أخبار اليوم - "إحنا بنموت، وفش حد مدور علينا" هذه صرخة في وجه الموت والصمت أطلقها مدير مستشفى كمال عدوان في شمال قطاع غزة قبل أيام، د. حسام أبو صفية، وبعد وصول الوضع في داخل المشفى لمستوى كارثي، لكنها صرخة لم تغادر المشفى أمام عالم وقف مقيدا صامتا تجاه المجازر التي يرتكبها الاحتلال شمال القطاع من قتل ونسف للمباني وتدمير المنظومة الصحية.
في داخل المشفى يتعرض المرضى لخطر الموت جوعا، ويتكدسون في ممرات المشفى، بلا طعام أو دواء أو مياه صالحة للشرب، لا يستطيعون دفن الشهداء الذين تنتشر جثامينهم في الشوارع وتنهشهم الكلاب الضالة، فضلا عن القصف المتواصل في محيط المشفى أو لمرافق فيه، واستخدام "الروبوتات المتفجرة" لإرعاب عشرات المرضى والمصابين داخل المشفى.
وتشتد المجاعة في شمال القطاع مع استمرار منع إدخال المساعدات، فحسب منظمة "أوكسفام" سمح الاحتلال بإدخال 12 شاحنة مساعدات إنسانية على مدار شهرين ونصف، مؤكدةً، وجود تأخيرات متعمدة وعمليات عرقلة لجهودها، في بعض الحالات جرى استهداف المدارس بعد ساعات قليلة من توزيع الطعام والماء فيها.
وقال أبو صفية: "إن الدبابات والجرافات اقتربت الأحد من البوابة الغربية للمستشفى وسط إطلاق نار كثيف، وإن الرصاص اخترقت وحدة العناية المركزة وقسم الولادة وقسم الجراحة المتخصصة.
ولا زال شبح المجزرة التي ارتكبها الاحتلال في ديسمبر/ كانون أول 2023، بدفن مصابين فلسطينيين أحياء في ساحة مستشفى كمال عدوان، ماثلة أمام المرضى والمصابين خشية تكرار المجزرة.
ومع ساعات الليل تشتد المخاطرة والرعب الشديد، فلا تهدأ أصوات الانفجارات وإطلاق الرصاص، ويتكدس المصابون في الممرات لتفادي تكرار إصابتهم بنيران مسيرّات الاحتلال التي لا تتوقف عن استهداف النوافذ، فتسلب نوم الأطفال والنساء والشيوخ.
"في الليل نعيش أهوالا كيوم القيامة، مع كل انفجار تهتز الجدران، نخشى لحظة الاقتحام في أي وقت، وتزداد أوجاعنا مع قلة الدواء والعلاج" يرسم صائب وهو مصاب فقد أمه وشقيقاته في مجزرة ارتكبها الاحتلال قبل أسبوعين شمال القطاع صورة للحياة داخل المشفى.
بصعوبة ومشيًا على الأقدام وصل ناصر، إلى المشفى، نجى من المجزرة لكنه لم ينجُ من ألم الفقد ومن واقع صعب يحتار في إيجاد وصف مناسب له، "حتى اللحظة لا نعلم ماذا سيحدث لنا، الممرضون هنا يحاولون تقديم العلاج لنا ولا يتركوننا رغم المخاطر الكبيرة".
ويتابع "لا يمكن وصف حياة تشتد عليك كل الظروف، فلا طعام تستطيع فيه استعادة قواك، ولا مياه صالحة للشرب تستطيع شربها، ولا دواء يسكن أوجاعك، شدة القصف وحدوث الانفجارات مخيفة للأطفال والنساء ولنا نحن".
أما محمد الشريف وهو صحفي متواجد داخل المشفى، أصبح صوتًا لما يحدث شمال القطاع من قتل وتهجير وتدمير، يعيش محاصرًا مع نحو 91 مريضا ومصابًا في وضع كارثي ومجاعة تفتك بأجسادهم.
أوضاع كارثية
ينقل الشريف لصحيفة "فلسطين" صورة الوضع داخل المشفى، قائلاً: إن "الأوضاع هنا كارثية، تحديدا قسم الأطفال فيعانون من سوء تغذية، واستمرار استهداف الاحتلال للمنظومة الصحية من خلال زرع الروبوتات المتفجرة وحرق منازل المواطنين المحيطة صباحا ومساءًا".
