سهم محمد العبادي
المقبرة... هذا المكان الذي كان يومًا ما درسًا صارمًا للحياة، تحوّل الآن إلى محطة باهتة، مملة، ومجردة من كل رهبة. أصبح مجرد طريق عابر، توقف مؤقتاً لا يثير سوى فتور المشاعر وسرعة الانصراف.
هنا، حيث كان التراب يعانق دموع الأمهات، بات التراب بالكاد يهتز لخطوات اللاهين. الوجوه التي كانت تحني رؤوسها احترامًا للموتى، باتت تميل بكسل نحو شاشات الهواتف، تتصفح صورًا أو تُنهي مكالمات مستعجلة: "أيوه يا زلمة، دقيقة، إحنا بالمقبرة".
أما أهل الميت، فهم القصة الحقيقية. يقفون عند الحفرة كأعمدة متصدعة، تحاول الصمود في وجه الريح. يرمون التراب، حفنة بحفنة، وكأنهم يدفنون قلوبهم مع الفقيد. بينما خلفهم، المشهد مختلف تمامًا: هناك من يتحدث عن مبيعات الأسبوع الماضي، وآخر يناقش تفاصيل مباراة كرة القدم، وثالث يقهقه بخفة على نكتة عابرة، متناسيًا التراب الذي قد يُغلق عليه هو الآخر قريبًا.
ضحكات في حضرة الموت؟ نعم، أصبح الأمر طبيعيًا. عند أطراف المقبرة، تتجمع "حلقات اجتماعية" تناقش كل شيء إلا الموت. أحدهم يقول لصديقه: "يا رجل، قلتلك بدها جمعة!"، وآخر يسأل عن مكان لتناول الغداء بعد انتهاء "المهمة". وكأن المقبرة أصبحت محطة استراحة بين جدول مزدحم بالأنشطة والزيارات.
الموت، الذي كان يومًا وحشًا يلاحقنا في أحلامنا، بات اليوم مجرد حدث في دفتر المواعيد. القبور التي كانت تهز أعماقنا، وتُجبرنا على إعادة حساباتنا، أصبحت مجرد حفر تُغلق بسرعة وكأن الحاضرين يريدون الهروب من حقيقتها بأسرع وقت ممكن.
نحن، يا سادة، أبطال مسرحية هزلية تُعرض على خشبة المقابر. نأتي ونغادر دون أن نفهم شيئًا. نتظاهر بالحزن، ونضع علامات التعبير الجاد على وجوهنا، ثم نعود إلى حياتنا وكأننا لم نقف قبل دقائق على أعتاب الأبدية.
المقبرة ليست مجرد حفرة تُردم بالتراب. المقبرة هي درس، لوحة عارية من الزيف، تذكّرنا بأننا مجرد زائرين مؤقتين. ولكن، يبدو أننا فقدنا القدرة على القراءة، وأصبحنا عاجزين عن استيعاب الحقيقة البسيطة: الدور قادم، وكلنا في انتظار التذكرة.
اليوم، نحن نقف على حافة الحفرة، نثرثر ونضحك، وغدًا سنكون الحفرة ذاتها. لكن، من سيتذكرنا؟ ومن سيحضر ليؤدي "الواجب" ونحن تحت التراب؟
المقبرة ليست فقط مرآة تكشف زيف مشاعرنا، بل هي نافذة تُطل على حقيقتنا العارية... على هشاشتنا، على عبثيتنا. كلنا ذاهبون، ولكن يبدو أننا أضعنا الطريق، أو ربما، نسينا أننا كنا دائمًا في طريق العودة.