةٍ عميقة في الواقع السياسي والحقوقي. لم يكتفِ العاهل الأردني برفض مشروع التهجير القسري الذي طرحه ترامب، بل أعاد تأكيد موقف الأردن الثابت: لا يمكن معالجة أزمة غزة عبر انتهاك حقوق سكانها، ولا يمكن فرض حلول مُلتوية تُعيد إنتاج المعاناة بدلاً من إنهائها. كان هذا الخطاب امتدادًا للنهج الأردني التاريخي في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، مستندًا إلى القانون الدولي ومقررات الأمم المتحدة، وهو ما يجعله أكثر شرعية وتأثيرًا. وفق التحليل النقدي للخطاب Critical Discourse Analysis ، يقدّم الملك خطابًا يُعزز العدالة الاجتماعية، ويواجه المشاريع التي تفرغ القضية الفلسطينية من أبعادها الحقيقية. لغة الملك لم تكن مجرد جُمل دبلوماسية تقليدية، بل جاءت محمّلة بمعانٍ عميقة، مُخاطبة الضمير الإنساني قبل القاموس السياسي. لم يكن يُساوم أو يُهادن، بل كان يُعلن موقفًا أخلاقيًا واضحًا، منحازًا للعدل في مواجهة براغماتية باردة.
بتحليل الخطابين، تبرز التباينات الجوهرية في شخصية كل من الزعيمين ونهجه في إدارة الأزمات الدولية. بدايةً، نلحظ الأخلاقية مقابل البراغماتية، حيث جاء خطاب الملك عبد الله مُتسقًا مع المبادئ الإنسانية والقانون الدولي، بينما بدا خطاب ترامب أقرب إلى مقترح تجاري غير مكترث بالاعتبارات الأخلاقية. من ثم يظهر العمق الثقافي مقابل التسطيح الاقتصادي، إذ أظهر الملك فهماً دقيقًا لتعقيدات الصراع الفلسطيني، بينما تعامل ترامب مع القضية من زاوية استثمارية، مُغيّبًا التاريخ والجذور الثقافية للمجتمع الغزّي. وأخيراً نشهد لغة الدبلوماسية مقابل لغة الصفقة، فبينما اعتمد الملك على خطاب متزن يخاطب المجتمع الدولي بلغة الحوار والشراكة، استخدم ترامب أسلوبًا صداميًا قائمًا على فرض الحلول كأمرٍ واقع.
في الإعلام السياسي لا يمكن تجاهل الخطاب السياسي، كما لا يمكن فصله عن التأثير الإعلامي، إذ أن تشكيل الوعي الجماهيري وصناعة الرأي العام تتم بواسطة الخطاب. وفق نظريات الإعلام السياسي، فإن الخطاب العميق المتّزن، كما في حالة الملك عبد الله، يُتوقّع منه إحداث أثرٍ مستدام، بينما الخطاب المُسطّح، كما في حالة ترامب، قد يُحدث ضجيجًا آنيّاً لكنه يفتقر إلى القوة الناعمة التي تبني المواقف طويلة الأمد.
الزمن كفيل بفرز الخطابات التي تصمد وتلك التي تذروها الرياح. وبين خطاب يحمل روح العدالة وخطاب يستند إلى حسابات باردة، يبقى خطاب الملك عبد الله الثاني نموذجًا للقيادة الحكيمة في عالمٍ تزداد فيه الحاجة إلى أصوات تحمل المسؤولية الأخلاقية قبل السياسية.
الفرق بين الزعيمين لا يكمن فقط في شخصياتهما، بل في فلسفة الحكم التي يمثلها كلٌّ منهما. الملك عبد الله الثاني يُدرك أنّ التاريخ لا يُكتَب بقرارات عشوائية، بل بمواقف تحمل بعدًا إنسانيًا وأخلاقيًا يتجاوز المصالح المؤقتة. أما ترامب، فيحاول بناء سياسة دولية على أسسٍ لا تصمد إلا بقدر صمود الصفقات التجارية قصيرة المدى. سيظل الإعلام شاهداً على هذه اللحظات، وسيبقى الخطاب السياسي هو الميدان الحقيقي الذي تُختبر فيه مصداقية الزعماء. وبين خطاب يزرع المستقبل، وخطاب يتلاعب بالمصائر، يظل صوت الحكمة هو الأجدر بالبقاء.