ليس هناك الكثير من الأفلام عن كرة القدم، لعل الأشهر هو ثلاثية "غول!" (Goal!) الشهيرة من بطولة المكسيكي كونو بيكر، و"قوّسها مثل بيكهام" (Bend it like Beckham) للبريطانية كيرا نايتلي، و"حمى الملعب" (Fever Pitch) لكولين فيرث، والمبني على مذكرات نيك هورنبي، الكاتب الصحفي وأشهر مشجعي أرسنال على الإطلاق، ولكن في أكثر الأفلام الرياضية، سواء كانت كرة القدم موضوعها أو أي رياضة أخرى، تجد المشهد المتكرر الذي يُجبَر فيه البطل على اختيار مصيري بين خطوة في مسيرته المهنية وأخرى في حياته العاطفية أو العائلية. (1) (2)
أغلب الوقت، لا تكون الحياة الواقعية بهذه الدرامية، لدرجة أن تتحدد مصائرنا بناء على لحظة مصيرية حاسمة واحدة. طبعا نحن نحب أن نظن أن حياتنا كانت لتتغير بناء على موقف واحد لأن التفكير أسهل بهذه الطريقة، ولكن في الحقيقة، فالأنماط السلوكية المتكررة، مثل الميل للتأجيل والتسويف، أو الأنانية، أو الفشل في التواصل مع مشاعرنا، قد تكون أكثر تحكما في حياتنا من عبارة واحدة خاطئة أو بضع ثوانٍ أو لقاء بالمصادفة.
من الدراما وإليها
ستيف برايس، أحد محرري التقنية في مجلة "فوربس" (Forbes)، لخّص تأثير الذكاء الاصطناعي على كرة القدم في أننا لن نشاهد ذلك المشهد مجددا في أي فيلم أو مسلسل. برايس يتحدث تحديدا عن تطبيق "إيه آي سكاوت" (AiScout)، الذي يكفي اسمه للتعرف على وظيفته، وبدأ استخدامه على نطاق واسع في كرة القدم الأوروبية، التطبيق الذي يشبه منصات التواصل الاجتماعي، ويسمح للأندية بالاطلاع على المواهب الجديدة من أي بقعة في الأرض، وطوال الوقت. (3) (4)
الفكرة بحد ذاتها بسيطة؛ الأندية تختار مجموعة من التمرينات المحددة لكل فئة عمرية، ويمكن لأي طفل أو مراهق تصوير نفسه أثناء تنفيذ هذه التمرينات ثم تحميل المقطع على المنصة، وباستخدام تقنيات مثل "رؤية الحاسوب" (Computer Vision)، تقوم الخوارزميات بالتعرف على مفاصل وأعضاء اللاعب بالإضافة إلى الكرة ذاتها، وبالتالي يمكنها تحديد السرعة والدقة التي يؤدي بها التمرينات، ومنحه تقييما يساعد الأندية على اكتشافه.
هذا يوفر على الأندية الكثير من الرحلات والوقت والمال والجهد لمتابعة اللاعبين في مشاهدة حية، ويساعدهم على تصفية الاختيارات وتحديد الأهداف مسبقا. هكذا تصبح العملية أبسط، والأهم منزوعة الدراما؛ الكشافون تخلصوا من الزيارات السريعة المتوترة التي يجب فيها تقييم لاعب ما في 24 ساعة قبل الانطلاق لبلد آخر وموهبة أخرى، واللاعبون تخلصوا من الضغط النفسي والذهني المصاحب لهذه الزيارات، والاحتياج المصيري للتألق في تلك المباراة تحديدا للتأثير على قرارات الكشافين، وبالطبع، وبما أن تلك المقاطع قابلة للتصوير والمشاهدة في أي وقت، فلا حاجة إلى الاختيار بين تجارب الأداء وحياتك العاطفية أو العائلية.
