أخبار اليوم - سهم محمد العبادي - حين تقف أمام قلعة الكرك، تشعر أنها ما زالت تنبض بصوت الرصاص وصدى المعركة.. تشعر وكأن حجارتها تروي لك كيف احتضنت البطولة يوم ارتقى الشهداء، وكيف تحوّلت تلك البقعة التاريخية إلى مسرح ملحمة خالدة، لا تُمحى من ذاكرة الأردنيين، بل تُروى للأجيال القادمة على أنها درس من دروس الوفاء والتضحية.
اليوم نعود إلى ذكرى أحداث الكرك، لا لنستعيد وجع الفقد، فهو حاضرٌ معنا دائمًا، بل لنجدد العهد مع من صعدوا إلى السماء وتركوا الوطن أمانة في أعناقنا.. سائد المعايطة، محمد البنوي، شافي الشرفات، يزن صعنون، صهيب السواعير، علاء النعيمات، حاكم الحراسيس.. أولئك الذين حملوا راية الشرف على أكتافهم، وسطروا بدمائهم قصة الصمود والكرامة.
القصة بدأت برائحة الغدر
في ظهيرة يومٍ بارد، حيث كنّا نعيش روتيننا المعتاد، كانت خلية من عصابة داعش الإرهابية تُعدّ للغدر.. تسلّلوا إلى بلدة القطرانة واختبأوا بيننا، لم يملكوا شرف المواجهة فاختاروا غدر الظهر. هناك، حين شمّ مواطن رائحة البارود، كان الأردن بأكمله يتهيأ للرد. الأمن والدرك ما إن سمعوا نداء الواجب، حتى لبّوا النداء دون تردد.
ركبوا مركباتهم، وتوجّهوا صوب الكرك وكأنهم على موعدٍ مع البطولة. ظنّ الإرهابيون أن القلعة القديمة ستحميهم، وأن سطور التاريخ ستقف معهم، لكنّهم لم يعرفوا أن تلك القلعة ترفض الغزاة وتتبرأ من كل من يحمل الخيانة بين أضلعه.
قلعة الكرك.. حجارة تحكي البطولة
دخل الإرهابيون القلعة، وتحصّنوا بين زواياها، لكن رجال الأردن لم يتراجعوا. من سائد المعايطة الذي أصرّ أن يكون أول الداخلين وآخر الخارجين، إلى محمد البنوي ورفاقه الذين تسابقوا نحو الموت كما لو أنهم في سباق مجدٍ لا ينتهي.
رصاص المعركة كان يملأ السماء، والزغاريد كانت تتعالى بين أمهات الشهداء، رغم الألم.. لأننا في الأردن نعرف كيف نفرح بالبطولة حتى لو كان ثمنها الدموع.
الشهداء لا يموتون.. هم النور الباقي
سائد المعايطة لم يعد اسمًا عابرًا، بل صار أسد الكرك وأيقونتها، اسم يرافقه المجد أينما ذُكر. محمد البنوي ورفاقه، صاروا عناوين العزّ على دفاتر الأردنيين.. غادروا في يوم كانوا قادرين على التراجع فيه، لكنهم اختاروا أن يتركوا خلفهم إرثًا من البطولة والفداء.
ومعهم رحل اثنان من أبناء الكرك، إبراهيم البشابشة وضياء الشمايلة، اللذان كانا شاهدين على تلك المعركة. وحتى السائحة الكندية التي شاء القدر أن تكون هناك.. ارتقت شهيدة شاهدة على أن الإرهاب لا دين له، ولا يعرف حدودًا.
العدالة تأخذ حق الوطن
بعد أيام الحزن، وقف القضاء الأردني شامخًا وأصدر حكمه على القتلة.. خالد وحمزة المجالي، المخططان للهجوم، نُفذ فيهم حكم الإعدام ليكونا عبرة لكل من يحاول العبث بأمن الأردن. حكمٌ جاء ليشفي غليل الأمهات، وليؤكد أن العدالة لا تُساوم ولا تنام حين يكون الوطن هو الضحية.
في الذكرى.. العهد يتجدد
اليوم، نقف أمام قلعة الكرك، ننظر إلى حجارتها ونتخيل يوم كانت صرخات الشهداء تملأ المكان، ننظر إلى ملامحهم المشرقة في صورهم التي تزيّن القلوب قبل الجدران.
سائد ورفاقه علّمونا أن الأوطان تُحمى بالرجال، وأن الأردن ليس مجرّد اسم على خارطة، بل هو روح تتجسد في كل شهيد ارتقى من أجله.
الأردن عصيّ على الإرهاب
اليوم نقول لكل من تسوّل له نفسه: الأردن ليس مرتعًا للغدر، وقلعة الكرك ليست مكانًا للاختباء. هذه البلاد التي تُزهر بدماء شهدائها ستظل عصيةً على الإرهاب، ومن يختبر صبرها سيجد رجالًا يحوّلون الغدر إلى بطولة، والخوف إلى مجد.
رحم الله شهداءنا الأبرار، وأبقى ذكراهم خالدة في القلوب. هذا الوطن الذي تحميه أرواح الشهداء، سيظل شامخًا، لا ينحني ولا ينكسر أبدًا. سلام على أرواحكم الطاهرة، وسلام على الكرك، التي ما زالت تروي حكايتكم.