الوزني يكتب: فلسفة المديونية المُقَنّعة والمُبطَّنة

mainThumb
* أ.د. خالد واصف الوزني

01-01-2025 03:45 PM

printIcon

تبدأ القصة في ظروف صعبة، يكون فيها من اعتاد مساعدتك مشغولاً بشؤونه الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو السياسية، أو تمَّ إشغاله بها، أو طُلِبَ منه الانشغال بها.

وتكون المطالب والاحتياجات قد تفاقمت لديك دون ضبط أو ربط؛ فقد أدمنت الإنفاق عليها معتمداً على ما تعوَّدت من مساعدات أو معونات من هذا أو من ذاك، وباتت المعيشة والتمدُّد خارج النسق وخارج القدرة المالية مسألة معهودة ومطلوبة، بل باتت أسلوب حياة ألفتهُ العامة، ولن تعود لتقبل بأقل منه أو أدنى من درجته، حينها ومع انقطاع المَدد المعهود والمأمول والمنشود من الجار والصديق، يدخل صاحب السطوة والمال في إغراءات الديون السهلة والمُيسّرة وقليلة التكاليف، بل والمكفولة أحياناً من كبير الممولين العالميين، ويكون ما عليك إلا الاستمرار بعدم الضبط أو الترشيد أو الربط، مقابل الحصول على ما تشاء من الديون.

تختار مَن تشاء، في ظل تقارير دولية موجَّهة ومُدبّرة وموثّقة، بأنك صالح للاستدانة، ومُصَنَّف لجميع أذواق ورغبات الدائنين، خاصة مع شهادة قوة ومنعة وصمود، وشهادات حُسن أداء من أقوى اللاعبين الدوليين، الموجَّهين عن بُعد، و"المُأدلجين" من الداخل عن قُرب. الشاهد أنَّ ما لديك من موجودات وطنية غير ملموسة، مطلوب لهم جميعاً، موجوداتك في سعة الاحتواء، وقبول ودمج المتدفقين عبر الحدود، والإباء، والمواقف الوطنية والقومية، وإرث الوِصاية، وجميعها مطلوبات ثمينة يسعى وراءها الكثيرون ممَّن تُحب أو لا تُحب.

بيد أنك كلما وصلت إلى حدٍّ من المديونية فتحوا لك حدوداً جديدة، حتى يتأكدوا من أنك غارق بها غرقَ مَن لا يمكن إنقاذه من جار أو صديق، حتى لو رغبوا أو سعوا إلى ذلك سبيلاً؛ لأنَّ ديونك، المُبطّنة والمُقنّعة، باتت عشرات أضعاف ما كانوا يقدِّمونه، أو ما يقدرون عليه، أو ما يمكن أن يُسمح لهم بتقديمه.

لكن للديون مَن يطالب بها، ولن يطالب بها إلا إذا باتت صعبة التحصيل، أو الاسترجاع، أو الإنقاذ. فهو لا يريد سدادها نقداً، ولا عبر التقسيط، أو الجدولة، حتى لو بكلف وعوائد أكبر. وهي باتت تتجاوز إمكانات السداد، وقدرات السداد، ومعطيات الجدولة، أو حتى المبادلة بأصول ملموسة، عبر الاستثمار المجدي ذي العوائد الكبرى.

هذا كله يكون الحال حينما تكون أقساط الديون وخدماتها تتجاوز نصف موازنتك السنوية، وهي مديونية تجارية ذات أسباب استهلاكية بحتة، ونفقات جارية منفلتة، ونتاج التمدُّد خارج النسق، وبما يتجاوز اللحاف والسرير ذاته، وحين يبقى جميع الطامعين، برغم ذلك، على نسقهم في مزيدٍ من الديون والتكفيل والتوريط. وما أن تطمئن إلى ذلك كله يأتي يوم الحساب، وعندها لن تكون الأموال متوافرة لك من أيِّ مصدر، عندها تأتي المطالبة بالسداد عبر موجوداتك غير الملموسة، وإلا دفع الاقتصاد بكافة قطاعاته الثمن؛ لأنَّ الفاتورة أكبر من أن تتجاوزها، أو ترفض سدادها. المعضلة، أنك ما زلت تطلب المزيد من الديون، وترفض إدارة رصيدها القائم بشكل سليم، وتعتمد على النهج نفسه، والناهجين والممنهجين أنفسهما. بارقة الأمل اليوم أنك ما زلت مطمعاً للدائنين، فإمّا أن تلجأ إلى الحلول، أو تبقى على المُنحَدرِ نفسه.

* أ.د. خالد واصف الوزني
أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
khwazani@gmail.com