في الواقع، لم يكن أصحاب فكرة "AiScout" ليجدوا شعارا إعلانيا أفضل من: "AiScout.. لا تختر بين أحلامك وأي شيء آخر"، أو "AiScout.. لا تفوّت عشاء الكريسماس أو عيد ميلاد أختك العاشر". لم نسمع من قبل عن أي نادٍ أقام اختبارات أداء ليلة رأس السنة، ولكننا نعتقد أنهم كانوا سيأتون بشعار أفضل بكثير من "هاتف نقّال هو كل ما تحتاج إليه" لو كانوا قد عيّنوا برايس مديرا لحملتهم الإعلانية. (5)
بالطبع كل هذه السهولة تُثير الكثير من الشكوك حول قدرة هؤلاء الأطفال والمراهقين على التعامل مع الاختبارات الإنسانية الحقيقية في الملعب، خاصة مع تزايد عدد التطبيقات المشابهة على الساحة، وتعيد إلى الذهن تصريحات فينغر وبيركامب السابقة عن الدلال الذي يحظى به الناشئون في أوروبا، وفقاعات الحماية التي تُغلِّفهم من كل العنصرية والتنمر والآلام النفسية، وتنشئ شخصيات ضعيفة لا تتحمل الضغط في النهاية. (6) (7)
هناك وجاهة في كل ذلك رغم قبح ظاهره، ولكن المعادلة ليست بهذه البساطة دائما؛ المتنمرون والعنصريون وأجواء المنافسة الشرسة أنتجت نجوما بشخصيات استثنائية ورغبة غير عادية، كسواريز وزلاتان ورونالدو على سبيل المثال، ولكنها -في الوقت ذاته- أجهزت على الآلاف في المقابل، هؤلاء الذين فقدوا فرصتهم لأنهم لم يتحملوا الابتزاز المعنوي والنفسي الذي يصاحب المنافسة في مثل هذه المستويات، و"قسوة" مدربي التسعينيات والثمانينيات في مراحل الناشئين.
هل يصلح مبدأ البقاء للأقوى في الأكاديميات؟ هل احتكاك الأطفال والمراهقين بقبح الحياة يُعِدُّهم لها أم يُسمِّمهم للأبد ويصنع المزيد من المتنمرين والمبتزين؟ هل يمكن للعجلة أن تنكسر أم أن أقصى ما نستطيع فعله هو تقبل الأمر الواقع؟ هل هناك درجة "مناسبة" أو "كافية" من المصاعب والمعاناة يجب أن يمر بها الإنسان ليصبح جاهزا للحياة؟ لن نعلم أبدا.
المهم أنه بغض النظر عن المعضلة الفلسفية هنا، فالتطبيق يعالج العديد من المشكلات دفعة واحدة، إحداها لمست وترا حساسا لدى كشافي تشيلسي تحديدا، طبقا لريتشارد فِلتون، المدير التنفيذي لـ"AiScout" ورئيس قسم علوم الرياضة، وهي حقيقة أن تسجيلات المباريات، التي تُظهِر اللاعب يراوغ خمسة لاعبين كل مباراة ويحرز 70 هدفا في الموسم، لا تخبرهم شيئا عن مستوى الخصوم الذين يواجهونه. (3)
الآن، وباستخدام تمرينات "Drills" من تدريبات الأكاديمية المعدة خصوصا لهذا الغرض، يؤديها اللاعب بدوره قبل أن يحمّل المقطع على المنصة، يمكنهم مقارنته بأقرانه في الكوبهام سنتر الذين قاموا بالتمرينات ذاتها، وبالتالي قياس مستواه إلى مرجعية حقيقية مطلقة، وليس بالنسبة إلى خصوم لا يعلمون عنهم شيئا. (3)
حوض فنكلستين
قبل أن نصل إلى الزمن الذي يتمكن فيه الذكاء الاصطناعي من الكشف عن المواهب، وتحديدا في بداية الألفية، قبل مونديال كوريا واليابان بشهور، كان دانيال فنكلستين، الكاتب الصحفي بالتايمز الإنجليزية، ينصت إلى الراديو أثناء القيادة في ليلة ما، واستمع بالمصادفة إلى دكتور هنري ستوتّ، بروفيسور الاقتصاد بجامعة وورويك، وهو يتحدث عن نموذج إحصائي يمكنه توقع نتائج مباريات كرة القدم. (8) (9)
فنكلستين كان كاتبا سياسيا، ولكنه كان متحمسا لكرة القدم عموما وكأس العالم خصوصا، وأثارت أفكار ستوتّ انتباهه، وفي اليوم التالي، كان في مقر التايمز يحاول إقناع رئيس التحرير باستخدام هذا النموذج في تغطية المونديال الصحفية، وقد كان.
في البداية، كان التشكك هو رد الفعل البديهي، والسخرية هي الطريقة المثلى للتعبير عنه. فنكلستين يحكي أن كل ذلك انتهى عندما وضع النموذج احتمالية قدرها 25% لفوز السنغال على فرنسا في المباراة الافتتاحية، وكيف انقلبت الطاولة على جميع الساخرين عندما انطلقت صافرة النهاية.
