ياسر أبو غيث .. رحلة بحث موجعة بين الرفات عن مصير وحيده المفقود

mainThumb
ياسر أبو غيث .. رحلة بحث موجعة بين الرفات عن مصير وحيده المفقود

26-01-2025 02:51 PM

printIcon

أخبار اليوم - كان يقرأ الأسماء والمعلومات المكتوبة على أكفان جثامين الشهداء، يدقق في كل شيءٍ وهو يتجوّل بين 17 كفنًا لشهداءٍ وصلوا صباح الجمعة الموافق 24 يناير/ كانون ثاني بمستشفى ناصر الطبي بخان يونس جنوب قطاع غزة، يفتّش بداخل كل كفن يعاين العظام والملابس والمقتنيات التي تحضرها طواقم الإنقاذ.

على مدار ثلاثة أيام لم يتوقف ياسر أبو غيث من القدوم إلى مشرحة الجثامين بمستشفى ناصر للبحث عن نجله الوحيد محمد (17 عامًا) بعدما فقد آثاره في 18 نوفمبر/ 2024 ويعتقد أن نجله ذهب لزيارة منزله الواقع في حي "الجنيّنة" إلى الشرق من مدينة رفح واختفت آثاره منذ تلك المدة، لكن لم يكن نجله موجودً ضمن هذه الدفعة من الجثامين.

بملامح مليئة بوجع أبٍ يواصل البحث وحزنٍ يحفر مخالبه داخل قلبه على عدم الوصول لأية معلومة تنهي رحلة بحث موجعة، يروي لصحيفة "فلسطين" قصته بينما كان يوشك على مغادرة المكان: "جئت لأبحث بين عظام الشهداء لعلي وعسى أجده لكن للأسف لم يكن موجودًا. الحمد لله على كل حال، لكن يبقى لدينا أمل أن يكون أسيرًا طالما لم تظهر آثاره، وأعتقد أنه ذهب لرفح لجلب شيء من البيت".

رحلة لم تنتهِ

وبعد إعلان وقف إطلاق النار في 19 يناير/ كانون ثاني الجاري، وبينما كان الناس يتوقون لاحتضان منازلهم أو الوقوف على أنقاضها، واصل أبو غيث رحلته التي لم تنته في البحث عن مصيره وحيده المفقود، "عندما وصلت البيت بحثت بين الركام طويلاً وفي محيط البيت وفي الشوارع وبالمستشفيات بين عظام الشهداء ولم أجده، وطالما لم يأتِ أو لم أجده يبقى لدينا أمل" يقول فيما يحاول حبس دموعه.

ونجله محمد من حفظة القرآن الكريم ومن المُحفْظين له بمسجد الحي، ومن الأوائل في مدرسته لم يكن اسمه يغيب عن لوحات الشرف بالمدرسة، بار بوالديه، منذ أكثر من 60 يومًا لم يترك والده مكانًا إلا وسأل عنه.

لمعت عيناه بدموع وقال بصوت متحشرج بالبكاء وهو يستحضر رحلة بحثه الطويلة: "وصلت لأماكن في بحث لا شعوري في الشوارع قريبة من الخطر، سألت الناس الأطباء، والمشرحة، لم أترك مكانًا إلا وذهبت عنه حتى ربما اشفقت الحجارة والطيور في بحثي".

عن آخر اللحظات، تداهمه دمعة سالت من عينيه ورافقت صوته "كنت في العمل وعندما عدت سألت أمه عنه، فقال: "تناول الغداء وسرح شعره وخرج" واستغربت أنه نظر إليها نظرة لم تفهمها، اعتقدت أنه خرج في مشوار سيعود، فمر المغرب والعشاء ولم يعد وفي اليوم التالي أبلغت اللجنة الدولية لـ "الصليب الأحمر" الذين أفادوا بعدم معرفتهم شيء عنه ومضى شهران وللآن يصارعني القلق والأفكار".

أمر جلل

ينظر الأب المكلوم تجاه الأكفان المتراصة أمامه داخل المشرحة، قائلا: "الوحيد الذي يفتح سحابات الأكفان ويفتش هو الأب، لأن الدافع لذلك حياة ومصير، وفي حالتي أبحث عن ابني الوحيد من الذكور إضافة لثلاث بنات ربيته من عيني وقلبي ومشاعري وأحساسي، وبفقده أخذ قلبي وقلب أمه وحياتنا ووجداننا معه، فالأمر جلل لكن بنفس الوقت نؤمن بقضاء الله وقدره".

وتواصل طواقم الإنقاذ منذ سريان اتفاق وقف إطلاق النار بإحضار الجثامين لمجمع ناصر الطبي ومستشفى غزة الأوروبي على دفعات مختلفة، لم يغب أبو غيث عن تفقد كل الرفات ولم يتخلف عن أي دفعها أحضرتها الطواقم، حتى أشفق عليه الناس والعاملين بالمكان وبات وجهًا مألوفًا يعرفه الجميع عندما يصل المكان، ولا يملكون سوى مواساته بعبارات مليئة بالصبر والاحتساب التي يتحلى الرجل فيها، بينما لا يشعر بنار تكويه سوى من مرّ بما يعيشه.

في خروجه من المنزل ارتدى الفتى ملابس علوية برتقالية صيفية وفوقها سترة "ترنق" وبنطالا أسودًا، وفي قدمه حذاء مكشوف به رقعة من الأسفل وكان يرتدي قبعة، تلك العلامات يأمل أبو غيث أن تساعده في إيجاده لو كان نجله شهيدًا.

ومع تحلل جثامين الشهداء تحضر طواقم الدفاع المدني والإسعافات أثناء انتشال الجثامين كل ما تجده في المكان من عظام ومقتنيات وملابس مع تدوين ملاحظات لمساعدة الأهالي في التعرف الظاهري بالنظر بالعين على رفات أبنائهم، وبعضهم يستطيع التعرف من وجود آثار عمليات كمثبت عظام (بلاتين) في الكفن أو من خلال الأسنان.

النظر لتلك التفاصيل المؤلمة برؤية الهياكل العظمية يترك بداخل أبو غيث أثرًا قاسيًا يتجلى فيه مشاهد إبادة جماعية لم يكن يحلم أهل غزة برؤيتها في يوم من الأيام إلا بحرب إبادة جماعية تجاوزت حدود الإجرام، قتل الاحتلال خلالها كل شيء متحرك في غزة.

كما منع طواقم الإسعاف من انتشال الجثامين فتُرِكَ المصابون ينزفون حتى الاستشهاد وتحللت الجثامين التي نهشتها الكلاب الضالة والقطط، وكما أجرم الاحتلال بأهالي القطاع وهم أحياء واصل إجرامه بمنع تكريمهم بالدفن وهم شهداء لتتجلى فاشية الاحتلال ونازيته وبقيت العظام والملابس الممزقة آخر بقايا استدلال الأهالي على أبنائهم.

المصدر / فلسطين أون لاين



news image