المحرر محمَّد مرتجى .. ولادة جديدة بعد سنوات العتمة

mainThumb
المحرر محمَّد مرتجى... ولادة جديدة بعد سنوات العتمة

10-02-2025 03:29 PM

printIcon

أخبار اليوم - وقف المحرر محمد مرتجى (٤٨ عامًا) على أنقاض حيه السكني المدمر في شارع المشتل غرب مدينة غزة، عاقدًا حاجبيه، يحاول أن يستوعب المشهد الذي صُدم به لحظة تحرره.

كل ما يعرفه عن غزة قبل اعتقاله، عن شوارعها وأزقتها، عن بيته الذي كان يعج بأطفاله وضحكاتهم، بات مجرد ذكريات. حمل ابنته سارة بين ذراعيه، حاول أن يقرأ ملامحها، لكنه أدرك أنه لم يعد يعرفها كما كان يفترض بأب أن يعرف طفلته. كانت في عامها الأول عندما غادرها، واليوم هي فتاة في التاسعة، تتأمله بدهشة، كأنها تحاول أن تتعرف عليه لأول مرة.

"هذه ولادة جديدة"

بهذه الكلمات وصف مرتجى لحظة الإفراج عنه في 1 فبراير/شباط 2025، بعد ثماني سنوات قضاها خلف قضبان سجون الاحتلال، محرومًا من رؤية عائلته، من ضوء الشمس، ومن أبسط حقوقه كإنسان.

كان مرتجى مديرًا لمكتب "تيكا" التركية في غزة، يعمل على مشاريع تنموية، لكن دولة الاحتلال اعتقلته في 12 فبراير/ شباط 2017 أثناء مغادرته عبر حاجز بيت حانون، متوجهًا إلى العاصمة التركية أنقرة للمشاركة في مؤتمر تدريبي لموظفي "تيكا".

في عام 2018، قضت محكمة إسرائيلية بسجنه لمدة تسع سنوات بتهم منها "العضوية في حركة حماس" و"تقديم مساعدات للفلسطينيين في غزة"، وهي "تهم" نفاها مرتجى مؤكدًا أن عمله كان إنسانيًا بحتًا.

يقول مرتجى لصحيفة "فلسطين": "الخروج من السجن بعد هذه السنوات الطويلة كأنك تُبعث من جديد. كنت محبوسًا في قبر، مجرد رقم بين الجدران، لا أحد يسمع صرختك، لا أحد يعلم إن كنت حيًا أو ميتًا. لكنني خرجت، وأنا الآن أتنفس الحرية من جديد".

داخل سجون الاحتلال، لم يكن الاعتقال مجرد سلبٍ للحرية، بل كان انتزاعًا ممنهجًا لإنسانية الأسرى. تعرض مرتجى للتعذيب الجسدي والنفسي، حُرم من الدواء رغم معاناته من ارتفاع ضغط الدم والكوليسترول، "كانوا يمنعون عنا المسكنات، وكان طبيب السجن يقول لنا: طالما أنك تتنفس، فأنت لست بحاجة إلى علاج".

إحدى أقسى لحظات العذاب النفسي التي تعرض لها الأسرى كانت خلال الحرب على غزة، حين كانت إدارة السجون تعمد إلى كسر معنوياتهم بطريقة وحشية، "كانوا يخبروننا أن عائلاتنا قُتلت، وأن منازلنا دُمرت بالكامل، دون أن نملك أي وسيلة للتحقق من صحة الأخبار. كانوا يعزلوننا عن العالم الخارجي، يمنعون المحامين، يسحبون أجهزة الراديو. كنا نعيش في كابوس مستمر".

أما الإذلال، فقد تجاوز كل الحدود، إذ أُجبر الأسرى على إصدار أصوات الحيوانات، "كانوا يجبروننا على العواء كأننا كلاب، أو النهيق كالحمير، فقط لإذلالنا. كانوا يدوسون علينا بأقدامهم، ويتركوننا مكبلين لأشهر، حتى تعفنت الجروح في أجسادنا".

ويضيف: "في إحدى الزنازين، بقي أسرى غزة الذين اعتُقلوا بعد 7 أكتوبر مكبلي الأيدي لستة أشهر متواصلة، ما تسبب لهم بجروح خطيرة، بل إن بعضهم تعرضوا لبتر أطرافهم نتيجة التعذيب. "لم يكونوا بحاجة لقتلنا بالرصاص، كانوا يتركوننا نموت ببطء".

الحرمان.. ثماني سنوات بلا لقاء

من بين كل صنوف العذاب، كان الحرمان من عائلته هو الأكثر قسوة. منذ عام 2018، لم يُسمح لعائلته بزيارته، سوى مرة واحدة "ابنتي سارة لم تسمح لها إدارة السجون برؤيتي. خرجت من الأسر ولم أتعرف عليها. لقد كبرت، وأنا لم أرَ ملامحها تتغير. تخيل أن ترى طفلك لأول مرة بعد تسع سنوات، وكأنه شخص غريب".

عندما احتضنها، شعر للحظة وكأنه يعانق سنواته الضائعة، لكنه كان يعلم أن الوقت لا يعود للوراء.

خرج مرتجى ضمن صفقة تبادل أسرى بين المقاومة ودولة الاحتلال، لكنه ترك خلفه آلاف الأسرى الذين ما زالوا يعانون، ويقول: "هناك من قضى 15 و20 و30 عامًا خلف القضبان، منهم من حُكم بالمؤبد، ولا يعرف إن كان سيرى النور يومًا. الفرحة منقوصة، لأننا تركناهم هناك".

وعن واقع غزة بعد خروجه، لم يكن يتخيل حجم الدمار. سار في شوارع مدينته، لم يجد سوى أنقاض المنازل والركام الذي غطى الطرقات. وقف للحظة، صمت طويلًا، ثم همس: "اللهم عوض أهل غزة خيرًا".

بينما كانت ابنته الصغيرة تلاحقه بنظراتها، كأنها تخشى أن تفقده مرة أخرى، كان يعلم أن معركته الحقيقية لم تنتهِ بعد. الحرية ليست فقط مغادرة السجن، بل أن يجد لنفسه مكانًا في هذا الواقع الجديد، بين أنقاض مدينته، وبين ذكرياته التي تركها خلف جدران الزنزانة.