تحولت التغطية إلى عمود أسبوعي أطلق عليه اسم "Fink Tank"، نسبة إلى فنكلستين، في تنويع لفظي على تعبير "أحواض التفكير" (Think Tanks) الإنجليزي، وبدأت الصحف الأخرى تهتم بما يُكتب فيه، بالإضافة إلى مدربين كان لهم ثقلهم في تلك الحقبة، مثل ستيف ماكلارين وسام ألاردايس. (10)
يتذكر فنكلستين تلك الأيام الآن عندما يسمع عن نموذج تحليل رقمي جديد قد يساعد الفرق والمنتخبات على تصميم هجماتهم المرتدة، أو عندما يرى إيان غراهام، صديقه القديم ورفيق العمل في الـ"Fink Tank"، والبروفيسور الحاصل على الدكتوراه في الفيزياء النظرية من كامبريدج، يعمل جنبا إلى جنب مع يورغن كلوب في ليفربول، أو عندما يلاحظ التقدم السريع الذي يحققه المحللون التكتيكيون والإحصائيون في سلم الوظائف الحالي بالأندية، ويشعر بالفخر لأنه ساهم في هذه الطفرة بطريقة ما. (8) (11)
مايكل إدواردز، مدير ليفربول الرياضي السابق، بدأ محللا تقليديا في بورتسموث منذ عشرة أعوام أو أكثر، وآندي سكولدينغ، المحلل السابق بفولهام، يقود قسم التعاقدات في رينجرز الآن، ولورنس ستيورات، الذي يأتي من الخلفية ذاتها، يقود الآن القسم ذاته ولكن في مجموعة ريد بول كاملة، وكريس ديفيز، مساعد برندان رودجرز في ليستر، كان محللا في سوانزي قبلها.
في السنوات الأخيرة، تحرك الكثير من المحللين بسرعة قياسية في هياكل الأندية الوظيفية، وأوكلت لهم مهام أشمل وأكبر تخص فلسفة النادي وأسلوب اللعب والإدارة الرياضية. يحكي بن ستيفنز، الرئيس الحالي لقسم التعاقدات وتحليل الأداء في كريستال بالاس، وأحد أعضاء الجيل الأول للمحللين في الكرة الإنجليزية، عن الشوط الطويل الذي قطعته مؤسسات بلاده في هذه المساحة، غير مُصدق أنها انتقلت لوضعها الحالي، من وضع كان يوجه له فيه عبارات مثل "مَن أنت؟"، و"لماذا تتحدث في كرة القدم؟"، و"كم مباراة لعبت؟". (8)
المعلومات كانت ثروة حقيقية منذ فجر التاريخ، ولكن كرة القدم استعصت عليها حتى سنوات مضت، لكونها مجالا مغلقا ينضح بالمحسوبية وتفضيل الثقة، ولكنها انتزعت مكانتها الطبيعية عندما أثبتت للاعبين أن بإمكانها مساعدتهم على الحصول على راتب أعلى، ودعم موقفهم أثناء مفاوضات التجديد، بل وتقييم أداء وكلائهم نفسه بمقارنة عقودهم بعقود أقرانهم.
كل تلك المساحات كانت شديدة الرمادية فيما سبق، وكانت تعتمد بالأساس على مهارات اجتماعية ودعائية لا علاقة لها بكرة القدم. جيريمي ستيل، مؤسس شركة "أناليتكس إف سي" (Analytics FC)، التي توفر خدمات مثل تزويد اللاعبين بالدعم الإحصائي أثناء تجديد عقودهم، يقول إن علم البيانات أضاف شيئا من المصداقية لهذه المفاوضات، وبات يُعتمد عليها من قِبَل كلٍّ من النادي واللاعب لبناء حجتهم ومبرراتهم لراتب أكبر أو أقل. هذا لا يقضي على الرمادية ولا يحولها إلى معادلة حسابية دقيقة، ولكنه قطعا يقلل من عشوائية الأمر. (8)
البدايات التي يصفها فنكلستين تشبه كثيرا بدايات مشروع "واطسون" كما يصفها جو بافيت، كبير المخترعين بقسم التقنيات الناشئة في شركة "IBM" العملاقة. بالطبع أصبح رجال كرة القدم ومسؤولوها أكثر تسامحا وتقبلا للتقنيات الجديدة الآن، بعد 20 عاما من تجربة فنكلستين، ولكن الشك لا يزال حاضرا، وبدرجة أكبر الخوف من المجهول. (12)
"واطسون" هو تطبيق آخر للذكاء الاصطناعي، وما يجعله مخيفا للبعض هو شموليته المرعبة، فبمجرد ارتداء نظارات الواقع الافتراضي (Virtual Reality)، يمكنك أن تشاهد نسخة رقمية من المباراة من عينَيْ أي لاعب بالملعب، أو أي مشاهد في المدرجات، أو حتى من غرف المشاهدة الفخمة بالمقصورة، مع سماحية النفاذ إلى كل بياناتها وإحصائياتها، طبعا مع إمكانية تكبير الصورة، والتحكم الكامل في العرض.
