الكاتب : المفتي الدكتور لؤي الصميعات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،
فإن معجزة الإسراء والمعراج واحدة من أعظم المعجزات التي أكرم الله بها النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، حيث يوجد في طياتها إشارات إلهية عظيمة وكريمة خاصة لأمة الإسلام، ومن بين المكرمات التي اختص الله تعالى المسلمين بها في هذه الليلة المباركة كانت الصلاة. والصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، والمعلوم الثابت أنها فرضت على المسلمين في ليلة الإسراء والمعراج التي أكرم الله تعالى بها نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ففي حديث مسلم: (فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس..) رواه مسلم. وفي رواية عند الترمذي: (فأعطاه الله عندها ثلاثا لم يعطهن نبيا كان قبله..) رواه الترمذي. وفيها صلى النبي صلى الله عليه وسلم بجميع الأنبياء إماماً، فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قط)، قال: (فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب، جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي، أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم -يعني نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم) رواه مسلم.
ومن عظيم المكرمات في ليلة الإسراء والمعراج أن الصلاة فرضت خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم خففت إلى خمس صلوات بأجر خمسين صلاة، وذلك إشارة من سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يطلب من الله تعالى تخفيفها قائلا له: "إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك" رواه البخاري، فسأله فخففها الله تعالى إلى خمس صلوات ونادى المنادي: (أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي) رواه البخاري.
والصلاة كانت مفروضة قبل رحلة الإسراء والمعراج ركعتين صباحا وركعتين مساء، يقول ابن حجر: "والأحاديث الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة قبل الإسراء كثيرة. لكن قد قيل: إنه كان قد فرض عليه ركعتان في أول النهار وركعتان في آخره فقط، ثم افترضت عليه الصلوات الخمس ليلة الإسراء، قاله مقاتل وغيره، وقال قتادة: كان بدء الصلاة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي" [ابن رجب، فتح الباري 2/ 304].
والذي أريد الوقوف عليه هنا هو بيان لأهمية الصلاة وفضيلتها في دين الله الإسلام ومنها:
أولاً: الصلاة هي أول الواجبات من العبادات العملية، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من أعماله، فعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: (إنَّ أوَّلَ ما يُحاسَبُ به العَبدُ يَومَ القيامةِ من عَمَلِه صَلاتُه؛ فإن صَلَحَت فقد أفلَحَ وأنجَحَ، وإن فسَدَتَ فقد خابَ وخَسِرَ، فإنِ انتَقَصَ من فريضَتِه شَيئًا، قال الرَّبُّ تَبارَك وتعالى: انظُروا هَل لعَبْدي من تَطَوُّعٍ، فيُكملُ بها ما انتَقَصَ من الفَريضةِ، ثُمَّ يَكونُ سائِرُ عَمَلِه على ذلك) رواه الترمذي.
ثانياً: الصلاة هي آخر وصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن علي بن أبي طالب قال: (كان آخر ُكلامِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الصلاةَ الصلاةَ! اتقوا اللهَ فيما ملكت أيمانُكم) رواه أبو داود، وهي آخر ما سيهدم من الدين أي ما سيتركه المسلمون من عبادة الله تعالى، فعن أبي أمامة الباهلي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة) رواه أحمد.
ثالثاً: الصلاة هي عمود الدين، ففي حديث معاذ بن جبل قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده، وذروة سنامه) ؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد) رواه الترمذي. ومن هنا فمن أقام الصلاة أقام الدين ومن هدمها هدم الدين.
رابعاً: من حافظ عليها كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليها فليس له عهد عند الله فإما أن يغفر له وإما أن يعذبه. فعن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة) رواه أبو داود.
خامساً: نجد في القرآن الكريم أن الله تعالى يفتتح بها أعمال البر والخير ويختتم بها أعمال البر والخير، وفي هذا يقول الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ* أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 1- 11].
سادساً: تجب الصلاة على المسلم البالغ العاقل في جميع أحواله:
• في حال السلم والحرب يقول الله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) [النساء: 102].
• وفي حال الصحة والمرض، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه البخاري.
• وفي حال الحضر والسفر يقول الله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) [النساء: 101].
• وتجب الطهارة على المسلم قبل الصلاة بالغسل –إذا كان محدثاً حدثاً أكبر- أو الوضوء -حال الحدث الأصغر- وإن عجز عنهما فعليه بالتيمم، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 6]، وقرر الفقهاء أنه إن عجز عن الطهارة الكاملة بما سبق فعليه أن يصلي ولا يترك الصلاة وسموه فاقد الطهورين.
سابعاً: الصلوات الخمس كانت مفرقة على بعض الأنبياء والمرسلين، كل صلاة تخص نبياً أو رسولاً ثم جمعت هذه الصلوات لنبينا صلى الله عليه وسلم وأمته تكريماً وتشريفاً لهم، جاء في [مغني المحتاج 1/ 297]: "الصبح كانت صلاة آدم، والظهر كانت صلاة داود، والعصر كانت صلاة سليمان، والمغرب كانت صلاة يعقوب، والعشاء كانت صلاة يونس، وأورد في ذلك خبرا، فجمع الله سبحانه وتعالى جميع ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم ولأمته تعظيما له ولكثرة الأجور له ولأمته".
ثامناً: أمر الإسلام المسلم بالصلاة التي هي صلة بينه وبين ربه عز وجل، وحثه على صلاة الجماعة التي هي صلة بين المسلمين وبين ربهم عز وجل، وبين بعضهم البعض، يلتقون في بيوت الله تعالى، لذا جاء الأمر مرة بالإفراد ومرة بالجمع كما في قول الله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء: 78]، وقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة: 43]، وأكدها على أعيان المسلمين يوم الجمعة خاصة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة: 9].
ومن هنا فإن معجزة الإسراء والمعراج هي معجزة الصلاة، والمجتمع المسلم الذي تقام فيه الصلاة مجتمع نظيف يحبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لذلك أمرنا الله تعالى بالمحافظة عليها فقال: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]. وحذرنا من إضاعتها أو التفريط بها، فقال: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 59]، وقال: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون: 4- 5]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حافظ عليها، كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها، لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف) رواه أحمد.