يكاد شهر رمضان المبارك في العاصمة الفرنسية باريس يفوق في أجوائه وعاداته بعض المدن العربية والإسلامية لما يتميز به من إقبال على اعتناق الإسلام، والأجواء الفريدة في بعض الأحياء الباريسية التي تقطنها غالبية مهاجرة مسلمة من أصول عربية، على غرار "بلفيل" و"كورون" و"برباس" و"مونتراي" و"سانت دوني" و"أوبارفيلييه" و"كاتر شومان".
وتضاهي الأجواء الرمضانية في هذه الأحياء ما تعيشه بعض المدن العربية من احتفاء بالشهر الفضيل، بل إنها تتفوق عليها أحيانا، حيث تحاول العائلات العربية المسلمة التنفيس والتعويض عن البعد الجغرافي والجسدي عن الوطن الأم، من خلال الانغماس الكلي في الأجواء الرمضانية الباريسية، واستحضار العادات والتقاليد والقيم الدينية العميقة، والمعاني والمبادئ الإنسانية التي تميز الدين الحنيف.
فعلى سبيل المثال، يتميز حي "بلفيل" ذات الحركة التجارية اللافتة، بأصوات الباعة الذين ينادون على بضاعتهم، ويرحبون بزبائنهم، ويستقبلون الشهر الفضيل على طريقتهم الخاصة إذ استقبلنا التاجر عبد الستار (49 عاما)، قائلا: "رمضان في باريس وفي بلفيل بالذات لا يضاهيه أي رمضان حتى الذي عشته من زمان في بلدي تونس"، لافتا إلى أن هذا المكان من العاصمة يتحول إلى مقصد للزبائن قبل دخول الشهر الفضيل للتزود بالمواد التموينية ذات النكهة الشرقية التي يكثر عليها الطلب بهذه المناسبة، على غرار الهريسة وزيت الزيتون والبرقوق وشريحة التين والحلوى الشامية والتمور بأنواعها، وكذلك التوابل الشرقية والمملحات والبخور والأواني الفخارية التي لا يحلو الأكل في رمضان إلا فيها.
ولفت البائع إلى انتعاش الحركة التجارية والإقبال الكبير الذي يشهده الحي من قبل الجالية المهاجرة العربية المسلمة، مما يخلق أجواء مميزة على مدى شهر رمضان، كما تكثر في "بلفيل" الواقع في الدائرة العشرين بباريس، المحلات التجارية المختصة في بيع البضائع والمواد الغذائية والحلويات الشرقية والمطاعم المختصة في المطبخ المغاربي.
بدوره، أوضح محمد (28 عاما)، العامل في أحد هذه المطاعم، أن الإقبال كبير من الجالية العربية المسلمة في رمضان، ويزداد تحسنا عاما بعد آخر، لافتا إلى أن الحركة التجارية تشهد ذروتها من بعد صلاة العصر حتى موعد آذان المغرب، خاصة في نهاية الأسبوع، حيث تحرص عوائل الجالية العربية الإسلامية في باريس وفرنسا بصفة عامة على استرجاع العادات الغذائية التقليدية، والمحافظة على الموروث الديني والقيمي الذي تربت عليه، وتحاول التغلب على ظروف الغربة القاسية بزرع هذا الموروث بكل تفاصيله الدقيقة في أذهان الأجيال الشابة المولودة في فرنسا من لباس وأكل وتعبد وصلاة وتلاوة القرآن، لا سيما أنها لم تعايش هذه العادات والأجواء من قبل في وطن آبائهم وأجدادهم.
في الإطار ذاته، أبرزت فاطمة الزهراء (45 عاما) حرصها على المحافظة على كل العادات والتقاليد والقيم المغربية التي تربت عليها، مشيرة إلى أنها تحاول بدورها زرع هذه القيم والمبادئ الأصيلة في أولادها، ولن تنجح هذه العملية إلا في الشهر الفضيل لما يمثله من اختصار، من وجهة نظرها، للقيم الإنسانية السمحة التي تميز ديننا الإسلامي الحنيف.
ولأن رمضان يمثل شهر الرحمة والتسامح والتكافل والتضامن والتعاون بين المسلمين خاصة المغتربين منهم، تصل الأنشطة الخيرية والتوعوية التثقيفية والإنسانية التي تقوم بها المؤسسات الدينية وممثلو الجاليات المسلمة في فرنسا، ذروتها.
وفي هذا السياق، أكد محمد هنيش رئيس اتحاد المساجد والجمعيات الإسلامية في باريس، أن الشهر الفضيل يمثل ذروة النشاط الاجتماعي والإنساني والديني والعلمي على كل العام لذلك تسعى المؤسسة التي يشرف عليها إلى الاقتراب أكثر ما يمكن من الجالية المسلمة لمساعدتها وتوعيتها وتحفيزها على تبني القيم الإنسانية الكبرى للدين الإسلامي، والتعريف بها لدى بقية أفراد المجتمع الفرنسي.
ولفت هنيش، إلى أن الاتحاد الذي يشرف عليه ويضم أكثر من 100 مسجد في إقليم سان دوني، يقدم الكثير من الأنشطة الدينية والمحاضرات التوعوية والخطب والدروس الفقهية والتثقيفية وفق خطة مدروسة تشمل أوقات الصلوات الخمس وصلاة التراويح والتهجد في الأيام العشرة الأواخر.
ونوه إلى تقديم الاتحاد الكثير من المساعدات الاجتماعية في رمضان من ضمنها "قفة رمضان" التي تتمتع بها أكثر من 100 عائلة، وموائد الرحمن التي توزع حوالي 450 وجبة يوميا، فضلا عن المساعدات الغذائية والمادية التي توزع صباح عيد الفطر، حيث تنتفع حوالي 500 عائلة من زكاة الفطر وفق قوائم دقيقة تضبط مسبقا وفق شروط معينة.
وختم رئيس اتحاد المساجد والجمعيات الإسلامية في باريس، حديثه لـ /قنا/، بالتأكيد على ظاهرة دينية تشهدها المساجد الباريسية في شهر رمضان، تتمثل في ارتفاع عدد معتنقي الإسلام من الأوروبيين.
وأضاف قائلا: "يحضر إلى المساجد في رمضان كل أسبوع وفي العشر الأواخر كل يوم تقريبا، مواطنون فرنسيون وأوروبيون لكي يعلنوا إسلامهم ودخولهم في دين الرحمة، متأثرين بالأفواج العظيمة التي تشهدها صلاة التراويح، وكذلك بالأجواء الرمضانية الروحانية الدينية الجميلة التي تعيشها باريس وفرنسا".