سهم محمد العبادي
في الأردن، تبدأ قصة الشتاء عند "الفوجيكا"، وتحديدًا عند الجالون الذي يقف الأب أمامه في محطة الكاز كأنه يسدد أقساط دفء العائلة على دفعات. يحمل الجالون الفارغ بيد، وفي اليد الأخرى يحمل خوفه من أن لا يكفي ما في جيبه لإعادة ملئه.
محطات الكاز ليست مجرد مكان لتعبئة الوقود، بل مشهد مصغر عن معاناة شعب بأكمله. ترى وجوهًا متعبة تقف بالدور، كل واحد منهم يختصر في نظراته قصة طويلة: راتب بالكاد يكفي، أطفال يئنون من البرد، وأم تنتظر بفارغ الصبر عودة الصوبة إلى الحياة.
في البيوت، تكون "الفوجيكا" هي بطلة المشهد. غرفة ضيقة تجمع الأسرة كلها حولها، كأنها نار مقدسة تنثر دفئها بالتقسيط. الأم تغلق النوافذ بإحكام وكأنها تحمي آخر نفس من الحرارة، الأطفال يتقافزون بحثًا عن أقرب بقعة دافئة، والأب ينظر بحذر إلى ما تبقى من الكاز في الخزان وكأنه يراقب عدّاد عمر الصوبة.
"الفوجيكا" ليست مجرد صوبة، بل هي مطبخ الشتاء. فوقها تُطهى قلاية البندورة، تلك الوجبة التي توحد الأردنيين جميعًا، كأنها إعلان دفء عائلي على نار صغيرة. على نارها أيضًا تُدفأ الملابس التي بللها المطر، وتُطهى شوربة العدس التي تغذي البرد أكثر مما تغذي الجوع.
ولكن الشتاء في الأردن ليس مجرد برد خارجي، بل برد يزحف نحو الجيوب أولًا. المشكلة ليست فقط في البرد الذي يهاجم البيوت، بل في ذلك البرد الذي يجمد الخيارات أمام العائلات. الكاز الذي كان يُشترى دون حسابات، صار اليوم كأنه يُباع بالقطارة، وكل لتر يضاف إلى الجالون هو يوم إضافي من التدفئة المؤجلة.
نحن شعب نعرف كيف نقاوم البرد بوسائلنا البسيطة. ننام مبكرًا لنوفر الكاز، نصنع دفء العائلة حول صوبة واحدة، نُطفئ الأنوار لنترك "الفوجيكا" تتحدث عن الشتاء بلغتها الخاصة. لكن الصمود ليس بلا حدود، والبرد ليس خصمًا يسهل كسره.
أيها المسؤولون، "الفوجيكا" ليست مجرد صوبة، بل حياة بأكملها. صحيح أن سعر الكاز ثابت، لكنه ثابت أمام ظروف اقتصادية تكسر ظهور الناس. كل يوم تزداد العائلات التي تحتاج إلى دفء، إلى قلاية بندورة على نار هادئة، وإلى جالون كاز لا يكون عبئًا آخر على أكتافها.
برد الأردن ليس بردًا عاديًا، هو امتحان للصبر، وللقدرة على أن تصمد العائلة تحت وهج "الفوجيكا" الأخير. دعوا الناس يقاومون البرد بكرامة، خففوا عنهم عبء الشتاء، واجعلوا نار "الفوجيكا" تستمر، لأنها آخر ما تبقى في معركة الدفء.