الأهم أن "واطسون" يعتمد على واجهة محادثات بالأساس (Conversational Interface)، أي إنه بإمكانه تجهيز أي نوع من البيانات أو اللقطات بمجرد طلبها منه باللهجة العامية، وكونه ذكاء اصطناعيا فهو يتأقلم حتى على المصطلحات والأسماء المختلفة المستخدمة في كرة القدم عبر العالم.
باختصار، نحن نتحدث عن تطبيق يشبه "سيري" و"شات جي بي تي"، فقط هو أفضل بكثير، وأذكى بكثير، وأكثر تخصصا في كرة القدم، وأكثر إنسانية كذلك فيما يبدو، لأنه يُذكِّرنا بـ"واطسون" الأصلي، المساعد المخلص لشيرلوك هولمز.
في تجربة حية، تمكن روب تانر، محرر "ذي أثلتيك" (The Athletic)، من إطلاق أوامر مثل "أريد كل لقطات الكرات الثابتة في المباراة"، أو "اعرض كل أهداف جيمي فاردي من لعب مفتوح هذا الموسم"، وعُرضت تجربته كاملة في مقطع مصور وهو يرتدي نظارات الواقع الافتراضي، وكأنه مشهد من مشاهد توني ستارك في أفلام مارفل، تلك التي يتفاعل فيها مع حاسوبه الخارق "جارفيس" ليبتكر سلاحا جديدا أو معادلة للسفر عبر الزمن. (12)
الأمر كان مختلفا مع "ديفيز" (Davies)، الواجهة التي ابتكرها علماء بيانات "تحليلات كرة القدم الأميركية" (American Soccer Analysis)، لتقييم اللاعبين في كل مكان حول العالم باستخدام الإحصائيات والتحليلات الرقمية المتاحة عنهم. (13)
سُمي "ديفيز" على اسم الظهير الأيسر الكندي، تيمنا برحلة صعوده الصاروخية، والطريقة التي اكتشفه بها مسؤولو بايرن ميونيخ قبل التعاقد معه. "DAVIES" هي اختصار "Determining Added Value of Individual Effectiveness including Style of play"، وهو تنويع آخر على نموذج "الأهداف المضافة" (Goals Added) الذي يقيم كل تصرفات اللاعب الدفاعية والهجومية بناء على معيار واحد بسيط مهم؛ كم تساعد الفريق على تسجيل الأهداف في مرمى الخصم ومنع الخصم من التسجيل. (13)
النموذج الذي أعدَّه "سام غولدبرغ" و"مايك إمبورجيو" ظهر للنور لأول مرة عام 2020، وكالعادة مع كل نموذج إحصائي نوعي جديد، أتى ميسي على قمة لاعبي العالم بمواسم بأغلب المواسم التي اختبروه فيها، وتحديدا موسمي 2017-2018 و2018-2019.
بيب غوارديولا (رويترز)
حسنا، هناك الكثير من الأدوات للكثير من المهام التي كانت تحتاج إلى جيش من المحللين والكشافين لإنجازها فيما سبق، ولكن الشاهد من الأمر أن تخيلنا الأوّلي عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي، باعتبارها خطوة نحو أتْمَتَة اللعبة، قد يكون خاطئا. الأمر ليس مجرد استبدال روبرت داوني جونيور بغوارديولا، ولكن تخيل الأخير يستعين بأمثال "ديفيز" و"واطسون" لينوبوا عنه في كل العمليات الحسابية المعقدة التي لا يُجيدها، وتزويده بالبيانات الدقيقة عن كل حالة ووضعية، وكيف يمكن أن يعظم ذلك من تأثيره على لاعبيه، ويساعد شخصيته على الظهور في الملعب لدرجة غير مسبوقة، نعجز حتى عن تخيلها الآن.
فقط تخيل غوارديولا وهو يحصل على إجابات نهائية قاطعة في كل الأمور الجدلية، ويتحكم في كل التفاصيل بنفسه، ودون الحاجة إلى اجتماعات طويلة مرهقة مع فريقه الهائل، بل ودون فريقه الهائل من الأساس الذي سيتحوَّل غالبا إلى حاسوب خارق اسمه "أرتيتا" مثلا، ثم اسأل نفسك السؤال الذي نسي فِلتون وبافيت وغولدبرغ وإمبورجيو أن يسألوه لأنفسهم؛ هل سيجعله ذلك مدربا أفضل لأنه يعظم مزاياه، أم العكس لأنه -في الوقت ذاته- يضاعف عيوبه؟
الجزيرة