ومنذ أكثر من 77 يومًا، يلفت الشريف إلى أنه لم يدخل المشفى شربة ماء أو رغيف خبز، وتفاقم الوضع بعد استهداف الاحتلال لمحطة التحلية الوحيدة التي كانت تعمل بالمشفى، بالتالي يشرب المصابون والمرضى من مياه البئر، خاصة مع قرب نفاد الطعام الموجود، بالتالي يتم توزيع طعام بكميات محدودة من العدس والمعكرونة.
ومع منع الاحتلال لطواقم الدفاع المدني والإسعافات من العمل شمال القطاع، لا تستطيع الطواقم الطبية انتشال الشهداء أو نقل المصابين، الذين وصل بعضهم مشيًا إلى المشفى فيما بقي الكثير منهم ينزفون حتى الموت والاستشهاد.
وأضاف "في داخل المشفى هناك حالة رعب لدى الأطفال وكبار السن والنساء، نتيجة الاستهداف المباشر للمشفى، فيقوم الاحتلال بزرع البراميل المتفجرة وحرق المنازل وتجريفها، والاستهداف المتعمد لأقسام العناية والحضانة، بواسطة مسيرَّات الاحتلال (كواد كابتر) التي تواصل إطلاق الرصاص داخل المشفى وعلى الزجاج".
وإضافة للطائرات المسيرّة، كما تابع، لا يتوقف الاحتلال عن إطلاق القذائف الصوتية ورصاص القناصين، والآليات مما يسبب أضرارا بالزجاج ومرافق وأقسام المشفى والتي كان آخرها حرق أجزاء من قسم العناية.
عن العلاج، أشار الشريف إلى أن العلاج شحيح وتقدم المشفى خدمة العلاج بالحد الأدنى والإمكانيات المتاحة، مما يهدد حياة المرضى في حال نفدت الكميات المتاحة، لافتا إلى أن جميع المرضى والمصابين من أطفال ونساء وشيوخ بحاجة لرعاية مستمرة وهي غير ممكنة إلا بالحد الأدنى.
من منزله والواقع نهاية شارع الجلاء شمال مدينة غزة، تظهر أثار الدخان المنبعثة من نفس المنازل في مخيم جباليا وبلدة بيت لاهيا واضحة للمواطن أحمد الذي يؤوي في منزله نازحين.
مناطق خطرة
على مرأى من الشاب الذي بات منزله يعد في منطقة فاصلة وخطرة، حاول مجموعة من المواطنين الوصول لمنازلهم وتفقدها بالمنطقة قبل أيام، فقصفتهم إحدى المسيرّات بصاروخين حولتهم إلى أشلاء متناثرة، رغم أنهم حاولوا مشاهدة منازلهم عن بعد.
ولم تعد الحركة في شمال القطاع هي الخطرة على المواطنين فقط، بل يعيش السكان في منطقة "أبو سكندر" وشارع الجلاء في وضع صعب، اضطر الكثير منهم للنزوح، وباتت منطقة الصفطاوي شبه مهجورة من السكان في ظل وصول الآليات التي تفصل شمال القطاع عن مدينة غزة إليه، واقتحامها لشوارعه وتدمير منازل المواطنين.
ويوميا خاصة مع ساعات الليل، ومع تقدم الآليات بشكل واضح ومسموع، تبدأ بإطلاق النيران على منازل المواطنين لساعات متواصلة دون توقف، مما يثير الخوف والرعب والقلق في قلوب الأطفال والنساء، ويترك أثرا سلبيا كبيرا في نفوس الأطفال.
وقال أحمد لـ "فلسطين": "هناك عشرات الشهداء ارتقوا في منطقتنا والمئات أصيبوا، والمعروفة بأسماء شوارع "الجلاء، والشارع الثالث، حتى مفترق الغزالي، ومدرسة حليمة السعدية"، وتضررت منازل المواطنين من كثرة إطلاق الرصاص العشوائي من الآليات والمسيرات والطائرات".
ولفت إلى أن الأسواق بالمدينة انعدمت، فبعض الخضار كانت تأتي من شمال القطاع ويعوض بها المواطنون النقص، وضاعف تكدس النازحين من شمال القطاع لمدينة غزة وأحيائها أزمة نقص الغذاء والمال.
وزادت وتيرة أزمة المياه، بعد خضوع محطتي "ياسين والرضوان" ضمن منطقة الاخلاء منذ شهرين متتالين وتعذر وصول سيارات المياه لها، مما فاقم المشكلة والأزمة الموجودة أصلا.
وتابع: "هذه الحرب بالذات استهدفت الطفولة وبراءتها بشكل مقصود، فكل طفل يعرف المعنى الحقيقي للرعب والخوف وحالات القلق والإرباك الناتج عن المجازر اليومية بحقهم، والكوارث النفسية والصحية التي أحدثها الحرب فيهم".