زيتون الأردن .. شجرة الوطن التي تروي حكاية الأرض والهوية

mainThumb
سهم محمد العبادي

14-12-2024 10:23 PM

printIcon


سهم محمد العبادي
عندما تمرّ بحواكير القرى في موسم الزيتون، تفوح من الأرض رائحة تشبه رائحة الأمهات حين يخبزن على الصاج.
الزيتون ليس مجرد شجرة في بلادنا، إنه ذاكرة وطن، وإن أردت فهم الأردني حقًا، فما عليك سوى أن تجلس قرب معصرة زيتون، وترى كيف يتحدث الفلاح عن الشجرة كأنه يتحدث عن طفلٍ له، كيف يلمس أغصانها بعاطفة الأبوة، وكيف يحوّل تعب السنة كلها إلى قطرات زيت تحفظ هوية الأرض في زجاجة.

في الأردن، لا نزرع الزيتون فقط لنأكل منه، أو نصنع زيتًا نضعه على الطعام، بل نزرعه لأن الشجرة هي جزء من دمنا، لأن جذورها أعمق من حدود الدولة، ولأنها تقف شاهدة على صمودنا وبقائنا ونضال الأردنيين عبر التاريخ وحكايات الآباء والأجداد.
إن شجرة الزيتون هي أحد أشكال الثروة الوطنية التي قلّ أن تجد لها مثيلًا في العالم؛ فهي ليست فقط شجرة مثمرة، بل هي شجرة تصرّ على أن تكون جزءًا من حكاية هذا البلد وأهله ماضيه ومستقبله.

في كل بيوت الأردنيين، ستجد "قنينة" زيت زيتون توضع بحرص يشبه وضع الذهب، إنها ليست مجرد زيت، بل هوية تحفظها الأمهات في زوايا البيوت، كأنها حكاية مقدسة لا يجوز التفريط فيها، وعندما نتحدث عن الثروة الوطنية، يجب ألا نكتفي بذكر البوتاس والفوسفات، بل علينا أن نضع الزيتون في مقدمة القائمة، لأنه الثروة التي تصنع الإنسان قبل أن تصنع المال.

وزارة الزراعة، حين أقامت مهرجان الزيتون الوطني لدعم صغار المزارعين، لم تكن تدعم اقتصادًا فقط، بل كانت تدعم جزءًا من روح هذا الوطن، فعندما ترى النساء في هذا المعرض يعرضن منتجاتهن من الزيتون والزيت والصابون، تدرك أن الزيتون ليس مجرد عمل يومي، بل هو إرث يحمل في طياته قصة العائلة والقرية، وهوية الأرض التي نبت فيها.

النساء اللواتي يقطفن الزيتون بأيدٍ خضراء، يربطننا بتاريخ طويل، بتاريخ جداتنا اللواتي كن يغنين للأرض، وهن يقطفن بالهجيني والتراويد، كنّ يعتبرن هذا العمل مقدسًا، ليس لأنه مصدر رزق فحسب، بل لأنه جزء من الحب الصامت الذي تحمله الأرض لأهلها وعشق الفلاحين.

اليوم، الأردن يحقق اكتفاءً ذاتيًا من زيت الزيتون، وهذا إنجاز لا يعكس فقط العمل الدؤوب للمزارعين، بل يعكس أيضًا ارتباطنا بهذه الشجرة التي أصبحت جزءًا من هويتنا الوطنية، والطموحات بتصدير الزيت الأردني إلى الخليج وأوروبا ليست مجرد أرقام اقتصادية وعملة صعبة، بل هي رسالة من هذا الوطن الطاهر، الكبير بتاريخه، تقول للعالم إن الزيت الأردني يحمل طعم الأرض وشرف العمل ورائحة الأرض الأردنية المقدسة.

عندما تشتري "قنينة" زيت من صغار المزارعين، فأنت لا تدعم منتجًا فقط، بل تدعم حكاية وطن، فالزيتون هو الهوية التي لا يمكن أن تُمحى، هو الثروة التي لا تنضب، هو العَلَم الأخضر الذي يقف شامخًا في وجه العواصف كما مواقف الأردنيين.

في نهاية الأمر، عندما تذوق زيت الزيتون الأردني، تذوق تاريخًا طويلاً من الصبر والعمل، تذوق جبال عجلون والبلقاء وسهول مادبا ووديان الكرك، تذوق عرق الفلاح ودموع الجدات وفرح الأمهات وحكايات الصبايا والشباب في فرح القطاف. الزيتون ليس مجرد شجرة، إنه الأردن كله في غصن.